السبت ٥ آذار (مارس) ٢٠٢٢
الجزء الأول
بقلم هيثم نافل والي

من رماد الذكريات

السذاجة وقلة الوعي هي الحالة التي أأسف عليها عندما كنا أطفال لا نفقهه من تعاليم الحياة غير ظلمتها، والأسباب كثيرة ليست محل ذكرياتنا الآن..

عندما كنت في الخامس الابتدائي أتمتع بالخجل الساحق الذي كان يدمرني دون البوح بأسراره حتى لأقرب الناس إلي كأمي مثلاً.. فوقعت في بركة من الأخطاء، لم أستطع الخروج منها إلا بخسائر غالية الثمن أحيانا، ورخيصة في أحيان أخرى نادرة!

وقتها كان لي حلم؛ أن يصبح لي قلم حبر أكتب فيه ما أشاء! كانت أمنية كبيرة لطفل في سني، وخجله يطغي على كل هواجسه، لم يخبر أحداً بتلك الأمنية الغالية التي يتوق لتحقيقها وفي يوم من أيام الدراسة عرض عليه زميل صفه صفقة مفادها بأن يبيع له قلم الحبر الذي يملكه لقاء ربع دينار عراقي أصلي مطبوع في سويسرا وليس في إيران!

قلبت الفكرة من كل اتجاهاتها، وجدت الصفقة رابحة، قلت أحدث نفسي بسرية تامة، سيتحقق حلمي الذي أطمح إليه أخيراً، دخلت معه بمساومات طويلة حول السعر، نسيت طبيعتي المعتاد عليها، استغربت من تصرفي لحظتها، كيف أستطيع التحدث معه حول السعر، وأنا لا أجرؤ النظر إليه أصلاً؟ اكتشفت فيما بعد، بأن الإنسان قابل للتأقلم والتكيف حسب ما يحدث له من تغيرات طارئة حتى ولو كانت لا تتناسب وحالته المتأصلة التي يعتقد بأنه لا يستطيع تجاوزها! لحظتها شعرت بأني تجاوزتها، فهل هي الأنانية وحب التملك، أم البراعة لإثبات الذات؟ لم أعرف بالضبط من تسمية لها!

أنا لا أملك مائه فلس في جيبي، فمن أين أأتي له بربع الدينار الذي يساومني عليه؟ دخلت معه في مفاوضات لم يكل صبري فيها ولم يفند، تفاجأت من قابليتي في التعامل، لم أتوقع أن تكون عندي هذه الصفة التي لم أتوقع بأني أحملها في يوم! وبعد مناورات دامت اليوم الدراسي بأكمله تم الاتفاق، وحصلت التسوية..

مائه فلس تدفع على مرحلتين..

كان انتصاراً على الذات. استطعت أن أتفاوض وأن أنجح في شراء القلم وإبرام العقد من صالحي رغم تحذيرات وتنبيهات زملائي في الصف بأني سأكون الخاسر الوحيد من هذه الصفقة غير المحسوب أمرها ولم انتبه أو أعير أي أهمية لأقولهم التي شعرت بأنها مجرد غيرة ماعز.

لم تمض ثلاثة أيام حتى كان قلم الحبر في يدي ألعب به.. أسحب طوافته، أرجعها إلى مكانها وحالتها الأولى، ثم أسحبها مرة أخرى، شعرت بسعادة لا توصف وهو بين أناملي، أخيراً صرخ داخلي بأنني أستطيع بعد اليوم أن أكتب بقلم حبر بعد طوال انتظار ومحنة معاناة..

السعادة كما نعرف لا تدوم طويلاً، فهي قصيرة كالحلم، وحياة الإنسان على الأرض، فما أن ملأته بالحبر وأردت أن أكتب به أنزلق الحبر مباشرة على يدي وكأنه جرح بمدية عميقاً في قلبه، سال الحبر بلا هوادة، تسرب من جوانب لا علم لي بها، حاولت أن أسيطر على مجرى الحبر المتدفق ولم تسعفني خبرتي، تلوحت، دخت، شعرت بالغثيان يأكلني، أحمرت أذني، تلونت شرايين رقبتي، أو هكذا أحسست لحظتها، الخجل استعمرني من جديد، استسلمت له دون إرادة، في حالات الضعف نتذكر الآلهة، صليت في قلبي، دعوت أن لا يحدث شيء يغير معالم حلمي الذي كنت سعيداً بتحقيقه، تلوثت الورقة التي كانت نائمة تحت يدي تنتظر تسويدها تلك التي كانت بيضاء عذراء لم يلطخها عبث الإنسان! شعرت حقيقة بالخزي، وربما بالعار، انطويت على نفسي وتسربلت في مشيتي نحو زميلي الذي باعني القلم وشرحت له حالتي، وأريته ورقتي الملطخة بسواد مغامرتي، فلم يكن متجاوباً معي، اكتفى بابتسامة باردة، شاردة رسمها علة شفتيه وقال متخابثاً على نحو يهوذا عندما خان المسيح وهو مقتنع بداخله بأن ما يفعله من أجل يسوع كي يظهر نبوته:

 لن أرجعه، ثم أردف بنبرة وجدها عدائية متحرشة: صرفت النقود ولم أعد أملكها..

صدمني الواقع الذي يخشاه الإنسان بالعادة، عرفت، بأني خسرت حلمي الذي دفعت لقائه ومن حر مالي الذي وفرته من صبري ودم قلبي دون رجعة!..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى