من عوالم داليا رافيكوفيتش
ولدت الأديبة والشاعرة داليا رافيكوفيتش عام 1936، في رمات جان. وقبل أن تُتمّ السادسة من عمرها فقدت والدها فانعكس هذا الأمر في كثير من كتاباتها.تابعت دراستها في جامعة القدس وعملت كمعلمة عدة سنوات. نشرت كتاباتها وأشعارها منذ الخمسينيات فتميّزت بالحلم والرومنسية.. لكنها منذ العام 1982 (الحرب على لبنان) نحت منحى سياسيا بارزا في إبداعاتها، التي اصطبغت بصبغة سياسية وإنسانية قوية تماهت مع وجع الشعب الفلسطيني واللبناني، ومع آلامهم الإنسانية. فعُرفت كمناصرة مميزة وبارزة للقضية الفلسطينية ومناهضة للاحتلال وداعية إلى السلام. وقد تعرّضت لهجمة شرسة بعد أن نشرت مونولوجا بلسان شاب فلسطيني في طريقه لعملية انتحارية (تماهيا مع معاناة الشعب الفلسطيني)، فاتّهمت من قِبل الكثيرين (حتى من اليساريين )، بتشجيعها للعمليات التفجيرية.
عُرفت عنها حساسيتها المفرطة، وميولها لحالات الكآبة، وقيل إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، مما اعتُبر دليلا على انتحارها يوم وُجدت في شقتها وقد فارقت الحياة بتاريخ 21-08-2005. رغم أن الكثيرين من أصدقائها رفضوا التسليم بأن موتها كان انتحارا. بعد وفاتها كُتب الكثير عن أدبها في الصحافة الإسرائيلية دون التعمّق في دورها النضالي لدعم السلام.
كتبت داليا رافيكوفيتش القصة القصيرة، والشعر، وقصص الأطفال، كما ترجمت كتبا أخرى إلى العبرية.
فيما يلي بعض من أشعارها.
الرضيع لا يُقتل مرتينإلى البِرك المراقة.. في صبرا وشاتيلاحيث نقلتم كمياتٍ من البشر-كانت تستحقّ الاحترام-من العالم الحي.. إلى العالم الحق..
******
ليلةً إثر ليلة:
بدايةً.. رصاصاتهم أطلقواثم الضحايا علّقواوأخيرا...ذبحوا بالسكاكين.نساءٌ مذهولات.. ظهرن مستنجداتمن فوق التلال المعفّرة"إنهم يذبحوننا هناك..في شاتيلا !
*****
طرف هلالٍ صغيرٍ تعلّق في فضاء المخيماتوجنودنا بالنيران.. أضاءوا تلك السماوات..."إلى مخيم مارش!! عودوا ".. أمر الجنديالنساءَ المستصرخات..من صبرا وشاتيلافلديه أوامر لا بد أن يؤديها..والأطفال.... قد ألقوا هناك...إلى برك القاذوراتفاغرة أفواههم... ساكنين..لن يمسهم أحد بسوءفالرضيع.. لا يُقتل مرتين!وطرف الهلال اتّسع وامتلأغدا بدرا ذهبيا واكتمل*******أما جنودنا الأعزاء.فلم تكن لأنفسهم غايةٌ ترامسوى رغبةٍ جبارةأن يعودوا إلى البيت بسلامحكاية العربيّ الذي مات احتراقاحين التقطت النار جسده.. لم يأتِ ذلك بالتدريجلم تسبقه نوبةٌ حرارية..ولا موجةُ دخانٍ خانقولا غرفةٌ كجاورةٌ يلوذ بهاأمسكته النار فورا !ليس لهذا مثيلقشّرَت ثيابهتشبّثَت بلحمه..أعصابُ الجلد أصيبت أولاوالشَّعر غدا طعاماً للنيران"ربّي.. إني أحترق!!".. قد صرخ!!!هذا كل ما أمكنه أن يفعل دفاعا عن ذاته.قد اشتعل اللحمُ مع كُتل السقيفةتلك التي شكّلت بداية الحريقلم يعد يملك وعيا..والنارُ التي اقتاتت على اللحمأخرسَت إحساسَه بالمستقبلوبذكريات عائلته.قد فقدَ ارتباطه بطفولتهفصرخ دون حدودٍ من عقلوفقدَ ارتباطه بكل عائلتهفلم يطلب انتقاما، ولا خلاصا، ليرى الفجر القادملم يطلب سوى التوقف عن الاشتعاللكن جسده كان قوتاً للحريق..وبدا مقيَّدا ومكبَّلا.لكنه لم يفكر حتى في هذا !عنوةً.. ازداد جسده اشتعالا..جسده المصنوع من لحم وشحوم وعروق..اشتعل واشتعل زمنا طويلافخرجت من حلقه أصواتٌ لا إنسانيةلأن مهامَّ إنسانيةً كثيرةً قد تعطلت لديهنزعوا الآلام التي تسوقها الأعصاببضرباتِ كهربائيةٍ لمركز الألم في الدماغ…لكن هذا لم يدم أكثر من يومٍ واحدكم هو رائعٌ أنّ روحه فارقته في ذاك اليومفقد آن له أن يستريح.1936-2005
الثوب
تعرفين، قالت، حاكوا لك ثوباً من نارتذكرين كيف احترقت زوجة ياسون بثيابها؟إنها ميديا، قالت، كل شيء فعلَت لها ميدياينبغي لكِ أن تكوني حذرةً، قالتحاكوا لكِ ثوباً يُنذر كما الرماد،يشتعل كما الجمر.سترتدينه؟، قالت، سترتدينه.هذه ليست ريحاً تصفر.. هذا ليس سمّاً يرشححتى أنتِ لستِ أميرة، ماذا ستفعلين لميديا؟ينبغي عليكِ ان تميّزي بين الأصوات، قالتإنها ليست الريح تصفر.هل تذكرين، قلتُ لها، يوم كنتُ في السادسة؟؟غسلوا رأسي بالشامبو وخرجت هكذا إلى الشارعرائحة الغسل تبعتني كما غيمةبعدها مرضتُ من الريح ومن المطرلم أكن قد خبرت بعدُ قراءةَ التراجيدا اليونانيةإلا أن رائحة العطر انتشرت ومرضتُ كثيراالآن أفهم أنه عطرٌ غير طبيعيماذا عنكِ، قالت، حاكوا لك ثوباً يشتعلحاكوا لي ثوباً يشتعل، قلتُ، أعرففلمَ إذن تقفين، قالت، عليكِ أن تحذريألا تدركين ما يعنيه ثوبٌ مشتعل؟أعرف، قلتُ، لكن ليس الحذر.رائحة ذاك العطر تربك وعييقلت لها: لا أحد ملزم ٌ أن يوافقنيإنني لا أثق بالتراجيديا اليونانيةلكن الثوب، قالت، الثوب يشتعل ناراًماذا تقولين، صرختُ، ماذا تقولين؟ليس ثمة ثوبٌ عليّ أبدا.. هذه أنا التي أشتعل.
** ميديا: إشارة إلى الاسطورة اليونانية، وانتقام ميديا لغيرتها من هجر ياسون لها وزواجه من أخرى فخاطت للعروس فستاناً ما أن لبسته حتى تحوّل ناراً أحرقتها
المونولوج الذي أثار ضجيجاً في أوساط الإسرائيليين ضد تماهي داليا مع الفلسطينيين وهو تقمّص لحوار داخلي لشاب فلسطيني في طريقه لتفجير حافلة إسرائيلية:
تخبرني الساعة بأن لديّ أقلّ من أربعٍ وعشرين ساعةلكن هذا لاشيءأعرف أني سأنام نوماً هادئاًوإن لم أستطع أن أغفو فلن أغفوصباحاً سأخرج من بيتي باحثاً عن محطة مريحةلا يهّمني إن كانت في الشمس او في الظلستأتي الحافلات تباعاً، و نفسي أصلاً قاتمةٌمالي وما للشمس والظلكان عليّ أن أبتسم لو فكرتُ كم أبدو كشابّ يهوديّ أنهى خدمته العسكريةلكن لن تعلو ملامحي أيةُ ابتسامةصباحاً ربّما أحضّر لنفسي قهوةفيما الصلاة ستلهمني حياةً أكثر من أيّ طعام.. حياةً لائقةً أعنيلا أفكر حتى في جنة عدن..حيث يهبط الله من علياء عرشه، ليداعب رأس الشهيد الجديد القادم..إن كان ثمة ما يترقرق في عروقيويعدّل بدقّةٍ نبضات قلبي.. إنما هو يقينيأنني غداً..وقبل العاشرة صباحاً..سأمحو الإذلال.. فلا يعود أبداً.الحزام بحقيبة ظهري غالٍ عليّ كما القرآن المقدس.إني أقترب من الكينونة.
*** ملاحظة: هذا المونولوج لم أعثر عليه في أيّ من كتب داليا ولا حتى مجموعتها الكاملة، لكن وجدت عدة نسخ في مجلات كانت هذه أكمل الصيغ التي عثرت عليها.