موضوع الحب في الشعر العربي الحديث
إن الحديث عن موقف الشاعر الحديث من موضوع الحب في الشعر العربي الحديث يتطلب منا استحضارا لنصوص شعرية تبرز موقف الشاعر من موضوع الحب في الشعر العربي الحديث وسنقتصر في دراستنا هذه على بعض الشعراء فقط ذلك انه من الصعوبة بمكان الإلمام بجميع المواقف، فتركيزنا هنا على النص الشعري على اعتبار أنه تجربة الشاعر»ومعاناته في مختلف مستوياتها، وأنه في إحدى هذه المستويات، وسيط إيديولوجي ذو أبعاد اجتماعية، على اعتبار أن الانتماء الاجتماعي هو الذي يحدد أصول الموقف المتخذ من ظاهرة، أو واقع ما، وعلى اعتبار أن النص بمضامينه وأشكاله ما هو إلا موقف خلفه المبدع في ظل شروط اجتماعية وسياسية وحضارية- من أجل تبليغ رسالة ما، ومن أجل إحداث تأثير ما، كما أنه رؤيا تحاول تجاوز واقع مكرس. « [1].
وبالتالي فإن استحضارنا لنصوص شعرية ليس على سبيل التمثيل فقط وإنما كما سبق وأن بينا فإن النص الشعري في حد ذاته بمثابة الوثيقة التي تبين موقف الشاعر من ظاهرة معينة،كما أن النص الشعري هو الذي يبين تجربة الشاعر ومستوى هذه التجربة من جهة ويرسل إشعاعات شعرية تكون لها صدى في أذن القارئ من أجل إحداث تأثير وفي نفس الوقت تغيير.
ونصوص »نزار قباني « ستكون على رأس هذه القائمة كونه من الشعراء الذين أكثروا من الحديث عن الحب »معتبرا إياه عالما ذا أبعاد متميزة تكفل له الوجود المستقل- في شعره- حتى سماه بعضهم» شاعر الحب«وسماه آخرون» شاعر المرأة«، أو غير ذلك من تسميات، وكان بعضهم يرى أنه يرسم بهذه التسميات المعلم الذي يميز الاتجاه الشعري عند نزار. « [2]
موقف نزار قباني من موضوع الحب في الشعر العربي الحديث
:
لقد ارتبط حديث نزار قباني عن الحب بحديثه عن المرأة أحيانا»لمجرد إنقاذ الأداء من المباشرة ولا تنغرس داخل الصراع المنبث داخل العمل نفسه « [3]، وبالتالي فإن موقفه من المرأة كان قريبا من موقفه من الحب، ويبرز موقف نزار قباني في مجموعته الشعرية: »الرسم بالكلمات«وهي »أشهر ما قاله نزار قباني في علاقته بالنساء التي صار يشمئز منها في آخر حياته. « [4]:
لم يبق نهد...أسود أو أبيضإلا زرعت بأرضه راياتيلم تبق زاوية بجسم جميلةإلا ومرت فوقها عرباتيفصلت من جلد النساء عباءةوبنيت أهراما من الحلماتوكتبت شعرا... لا يشابه سحرهإلا كلام الله في التوراةواليوم أجلس فوق سطح سفينتيكاللص.. أبحث عن طريق نجاةوأدير مفتاح الحريم.. فلا أرىفي الظل غير جماجم الأمواتأين السبايا؟ أين ما ملكت يدي؟أين البخور يضوع من حجراتياليوم تنتقم النهود لنفسها
وترد لي الطعنات بالطعنات [5]
فهنا تتحول العلاقة بين نزار قباني عن طبيعتها التي كانت عليها في أول مراحل حياته- من علاقة تجاذب إلى علاقة تنافر وصراع في آن معا- فنزار »لم يتحدث عن الحب بمعناه العاطفي الذي يظنه الكثيرون، وإنما تحدث عنه بمعنى جديد حين جعله طرفا في قوتي صراع كبيرتين. « [6]، ومرد هذا أن»نزار قباني تخطى الوصف للمرأة وتحول إلى التحسر عما فات»خمسون عاما في مديح النساء «أو أنه يصف أحزانه، كما أن الحب صار سريا، وهو عكس ما يحب في حياته... لأن المجتمع العربي تطور، وصار في أواخر القرن العشرين غير ما كان عليه. « [7]
وبالتالي فإن نزار قباني لم يعد ذلك المفاخر بقصصه مع المرأة والنساء، وأخذ يدون في شعره حزنه العميق لما تحولت إليه تلك العلاقة الوطيدة، ذلك التحول الذي أفرزه مجتمع القرن العشرين، ويؤكد نزار قباني أن المرأة »كانت ذات يوم وردة في عروة ثوبي، خاتما في أصبعي، هما جميلا ينام علي وسادتي، ثم تحولت إلى سيف يذبحني...فالمرأة عندي الآن ليست ليرة ذهبية ملفوفة بالقطن، ولا جارية تنتظرني في مقاصير الحريم.« [8]، بل أصبحت»إحدى روافد غربة (الأنا) و حزنها، ولذلك فسيان أن يتساوى الحب والكره بعدما عاد غير نابع من أعماق النفس بل هو محض تمثيل« [9]:
لقد تساوى حبنا وكرهنا وأصبح البقاء كالرحيل
فأنت لست امرأة ساذجة، ولا أنا أحترف التمثيل
يا ليتني أقدر يا صديقتي أن أتقن التمثيل [10]
وبالتالي فإن الحب حسب نزار في القرن العشرين أصبح مجرد حركات تمثيلية جسدية مما نحى بالحب منحى الابتذال وأبعده عن معناه الحقيقي المرتبط بصفاء النفس وإخلاصها، وأصبح الحب جسديا ويظل المحب يعيش غربة وانفصاما روحيا عن الآخر كون الحب توقف على الجسد وآلياته وقضى عليه الروتين اليومي.
وفي هذا الصدد يقول قادة عقاق: »لقد أضحت علاقة الأنا بالآخر سطحية مبتذلة، لا تتعدى جدار الجسد، إضافة إلى كونها خاضعة لتقلبات الأمزجة وتذبذبها لا محكومة بصدق النفس وتفانيها، ولذلك اضطرت الذات أن تتقنع كل يوم بقناع جديد وأن تلبس لكل حالة لبوسها، وفي كل حالة من هذه الحالات تظل الذات مغتربة عن ذاتها، وعن الآخر أيضا. « [11]
وكون الحب أصبح جسديا وحركات تمثيلية كما قلنا فإن هذا ما جعل الحب عند نزار كله متشابها، حيث يقول:
الحب أصبح كله متشابهاكتشابه الأوراق في الغاباتأنا عاجز عن عشق أية نملةأو غيمة أو عشق أي حصاة [12]
وهذا ما جعل نزار أيضا عاجزا عن الحب أو حب أي شيء في الوجود و»فقدان القدرة على التواصل الحقيقي والمشاركة الوجدانية، هو فقدان لشرط الوجود، الذي هو الإيمان الصميمي والقابلية على الوعد« [13]، لأنه كما يقرر فروم إيريك: »الإيمان بالنفس شرط قابليتنا على الوعد.« [14].
ومنه فإن فقدان القابلية على الوعد – التواصل الحقيقي والمشاركة الوجدانية- دليل أيضا على إفلاس الحب ويعلن نزار هذا الإفلاس قائلا:
أفلسنا تكررنا تعودنا على الموت انتظرنا في كراسينا
كما ينتظر الأموات في أكفانهم يوم النشور [15]
ويقول أيضا:
ورأينا كيف ينمو الطحلب البحري في القلبعرفنا خدر الجلد وإفلاس الشعورهل لديك سيدتي حل لإفلاس الشعور [16]
وتطحلب القلب هنا دليل على إفلاس الحب وجفاف العواطف الإنسانية، وهو»ما لا أمل فيه في إطار الرؤية الكونية الشاملة« [17]، مما كان سببا في غربة الشاعر وفقدانه لذاته وإنسانيته لأن الحب هو الذي يجعل»الإنسان إنسانا، لما يقتضيه من مناجاة وحوار متعاطف وتضحية. « [18]
مما سبق نقول أن موقف نزار من الحب بدأ بازدراء المرأة واحتقارها بعدما اكتشف أن حبها له مزيف ومحض تمثيل، كالقناع أو مساحيق التجميل الذي تضعها كل يوم، مما دفعه أن يقف موقفا سلبيا من موضوع الحب بأنه أضحى هذا جسديا لا شعورا نحس به فهو أصبح ذلك»العمل الجنسي الميكانيكي المبتور من بعده الاتحادي، والغارق في المجون « [19]، فلا جرم أن أعلن نزار قباني إفـــلاس الشعور وبالتالي نقول أنه أعلن إفلاس الحب بل وموت الحب حينما يقول:
ناديت فاطمة.. وما وصل النداءلم يبق حب في مدينتنا
ولا بقيت نساء [20]
وفاطمة أماميمثلما الأسماك تضجر في الإناءوأنا أحاول أن أقول قصيدةفي مجد عينيهافأسقط في الرثاء [21]
والحبيبة هنا – فاطمة - ربما كانت رمزا للحب الإنساني بمعناه الشامل الذي ذهب شأوه في القرن العشرين ومات، حينما يقرر أن عهد كتابة قصائد الغزل أو التغزل بالعيون قد ولى وحل محله عهد آخر – عهد القرن العشرين- عهد يرثي ويندب موت الحب.
ربما نكون قد أطلنا الحديث عن موقف نزار قباني من موضوع الحب لنتوقف عنه ونواصل الحديث في الحلقة القادمة عن شاعر آخر كان في شعره ما كان من مواقف حول هذا الموضوع وهو صلاح عبد الصبور.
قائمة المصادر والمراجع:
- قادة عقاق، دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر، دراسة في إشكالية التلقي الجمالي للمكان، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2001.
- إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط3 ،2001.
- رجاء عيد، لغة الشعر، قراءة في الشعر العربي الحديث،منشأة المعارف بالإسكندرية،1975.
- التهامي الهاني، الوطن والمرأة في شعر نزار قباني، دار صامد للنشر، ط2، أفريل2004.
- نزار قباني، الرسم بالكلمات، بيروت1986،ط17.
- قاسم حسين صالح، المرأة موضوعا شعريا في الإبداع الأدبي، http://www.amanjordan.org/aman_studies/wmview.php?ArtID=644
- نزار قباني، ديوان" أشعار خارجة على القانون"، منشورات نزار قباني، ط1، 1972.
- فن الحب، ص190، نقلا عن : نرجسية في أدب نزار قباني، ا: د/خريستو نجم، دار الرائد العربي، بيروت، ط1، 1983.
- ناجي نجيب، كتاب الأحزان، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، 1983.
- محي الدين صبحي، الكون الشعري عند نزار قباني، دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت،ط1،1977.
- نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة، ج5، منشورت نزار قباني، بيروت، لبنان، ط2، 1998.