الاثنين ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

من صفحات التربيـــة والتعليـــم

كان من أحب اللعب إلي في طفولتي أن أدعو بعض أترابي ليجلسوا على صناديق الخضراوات، أو على صفائح متيسرة، وأقنعهم أن نلعب"لعبة المدرسة" فأكون معلمًا لهم....آتي بلوح خشب وطباشير وجرس، وآخذ في شرح هذا الدرس أو ذاك.

ومما أذكره أنني علمت مقطوعة من شعر أبي العتاهية كنت قد اطلعت عليها في كتاب ليس من كتبنا المدرسية، ومنها:

فلا تصحب أخا السوء وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى حليمًا حين آخاه

يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه

ولم يكن أحد منهم يسألني عن معنى"أردى حليمًا" والحمد لله، فقد كنا نكتفي بأن نلحن المقطوعة وفق أهوائنا.

ووجدت في "لعبة المدرسة" تعويضًا لي عن لعبة البنانير أو الحاب(الكورة) أو المبارزة(المجيدي)، فهذه كنت أشاهدها من بعيد، فلا بد إذن من فتح صف حتى ولو استجديت بعض الأصحاب أن يجلسوا على مقعد الدراسة، وقد حدث مرة أن أحدهم تمرد علي:"لماذا أنت المعلم ؟ أنا أريد أن أكون.....دوري ".

***

أنهيت الصف الثاني عشر في ثانوية الطيبة صيف 1959، ثم حصلت على شهادة البجروت(وكان الحصول عليها يكاد يكون متعذرًا)..... ثم رشحت نفسي للعمل في سلك التعليم .كانت دار المعلمين العربية قد فتحت أبوابها حديثًا في يافا، لكن ذلك لم يحل دون تعيين معلمين آخرين شريطة أن ينهوا الامتحانات الخارجية في التربية وعلم النفس حتى يتم تأهليهم ....وشريطة أن الأجهزة وافقت على تعيينهم .

وألفيت نفسي معلمًا احتياطيًا أو بديلاً للمعلم الغائب في بلدي، وهكذا جربت في يفاعتي تدريس معظم المواضيع.... ولكل الصفوف.

ولا أنكر أنني كنت أقع في مزالق وأخطاء، وما زلت أذكر تلك الكلمة الإنجليزية التي لم أعرف معناها، وتلك الجملة التي استغلقت علي......هذا طالب يشاغب ويلقي بطبشورة أمامي، وذاك يزمزم بأصوات يتبعها ضحك مكتوم..ورغم أنني كنت أعاني الأمرَّين فقد كنت أستمتع بهذه الوظيفة الاجتماعية المرموقة، فـأعود إلى بيتي وأحضّر دروسي جيدًا، وأستفتي بعض المعلمين القدامى عن مسائل معينة، وأتوجه إلى الطالب المشاكس لأبني معه علاقة شخصية إنسانية ليس فيها ضعف، وهكذا كنت أسوّي الأمور ......وأسعد بلقب"أستاذ".

حصلت على تعيين رسمي للعمل في مدرسة عسفيا للبنات في 1/2/1961م.
وكنت أولاً مربيًا للصف الثالث، أعلّم الموضوع الشامل.وقد ظننت أولاً أن الذي يعلّم جميع المواضيع لا شك بأنه معلم ممتاز، إلى أن نبّهني لاحقًًا مثقف أجنبي بضرورة التركز على موضوع واحد، والتقدم فيه حتى"تكون عنوانًا معروفًا به".

كنت في عسفيا أبني علاقات اجتماعية لم يكن لي بها سابق عهد، فهنا دروز ومسيحيون، ونحن في المثلث لا نكاد نتصل بأبناء المذاهب الأخرى، أو على الأصح قلما اتصلنا بهم آنذاك.

وتوطدت علاقاتي إلى درجة أنني كنت أحمل دفترًا صغيرًا أدوّن فيه الدعوات المتواصلة من غداء إلى عشاء(فأين هذا اليوم؟!).

بعد سبعة أشهر جميلة نقلتني الوزارة إلى المدرسة المشتركة - وادي القصب خور صقر(في وادي عارة)، فكنت مع مدير المدرسة أحمد خواجة ثاني اثنين، فعهد إلي بتربية الصف المشترك (البستان والأول)، وعليــه كنت "معلم الروضة" في المدرسة، ولذا لبَّيت دعوات المفتشة لاجتماعات المربيات، وكان حضوري يثير الابتسامات أو الدهشة أو الحسد أو الشماتة.

اقترح علي المدير أن أرافقه لإقناع طفل كبير من قرية البيار القريبة بأن يحضر إلى المدرسة، فقد تمرد وبدا كأنه غير أليف.استطعنا بكل وسائل التحايل والتحبب أن نقنع الصبي بالقدوم إلى المدرسة.(وكبر الصبي، وأصبح أكاديميًا يعلّم الرياضيات في إحدى ثانوياتنا).

كنا نتوجه إلى المدرسة البعيدة عن الشارع العام ثلاثة كيلومترات تقريبًا، فنترجل، ولا بد من أن نتسلح باللباس الثقيل في الشتاء وبالسوقاء (الجزمة) لخوض لجة الوادي الذي كان يغمر الأرض بالمياه بعد كل مطر.

أما العلاقات الاجتماعية في القرية فكانت على أحسن ما تكون من الثقة والإعزاز، فكنا نُدعَى لقراءة المولد النبوي، وبالطبع فالمدير هو القارئ المرتِّل، كما كنا نحل مشكلات محلية، أو نصلح ذات البين هنا أو هناك.

وتركنا المدرسة بعد أن غرسنا أرضها بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة، وما زالت هذه الأشجار تداعب الرياح وتداعبها.

* * *

مع ابتداء صيف 1963م قررت أن أتوجه إلى الجامعة العبرية لإكمال تحصيلي العلمي، فلا بد مما ليس منه بد.

وقفت على تلة تشرف على القرية، وودعتها بمقولة هرقل يوم أن ودع دمشق(وشتان بين السببين) وقلت:"وداعا يا وادي القصب..لن أعود إليك معلمًا بعد اليوم".

ويبدو أن القدر ساق قراره هو الآخر، فقد تم نقلي إلى مدرسة باقة الغربية الابتدائية، فسلمت بالأمر خشية أن يتعذر علي ذلك في المستقبل، فأجلت الدراسة الأكاديمية إلى أجل غير مسمّى.

عرض المدير الجديد علي أن أعلم الصف الأول، بدعوى أنه يعهد بالصف الأول إلى المعلمين الممتازين حرصًا على تنشئة الطلاب بصورة صحيحة.كنت أعرف أنها ذريعة وحسن تخلص، ولكن ما العمل؟ لنعلّم الصف الأول!.

كان المدير يقسم طلاب الصف الأول إلى قسمين- الأول فيه أبناء "المحسوبين" عليه، والثاني أبناء الناس الذين ليس لهم خصوصية معينة.فكان يعهد إلى بالقسم الثاني، حتى رفعت مرة صوتي محتجًا : "الآن هؤلاء ليسوا أبناء ذوات تعاملونهم معاملة أخرى؟؟؟!".

وظل التعبير"أبناء الذوات" على ألسِنة المعلمين في مزاحهم.

ومع ذلك فقد اشتركت أنا ومعلم خاص بـ " أبناء الذوات" في إعداد كراسات تعليمية، وحررنا مجلة للصف الأول، بل كنا نتنافس تنافسًا بناءً حول مَن مِن طلابنا يستطيع أن يقرأ في الصحيفة؟ أية نسبة إملاء أعلى في صفي أم في صفك؟

وأيقنت أن كل تعليم لا بد فيه من منافسة إيجابية، وأذكر أن طلابي في الصف الأول كانوا يصرّفون الجملة بضمائر الغيبة، نحو:"هذا هو الرجل الذي كان عندنا".
بل كنت أعلّمهم حروف الجر وحركة الاسم المجرور بعدها، كما أعلمهم مقطوعات شعرية مختارة.

وعلّمت كذلك اللغة الإنجليزية للصف الثامن، فاخترت طريقة الترجمة، لأعطي الجملة العربية ليترجمها الطالب إلى الإنجليزية.وما زلت مقتنعًا أن هذه هي أفضل طريقة لتعلم أية لغة .(وقد ثبت لي ولبعض طلابي ذلك وبشهادتهم).

واتفق أن كان بين زملائي في المدرسة نخبة من عشاق الأدب - أذكر منهم الأساتذة – أحمد غنايم، لطفي منصور، شاكر جبارة، المرحوم حسن سمارة..وكنا نناقش بعضنا البعض في تفسير بيت ما أو في إعراب كلمة ما.... أو استخراج معنى معين .

الأمر الذي كان يحفز فينا المطالعة والدرس والتنقيب وحب الظهور.... وأحيانًا بل كثيرًا المشادة.

وكانت مدارسنا –عادة- تحتفل بعيد الاستقلال كل سنة، فتزين الصفوف، وترفع الأعلام، وتُلقَى الكلمات، وينصرف الطلاب والمعلمون مبكرين - ولعل هذا يكفي بالذات لأن يكون سبب فرحة.

كنت من الذين يتذمرون، بل رفضت أن أزين صفي، وأذكر أنني هجوت زميلاً لأنه قال قصيدة في عيد الاستقلال، فقلت له سنة 1967م:

يا أقل الناس معنى معتنى

لا تقل في الشعر قولاً مُذعنا

يا لسخفٍ صاغه مستشعرٌ

كله سخفٌ وما فيه الجنى

وهذه الروح الوطنية التي كانت كامنة في نفوسنا أخذت تتقد بعد حكاية ما جرى سنة سبع وستين.......

فإذا سَجن الجيش إمام المسجد الأقصى لأنه خطب وذكر في خطبته:"عيد بأية حال عدت يا عيد" فإن أول قصيدة محفوظات علمتها يومها هي هذه القصيدة للمتنبي .

ثم أخذت أختار لهم قصائد أذكر منها :"لو كنت من مازن" لقُريط بن أُنَيف و "أبلغ إيادًا.." للـَقيط بن يُعمُر و "أبت لي عفتي" لعمرو بن الإِطْنابة و "أقول لها .." لقَطَري بن الفُجاءة. (العجيب أن بعض طلابي عندما التقيهم الآن يعيدونها على مسامعي مزهوين .... مع أني نسيت أكثرها).

***

لم يكن لي ميسورًا أن أعلّم في المدرسة الثانوية .فقد كنت أُجابَه بمعارضة سواء من وزارة المعارف أو من المجلس المحلي، بحجة أنني لا أحمل شهادة جامعية.وكنت أتضايق إذ أجد الآخرين ممن لا يحملون الشهادة ولا يحسنون العربية يعلّمون.فبعضهم كان قد ارتاد الجامعة اسميًا، فقلت يومها متذمرًا وساخرً ا:

اذهب إلى القدس صيِّفْ للمداراة

ان كنت تنشد فرع الثانويات

يكفيك من قشرة في العلم تلحسها

واللب.ما اللب؟محشو تفاهات

ما أنت أول أستاذ أخي جهل

ما كان يعرف ترتيب العبارات

في قصة الطبل ضخم الصوت معتبر هل حصل الكلب شحمًا في المعاناة

لذا فلا بد من أن ألتحق بالجامعة.

ومع أني حصلت على شهادة B.A، والتحقت لدراسة الماجستير في الأدب العربي، فقد كان صعبًا علي أن الج هذا العالم السحري.

قيض الله لي رئيسًا للمجلس المحلي - متنورًا هو الأستاذ محمود بيادسة، وقد أصر على دخولي الثانوية للتدريس فيها، وذلك في 1/9/1974م، ومع ذلك فقد كانت هناك عقبات وعراقيل، ولم يُسوَّ الأمر إلا بعد وفاة زميل آخر..... فشغرت الوظيفة.

عرفت يومها أن الإخلاص والمعرفة لا يكفيان، بل يجب أن يكون لك سند أو ظهر، هو الذي يأخذ بيدك للمكافآت والوظائف والاستقرار.

كنت خلال عملي عرضة لاتهامات هذا الرئيس أو ذاك (فقد كان الرؤساء يتغيرون تباعًا حسب الائتلاف القائم، وما أكثر الانقلابات أيامها)، فهذا رئيس يطلب من المفتش أمامي أن يفصلني، لأنني دعوت إلى إضراب بسبب تأخير الرواتب – وبسبب كوني عضوًا في لجنة المعلمين. وهذا قائم بأعمال الرئيس يدعم مفتشًا آخر هددني بالفصل – لأنني سأسافر خلال الأيام الدراسية إلى ألمانيا – بدعوة من نقابة المعلمين – وكنت قد قزمت محاولات هذا المفتش، وما جرؤت على ذلك لولا أنني كنت أعرف موافقة المعارف الرسمية على ذلك.

عندما تسلم الأستاذ جميل غنايم إدارة المدرسة الثانوية كنت مساعدًا له، وتصديت معه لكل محاولات فصله (تبعا لانقلابات المجلس) ....كنت أقول:جميل أولاً وأنا ثانيًا.
وكان هذا الشعار / الموقف يضايق الكثيرين، فقد اعتادوا أن يطالب الإنسان لنفسه أولاً ...أما أن يطالب لآخر .... فهذا هو وجه العجب؟!

انتخب أحد أبناء عائلتي رئيسًا للمجلس المحلي، وقد شاء قريبي أن يعين مديرًا آخر بدلاً من جميل، فوقفت ضد هذا القرار رغم كل محاولات الإغراء بالمنصب (نائب مدير) أو بالساعات (تخفيض ساعات العمل الفعلية).

عين المدير الجديد، لكني أصررت وبدعم نقابي أن نواصل معارضتنا للجديد، ففي اليوم الدراسي الأول 1/9/1980م كان ثمة برنامجان دراسيان – برنامج أعده الجديد، وآخر أعددته أنا، فكان يدخل الصف كل حصة معلمان، فيحدث أن يتنازل الواحد منهما للآخر، وقد يحدث أن يكون هناك شبه مشادة كلامية على مسمع الطلاب ومرآهم.

على إثر ذلك اتصلت بمكتب المعارف في القدس لأخبرهم عن هذا الوضع المضحك المبكي، لكنهم أجابوني بحدة:"لا يعنيك ولا تتدخل !!".

أحسست أن هناك من يكيد لمدرستنا، وكان العراك على وشك أن يقع يوميًا لولا أن صدر قرار محكمة العمل يحظر على المديرَين أن يديرا المدرسة..... إلى أن تبتّ المحكمة نهائيًا، وقد كُلف مدير مدرسة ابتدائية أن يضع البرنامج ويشرف على المدرسة الثانوية.
واظب المدير المكلف بضعة أيام، لكنه كان مشغولاً بأمور أخرى، فقلت في نفسي: أمامك حكمة من التلمود فاستثمرها- "إذا لم يكن هناك رجل فحاول أن تكون".

اتفقت مع الزملاء – باستثناء ثلاثة منهم – على أن أكون أنا الذي يضع البرنامج ويدير المدرسة. وهكذا عينت نفسي مديرًا طيلة ثلاثة أشهر، عملت فيها تطوعًا، بدون أجر أو ساعات أو اعتراف رسمي.وبدا الأمر وكأنني سأستمر في عملي مديرًا.

دعاني الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف آنذاك للقاء معه.قال:

"أود أولاً أن أحييك........ومع ذلك فأنا أقول لك إنك مجنون، أحييك لأنك قدت وتقود سفينة في بحر عاصف، ومجنون لأنك تفعل ذلك بدون أية مكافأة أو اعتراف.."

سُوِّي الأمر بين المديرين في المحكمة، فالسابق عين مديرًا تربويًا، واللاحق مديرًا إداريًا .ورغم أني دعوت كليهما إلى غداء مطهم للمصالحة بينهما إلا أنني خرجت من كل هذه المعمعة بلا حمد يذكر، أو كما يقولون:".. من المولد بلا حمص".

علمتني هذه التجربة القصيرة أن هناك من المعلمين من يدّعي الإخلاص، ولكنه لم يكن يفكر إلا في آخر الشهر، وفي الخصم الذي كان، وأن هناك من يتذرع لكي يتغيب، و هناك من يستعلي على طلابه – ويا أرض اهتزي – وهناك من يرى أن مجرد التحضير للدرس هو جريمة منكرة، فهو أستاذ الأساتذة!!!

كادت هذه التجربة القصيرة أن تودي بي، ففي يوم توزيع الشهادات حدثت فوضى لا مثيل لها بين الطلاب، وكان المعلمون حاضرين غائبين، وألفيت نفسي وحيدًا أصول وأجول، إلى أن شعرت بدوار شديد، فأمسكت بالجدار خوفًا من السقوط. أدركني معلم الرياضة وهدأني وهو يقول:"وهل أنت تصلح ما أُفسد؟! كن مثلنا، وراقب من بعيد، وأرح أعصابك ....!!!".

***

في سنة 1978 بدأت أنشر في مجلة "صدى التربية" حلقات تحت عنوان"أستاذ قد الدنيا" وهي لوحات أدبية ساخرة تتناول تدريس المواضيع المختلفة، وأنهيتها بمذكرات معلم، المدير يتحدث، المفتش..، مدير المعارف(وهذه الحلقة الأخيرة لم تنشرها المجلة).

وقد جمعت هذه الحلقات بين دفتي كتاب"أستاذ قد الدنيا" الصادر عن مطبعة كفر قاسم سنة 1979، وقلت في تصدير الحلقات:

"أرمي من وراء هذه الحلقات إصلاح أنفسنا، فمن يقصّر فينا فعليه أن يعتبر، ولنكن صرحاء ونقول:ما من أحد يمنع المخلص أن يعمل، إذن لماذا نهمل ولا نفتأ نتهم، وقبل أن يسيء فهمي أحد أؤكد أن كل الجهات بما فيها وزارة المعارف مقصرة، وقد أشرت إلى ذلك في أكثر من مقال".

وقراءة في هذا الكتاب بلوحاته الكاريكاتيرية(من رسم عمر سمور- طولكرم) تنبئك عن وضع التعليم العربي في إسرائيل.كنت أتناول موضوع تعليم الرسم مثلا، فأقرأ في المصادر كيف يجب أن يكون، ثم أركز هذه المعرفة والثقافة التربوية على لسان معلم الرسم لدينا، فأجعله يسخر ويستهزئ بما يجب أن يكون أصلاً .......فهو يحبذ خلاف ذلك: أن يجلس إلى طاولته ويستريح، ويطلب من الصغار أن يرسموا رسومًا حرة.

وقس على ذلك في سائر المواضيع.

ومن مثل هذه السخرية المرة كتبت في موضع آخر:

"* مدارسنا كالمدارس اليهودية مزودة بالمختبرات والمكتبات والأبنية اللائقة.

*مدارسنا تعمر بالتعليم اللامنهجي، وفيها الخدمات السيكلوجية والاستشارة التربوية.

*المعلمون لدينا يُنقلون ويعينون حسب أصول عادلة وصالحة، ولا دخل في ذلك للمحسوبية، كما لا تتدخل مؤسسات وأشخاص لا علاقة لهم بالمعلمين في تثبيت أو تعيين أو فصل أو نقل .

• الرجل المناسب دائمًا في المكان المناسب، لذا لا تجد أشباه أميين وأنصاف مثقفين في إدارة المدارس...الخ".

وأظن أن هذا الكتاب الفريد في بابه يعكس إلى حد بعيد مآسي التعليم العربي سابقًا ولاحقًا، ونحن بحاجة إلى إعادة طبع بسبب جرأته، أو بالكتابة على منواله بصورة أو بأخرى، وحبذا إضافة هذين البيتين اللذين عرفتهما بعد صدور الكتاب:

ما رأى شاعرنا بعلم معلم

جعل الحجاز تحده أنغولا

وبأن فعل الأمر من يرجو رجا

وتعال في الماضي يقول تعيلا

أما علاقاتي مع المعلمين فكانت غالبًا ودية، أنفتح على الآراء مهما اختلفت، وما أفكر به أقوله دون تردد، لذا كنت أحيانًا أصطدم بمناكفات ومشادات كانت تؤلمني جدًا.
ومع ذلك قلت لنفسي – لن أنشغل بهذه الخلافات العابرة، لأمض، سيكون ردي على من لا أعجبه..... تقدمي العلمي والأدبي، وها هي كتبي تنشر ومقالاتي تظهر.......لن أتضايق من هذا المعلم الذي يصر على أن يحصل على نفس حقوقي في البرنامج الدراسي – رغم أنه لا يحمل أية شهادة، ولن أغضب لأن ذاك المعلم احتج لأنني أنصرف مبكرًا لمواصلة تحصيلي العلمي .

وكم من مرة جابهوني بموقف موحد وبقيت في حكم الأقلية – رغم أنه ثبت لهم أني على حق.

وثمة مرارة في نفسي أطعمها حين أتذكر أنني عندما تقاعدت وأنهيت العمل في المدرسة الثانوية – المدرسة التي أعطيتها الكثير جهدًا وبناء – عندها لم ير أحد ضرورة لتكريم أو ثناء .....

***

أما علاقاتي مع الطلاب فهي خلاف ذلك. كانت علاقة محبة وإعزاز.
كنت أحس بحبهم وحب ذويهم، فهم يعرفون مدى حرصي على فلذات أكبادهم، وكم أنا متحمس للموضوع الذي أعلمـه، بل كنت أتبادل الزيارات معهم.

عندما أنهيت عملي الرسمي في المدرسة الثانوية سنة 1991 دعوت طلاب صفي إلى قيسارية للقيام برحلة، فكانت الرحلة بتكاليفها، بل بالشواء والشراب فيها، على حسابي.

فاجأني الطلاب يومها بتقديم مغلف كتبوا فيه انطباعاتهم الرقيقة لتي احتفظت بها، وستظل مصدر اعتزاز لمعلم أحب طلابه وأحبوه، فقد كتبوا على الغلاف:"إلى بابا فاروق" ولا أدري لماذا تطفر دمعة حين أتذكر ذلك.

إن حبي لطلابي عميق في نفسي، فقد حدث ذات مرة أن رسب أكثر طلاب صفي في امتحانات الثوامن (كان هذا الامتحان يجري لدعم خريجي الصف الثامن اقتصاديًا - لدى التحاقهم بالمدرسة الثانوية).أحسست أن طلابي مغبونون لسبب أو لآخر، وشعرت أنني أنا الذي رسبت، فكتبت قصيدة"خيبة وأمل" وقلت فيها:

منارتي مخمودة الأعطاف

مرارتي يهمي بها

وقع السواد في الشغاف

مذ أخبروني أنني بلا قطاف

بمثل هذه العاطفة الذاتية أمضي قائلا:

يا أيها الصغار

يا أيها الأزهار

لا ضير إن كان الجفاف

لا بد أن ُيزجى الرواء

(نشرت في مجموعتي الأولى:"في انتظار القطار" – 1971)

ولا شك أن مجموعة "إلى الآفاق" المعدة للطلاب وللصغار فيها قصائد عن الطالب

– هو الطالب الذي أطمح في أن يكون في مجتمعنا – وعن المعلم – ويبدو لي - اليوم - أنني كنت أصف نفسي فيها- :

وظلت شمعة كبرى

تضيء لنا وتحترق

نساجلها تفانيها

فيسطع ضوءها الألق

يحدثنا بأن الخير كــــل

الخير في الانسان

وأن العقل منفتح

إلى التجديد والإيمان

ويدعونا إلى رفض

لكل مسارب الظلم

يحب العدل خفاقًا

ويعلي راية السلم

وسلَّمنا يصعــِّدنا

إلى الآفاق ننطلق

نعانق قمة الدني

بأيد نبضها يثق

(هذه القصيدة لُحنت وعُلمت في المدارس العربية – ضمن دروس الموسيقى)

كنت مقتنعًا بضرورة تعليم الطلاب على أسس ديمقراطية فيها الاحترام المتبادل، أدير حصة التربية بحماسة، وأحفز الطلاب على إبداء الرأي واحترام الرأي الآخر.كانت حصة التربية غالبًا حصة متعة وإثراء.وكانت الرحلة التي أقوم بها مع طلابي مدروسة جيدًا تاريخًا وجغرافية، وقد وصلت في الديمقراطية إلى دعوة الطلاب أن ينادوني دون لقب "أستاذ"، وألا يقفوا لي احترامًا عند دخولي الصف، ولكن ذلك لم يستمر بسبب الظروف والجو الذي كان يفرض العودة إلى تقاليدنا التربوية.

ولن أختم هذا الحديث دون أن أذكر أنني كنت متهمًا بمحاباة الطالبات والتودد إليهن، وبالطبع فهذا فيه شيء من الصحة، لأنني بطبعي نصير للعنصر الضعيف في المجتمع، سواء أكان ذلك طالبًا فقيرًا أو طالبًا يتألب علية زملاؤه (ربما لأنني كنت كذلك في صغري)، وكنت أحس عميقًا بمدى اضطهاد المرأة في مجتمعنا، فكنت أقف إلى جانبها، ولا أنكر أن للجمال أثرًا يحتم مناصرتها، وهل الشاعر فيَّ يستطيع أن يعتم على ذلك، أو يعتم الضوء أيًا كان، ولكن ذلك لن يكون على حساب أي حق لطالب.......فالحق حق.

***

في أواخر سني عملي في المدرسة الثانوية كُلفت بأن أكون عضوًا في أكثر من لجنة ضمن مناهج اللغة العربية، فكان صديقي الأستاذ محمود أبو فنة يعهد إلي بنشاطات لغوية وأدبية، فمن محاضرة هنا إلى يوم دراسي هناك، وشهادة حق أنه دؤوب وجاد، وليس لي وراء هذه الشهادة أي هوى.

كنت من المـتحمسين والفعالين في لجنة اختيار النصوص الأدبية في أوائل الثمانينيات، وكان لي أثر بإدخال الشعر الحديث إلى مدارسنا.ويشهد تحليلي للنصوص الأدبية من شعر ونثر على مدى حرصي على استقاء المصادر والدراسات الملائمة التي ترفد موضوعنا.ومن حقي على نفسي أن أقص كيف استقبل الزملاء صدور كتابي"الجنى في الشعر الحديث" و "الجنى في النثر الحديث" ولأسق مثلاً واحدًا:

دعاني الأستاذ أسامة محاميد مركز اللغة العربية في ثانوية أم الفحم، وقال لي بحضور معلمي العربية في المدرسة:"يا أستاذ لقد علّمنا الشعر الحديث في السنة الماضية.... فكنا بحالة أشبه بمتاهة، وبصراحة أحسسنا أننا لم نأكل لقمة عيشنا حلالاً..... أما هذه السنة فنحن مع كتابك نشعر بالاطمئنان.هو يضيء لنا، يعطينا مفاتيح، ويمكننا من أن نستقل في شروحنا، فباسمي واسم زملائي نقول لك شكرًا جزيلاً".

وظلت هذه اللقطة ومثيلاتها راسخة في ذهني، لأن بها عرفانًا، وتعترف لي بالتعب والمعاناة، وهذا مما يسرّي على النفس، ويزيل لغب المتطاولين المتجنين الذين رددوا أن الجنى "جناية" سامحهم الله، ولا يغريهم بذلك سوى الجناس....وظل الكتابان أو مكثا في الأرض...

وكان الأستاذ أبو فنة قد رحب بالكتابين عند صدورهما، ودعاني أمام المعلمين وكنا نصحح دفاتر البجروت-لأقول كلمة عنهما، فكان ذلك تشجيعًا، غير أن الذين تحفظوا –وللحق- تحفظوا من اعتماد بعضهم على التلقين المجرد، والتقيد الحرفي بمادة الكتاب، لكنهم كانوا يشجعون على دراسة الكتابين والاستعانة بهما في حل الوظائف البيتية.

دُعيت مرة إلى يوم دراسي لمناقشة أساليب تدريس النصوص، وكان الأستاذ كوبيليفيتش مدير المعارف حاضرًا. وعندما تحدثت في كلمتي أوليت اهتمامًا بالغًا للإلقاء والأداء، وألقيت نماذج شعرية على مسامع الحضور... مما يوجب التماثل بين المعنى والإيقاع المطلوب.

سأل مدير المعارف مستهجنًا:

فاروق، هل حقًا تريد أن يتعلم طلابك بهذه الطريقة التمثيلية؟!

قلت: يصعب عليك – أن تستوعب ذلك، لأن الشعر العربي مرتبط بوتائر الدم صعودًا وهبوطًا، ونحن ما زلنا نحس بالشعر يسري في عروقنا.

قال:رغم الإساءة لي فأنا أقبل رأيك، تابع حديثك!
أخذت العلاقة تتوطد مع التفتيش(رغم استفزازات بعضهم لحضور دروس لي من قبيل الكيد ليس إلا)، وكُلفت بإعداد كراس عن ابن سينا، بل عهد إلي بدءًا من التسعينيات أن أكون عضوًا فعالاً في أكثر من لجنة، وإليك بعضها:

  لجنة منهاج قواعد اللغة العربية للمرحلة الإعدادية والثانوية – برئاسة د.فهد أبو خضرة. وهنا تحمست جدًا لطريقة الفصل بين المرحلتين( حيث في الإعدادية – تعليم المادة من الناحية الوظيفية، وفي الثانوية – الإعراب وبشكل مكثف) وبقيت مدافعًا متحمسًا عن الكتب الجديدة التي أعددناها(الجديد في قواعد اللغة العربية)، ومع أن الكتب لم تحظ حتى وقت متأخر بمرشد للمعلم، ولم تحظ أصلاً بإرشاد فعلي في الحقل، ولم تكن هناك متابعة جريًا على ما يتم بُعيد كل منهج جديد، إلا أن أصداء هذه الكتب الإيجابية تزداد يومًا بعد يوم .

  اللجنة العليا للغة العربية – برئاسة د.سليمان جبران، وفيها نتدارس البديل للدخيل، وقد أصدرنا كتابين من – "المنهل في المصطلحات المعاصرة".

  لجنة الحضارة والتراث العربي ... ولا أدري إن كان سيصدر هذا المنهاج الذي عكفنا على إعداده خلال أربع سنوات.

  لجنة التراث لرياض الأطفال برئاسة السيدة سنية أبو رقبة.

  لجنة اختيار النصوص الأدبية للمنهاج الجديد المرتقب.

  لجنة إعداد المرشد لتدريس قواعد اللغة، وقد أصدرنا المرشد.

  لجنة اختيار مواد أساسيات اللغة العربية لطلاب كليات دور المعلمين العربية وغيرها، وقد أصدرنا ثلاثة كتب للطلاب .

  لجنة لإعداد فصول في تدريس اللغة العربية والتعبير – برئاسة د.نمر سمير (أصدرنا كتابا في ذلك).

وقد أفدت جدًا من هذه اللجان:

أولاً – بأن تعرفت إلى أساتذة مرموقين.... وهم متميزون في مواضيع اختصاصهم، فكانت المعلومة الواحدة تتلقفها نقاشات مثمرة، وقد عرفت أن ليست معلوماتي بالضرورة هي الصحيحة.

وثانيًا – لأنني كنت مقتنعًا جدًا بالعمل الفردي، فإذا بي أشارك فردًا ضمن العمل الجماعي أو عمل المجموعة، ومعنى ذلك أن أفكر وأقدر قبل أن أدلي بدلوي، وأن أبحث وأنقب وأدقق مصداقًا لقوله تعالى:"وقل ربي زدني علما".

وثالثًا – هذه الصداقات الحقيقية بيننا، وهي المبنية على أسس طيبة تدور في عالم العلم والأدب، وتحلق بعيدًا عن فلك المادية المحضة.

وأخيرًا لا بد من الاعتراف بفضل السيدة خولة السعدي التي عملت سنينًا طويلة مديرة قسم المناهج العربية، ولم تكن تني عن تحفيزي على المشاركة الفعالة، بل كانت تعهد إلي كثيرًا بمراجعة لغوية أو تدقيق لغوي لهذا الكتاب أو ذاك.

إذن ها هي ثقتي بنفسي تجد لها متنفسًا، فإذا قصّر حظي عن أن أكون مديرًا أو مفتشًا بل مركزًا للغة العربية في مدرستي، فها هي مؤلفاتي بين أيدي الطلاب، وها هي نشاطاتي تؤتي أُكلها سواء في اللجان المختلفة، أو بمئات المحاضرات التي أقدمها للطلاب والمعلمين العرب في مختلف أنحاء البلاد. ( جدير أن أذكر في هذا السياق أنني كنت مرشدًا لسنة واحدة في موضوع كتابة الأبحاث، ومرشدًا في سنة أخرى لإعداد نصوص عن التراث المحلي لرياض الأطفال).

***

وما زالت علاقاتي مع التربية والتعليم في أوجها. وها أنا اليوم أحاضر في كلية القاسمي - حيث رأست قسم اللغة العربية ثم مركز اللغة العربية، وفي الكلية العربية للتربية في حيفا. إضافة إلى محاضراتي في الجامعات ضمن استكمالات المعلمين.....ولكم أحس بهذه المودة وهذا الاعتزاز بيني وبين طلابي، وأحس بمدى تعلقي بمادتي التي أدرسها، وكذلك بمدى عشقي لهذه المهنة – المعلم – وتبقى صفة "المربي" من أجمل ما أعتز به حقًا وصدقًا.

ويحضرني الآن دعاء كانت والدتي تكرره دائمًا: " اللهم أسألك العفو والعافية".

فأنا هنا أنشد العفو إن كنت قد قصرت، وأرجو أن تظل عافيتي لي ما أمكن ذلك – حتى أستمر على درب العطاء. ومن يدري فقد أعود ثانية للكتابة عن هذه الفترة – العمل في دور المعلمين – وذلك بعد تقاعدي النهائي عن العمل.

لقد تقاعدت عن عملي في الثانوية، فزاد نشاطي في الكليات، وها هي أربعة عقود تمضي، وأمضي في رحلة العمر.

ولكم أخشى من توهج شمعة!.

ملحق أمني لا بد منه:

لا بد من تناول الموضوع الأمني فيما يتعلق بسيرتي شخصيًا، فلعل ذلك يعكس بعض ما مر على الوسط العربي عامة.

لا أنكر أن كل تعيين لوظيفة رسمية يجب أن يمر عبر الدوائر الرسمية، ولا بد من موافقة أمنية، فهذا أمر لا مشاحّة فيه، ولكني لم أكن أعرف مدى حولهم وطولهم إلا بعد اللقطات التالية:

  عندما انتخب قريبي رئيسًا للمجلس المحلي في أواخر السبعينيات كنت أجلس في ساحة منزله، فإذا بشخص غريب مريب يحمل حقيبة سوداء ويلبس نظارة بيضاء. طلب هذا أن يختلي بالرئيس، وبعد ساعة خرج مودعًا "شالوم شالوم".
سألت الرئيس: ومن يكون هذا؟

قال: هذا من جهاز الأمن. حضر خصيصًا ليحذرني من تعيينك مديرًا أو مسؤولاً في لمدرسة الثانوية.

قلت في نفسي: "لعل الرئيس يبحث عن ذريعة لإبعادي عن الوظيفة، لا بأس"...... ولم أصدّق قريبي إلا يوم أن كان يهاتف الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف – ويقول له على مسمع مني: "أعطينا فاروق ساعات لنيابة الإدارة"، وقبل أن يجيب حيدر قدم لي الرئيس السماعة لأسمع بنفسي الجواب.

كان صوت حيدر يداعب الرئيس بقسوة: "ألا تعرف أن الأمر ليس بيدي ولا يدك...... ضب حالك واسكت".

سمعت ذلك، وناولت السماعة على التو للرئيس ليواصل مكالمته.

سألني الرئيس فيما بعد: وماذا قال لك ؟

قلت ماكرًا : قال " لا مانع عندي، وأنا أشجع ذلك " .

قال منكرًا: بلا دواوين.

وقبيل انتهاء فترة رئاسة قريبي عينني نائبًا للمدير، قدّم لي رسالة التعيين وهو يقول لي: " لن يهمني أحد" - قال ذلك وكأنه يجابه شخصًا معينًا، ثم أردف:

"سيأتي الرئيس الجديد المنتخب، وسيكون أول عمل يقوم به هو فصلك عن نيابة الإدارة، لأنه سيُطلب منه ذلك" .......وهكذا كان.

  في أوائل السبعينيات استدعاني مرة موظف جديد في وزارة المعارف يدعى م.غولن. طلب مني الحضور إلى نتانيا لمقابلته في أمر هام. خلت أن الأمر حقًًا يتعلق بالنشاطات التربوية والتعليمية، فحملت الأمر على محمل الجد، وتيمنت خيرًا وسافرت.

أخذ هذا يحقق معي وسأل بحدة: لماذا تتطرق إلى السياسة في دروسك؟

  ولماذا تسألني ؟ ومن أنت؟

  أنا من الأمن وأعمل مباشرة مع مدير المعارف، ويهمنا أن يخلص المعلم في عمله ويبتعد عن السياسة، وإلا فإننا سنوقفه عن العمل.

  ظننت أنك استدعيتني لأمر تربوي، فإذا بك تخيب أملي، خسارة.....!

  هذا هو الأمر التربوي الأول والأخير.

  أنا آسف لحضوري، بل إني أطلب منك أن تدفعوا لي أجرة يوم العمل وأجرة الطريق. لقد خسرت يومًا. وأدرت له ظهري. (فيما بعد تبين لي أنه كان قد استدعى الكاتب محمد علي طه وغيره، وقد لاقى منهم موقفًا حادًا وجادًا بيّن له أننا شببنا عن الطوق).

  في إحدى المسابقات حول الوظائف الشاغرة تقدمت بترشيح نفسي للعمل مديرًا للمدرسة الثانوية – وقد كان هذا حلمي-، وبينما كنت أنتظر مدير المعارف كوبيليفيتش.....وأنا جالس أمام مكتبه وراء عمود يحجبه عني، فإذا بي أسمع حوارًا بين مدير المعارف ومندوب منظمة المعلمين الثانويين – طاليب.

قال طاليب: لنفسح المجال لفاروق، فأجابه مدير المعارف: مستحيل. إن له ملفًا ضخمًا يحول دون ذلك. فقال طاليب ( وهو من العفولة وكان يعرفني جيدًا) :

أنا لا أعرف التطرف فيه. فأجابه المدير: هم أعرف منا.

  شكوت لصهر لي في قرية ميسر من هذا التنكر لي والوقوف حجر عثرة دون تقدمي، وكنت أطمح أن أكون مفتشًا للغة العربية، وكان ذلك أوائل الثمانينيات.
قال صهري: غدًا سيحضر إلى منزلي بعض رجال الأمن لتناول طعام الغداء، فهل لديك استعداد أن تعرض أمامهم طلبك.

قلت: لن أخسر شيئًا.

كان ثمة حديث صريح بيني وبين المسؤول الأمني عن المنطقة.

قال بصراحة:إذا ساعدتني ساعدتك، وهذه الوظيفة هي أقل ما يمكن أن تستحقــه.

  كيف سأساعدك؟

  لا أطلب منك أن تذكر لي ماذا قال هذا، وماذا قال ذاك، فهناك متطوعون لذلك.

  إذن، بماذا؟

  بتحليل ظواهر.ألست تقول إن هناك ضرورة للتعايش العادل بين العرب واليهود في إسرائيل، وبأن هناك ضرورة للمساواة.

  بلى.

  إذن سنلتقي كل خميس لنتداول شؤون الوسط العربي الذي تحرص أنت على أبنائه خوفًا من أن يقعوا في ما لا يحمد عقباه.هناك سيكون بيننا تعاون في البحث عن طرق المعالجة في أية مشكلة عارضة.

  ليس لدي وقت، وأنا لا أحسن تحليل الظواهر السياسية و..

  لا تتعب نفسك، ...فأنا أعرف أنك لن تقبل، لكني أود أن أذكر لك أمرين:

1- أن تتأكد أن ليست هناك أية وظيفة رسمية للعرب أو اليهود لا تتم موافقتنا عليها.
2- لقد وجدت لديك موقفًا ما، فنصيحتي ألا تتقدم لأية وظيفة رسمية شاغرة بعد اليوم دون أن تكون قد "خيطت" الموضوع.

  القانون يفرض عليك إذا كان لي حق، ولن أتردد في ترشيح نفسي لما أحب.

  أنت حر، ولكنك ستتذكر نصيحتي يوما ما.

ولم أقبل نصيحته، فقد تقدمت لعطاء وظيفة شاغرة – أن أكون معدًا لمناهج تعليمية معينة، وكنت يومها أحمل شهادة M.A، وإجازة التعليم معًا. ولكن لجنة العطاء اختارت مرشحًا آخر لم يكن قد حصل على الشهادة الأولى، بحجة أن له خبرة سابقة.
قلت في نفسي: لن أتقدم إلى المحاكم، ولن أتقدم لأي عطاء أو وظيفة، فمن يحتاج إليك يبحث عنك.

وهكذا كان.

ويبقى السؤال:هل تغيرت هذه الأساليب، وإلى أي حد؟!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى