الاثنين ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم أديب قبلان

من ذكريات سيناء

لم يكن لدي تصور في يوم من الأيام أنني سأدون رحلتي إلى سيناء تلك التي شرعنا بها فور انتهاء اختباراتنا النظرية في عامنا الأول في كلية الطب، ولكن إصرارك أيها السائل دفعني لتدوينها لأرسلها لك في قالب من قوالب الكلام..

يومها كان الاقتراح للرحلة عفويًا، لم يسبقها تخطيط أبدًا، وإنما كانت – كما يسميها أبو بكر (صديقنا) – (فصلة) من فصلات الشباب الهائج في هذه الأيام.

لن أطيل عليك أخي السائل، جمعتنا محطة مترو الأنفاق في منطقة السيدة زينب، في منتصف فترة الظهيرة، حيث الحرارة العالية والرطوبة والزحام، واتجهنا محملين كل بحقيبته، باتجاه محطة المرج القديمة، والروائح تعطر مقصورة المترو، كلها تختلط سويًا، وتنطلق باتجاه الأنف مسرعة حاملة معها الكثير من الأحاسيس، أولها يشعرك بالقرف من رائحة العرق، ناهيك عن روائح الأحذية، والهواء المحبوس في مقصورة المترو ينادي بأعلى صوته (أخرجوني)!!.

وصلنا إلى المرج، ونزلنا، وقد كان الرأي بجعل عصام أميرًا لهذه الرحلة، والآن تنبهت إلى أنني لم أذكر الأفراد القائمين بهذه الرحلة، فهم العبد الفقير، وإياد السقا وعصام القداح (أبو بكر)، وزياد.

بعد تعيين السيد أمير الرحلة أبو بكر نظرًا لأنه فعلها قبلنا وكان الاقتراح له بإعادتها ولكن هذه المرة معنا، اتجهنا إلى (الكوبري) المرتفع الذي بدا لي أنه سقف لسوق خضار بل دواب بل والله لا أستطيع أن أصف ذلك المكان بشكل دقيق.

الأرض رملية لونها بني وهي مائلة للصلابة بعض الشيء، تحمل فوقها ما هب ودب من بائعي الخضروات والفواكه والعصائر، تحت كل دعامة من دعامات (الكوبري) تجد تاجرًا من تجار ألعاب الأطفال أو الحلويات البسيطة يحمل عدته على دراجته الهوائية ويصيح بكلمات لا نفهم منها والله شيئًا، تحركنا بين هذه الجموع الغفيرة من الباعة والمتجولين والقاصدين شؤون حياتهم، الكثير منهم شباب في سن المراهقة، كل منهم مشغول بأمره، وقد خيل إلي أننا تحركنا في طريق دائري، ومررنا بجانب عدة (بسطات) إلى أن وصلنا إلى مكان شبه مسفلت، وهناك كانت سيارات (الشبح) تنتظر من تقله إلى العريش في سيناء.

السيارة غنية عن الوصف، فأنت تعرف أخي السائل كيف هي (الشبح)!!، سيارة طويلة من فئة (المرسيدس)، بدا لي أنها تصنيع عام من الأعوام السالفة للخامس والثمانين بعد الألف وتسعمائة، يبدو على تلك السيارات الخرف والعجز، لكن وبينما أنا أفكر بهذا الشكل أتذكر فخر الصناعة الألمانية وهي (المرسيدس) فأقتل هذا الهاجس، وأتابع نظري إلى تلك الألوان المختلفة لهذه السيارات.

تتسع كل سيارة من تلك السيارات لتسعة ركاب، كل منهم يدفع عشرين جنيهًا، فكانت الخطوة التالية بالصعود وجلسنا أنا وإياد في المقعد الخلفي (الأكثر بعدًا عن السائق) وجلس عصام وزياد بجانب السائق، وليته ما كان هذا التقسيم.. تحول ظهر المقعد إلى صخرة كبير غير منتظمة الشكل، تحفر في ظهري أخدودًا عمقه أمتار، وعلى كل ارتفاع أو انخفاض أرى من الألم إثر ازدياد وتيرة الحفر ما يشيب لرؤيته الولدان، فكيف بمن جربه؟!، فعجبًا لأمر الناس!!، كيف لهم استطاعة أن يركبوا في هكذا سيارات، والله إن القلب ليحزن لما يحصل لصاحبه إثر عملية الحفر هذه!، هذا كله ولم أتحدث بعد عن الجزء الصغير من حزام الأمان (وفيها أيضًا حزام أمان!!)، فما أريد أن أبكيك أخي السائل على حال هذه الرحلة، ولكنني أريد أن اذكر لك ما وجدنا فيها من مرح.

توقفنا بعد الإسماعيلية أو قبلها، كان الوقوف لأجل الراحة، فالطريق طويلة ويحتاج لأن نرتاح بعض الشيء.

مما ميز الإسماعيلية علي هو شجرها الأخضر الكثيف، فكأن مزارعها جنان، يحفها حزام أخضر خضرة كثيفة، ومع كل هزة ريح تهف عليك رائحة أشجار المانجو المصري (وقد كان وقتها بداية موسمه)، ويطفح على قلبك من هوائها العليل حالة من النشوة، ويبدأ قلبك ينفطر لهذه الآلية الرائعة، مغنيًا سمفونية تجمع أوراق الربيع وتزج بها في القلب لتزيد من حماسته وغنائه!!.

انتهينا بعد معاناة كبيرة مع السائق، وانطلقنا نشق طريقنا باتجاه سيناء، وبالتحديد مدينة العريش، كان مما دفعني للقيام بهذه الرحلة مع هذه الجماعة العبقة من الشباب هو حلم راودني عندما كنت صغيرًا، قلبت صفحات الذكريات وعدت بهذا إلى حين كنت في الصف السادس الابتدائي، حينها كان وصف قناة السويس هائلاً، ومنذ وقتها كان لدي حلم بأن أراها، وفي حين طريقنا إلى سيناء كانت إحدى محطات مرورنا، فتهيأت وهيأت هاتفي النقال وعدسته لأصور ما كنت أحلم في صغري أن أراه، وها هو ذا من بعيد يطل علينا ذلك الجسر العملاق المعلق في السماء، ويحيينا بتحية رافعًا عوارضه إلى علو يبلغ عدة طوابق، وتلك الحبال الحديدية التي تمسكه بقوة وشراهة ليستطيع حمل مئات الآليات فوقه.

مررنا فوقه، وشاهدنا من فوق هذا الارتفاع قناة السويس العملاقة ذات العرض الهائل، تستطيع أن تمر من خلال عرضها أربع سفن عملاقة، ولا تنظر إلى ارتفاع الجسر فإنه يكفي لإمرار عدة سفن فوق بعضها البعض!!.

وهكذا إلى أن وصلنا إلى العريش بعد أن لملمت الشمس ثوبها وأسدل الليل ستاره، واشتعلت مصابيح النجوم والقمر، وللمرة الأولى أعرف أن القمر في سيناء مختلف عن القمر في القاهرة وكذلك النجوم والمجرات، وبدأت تنظر إلينا كلها أي أيها الغرباء من أنتم؟؟ ولماذا أتيتم إلى هنا؟؟، وإلى متى ستبقون؟؟..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى