ميكانيكية صيحات الغضب
مقدمة
..
الشاعر الفلسطيني.. محمد دلة، وقصيدة( ح ن فرس من النهوند)
الكاتب عزيز باكوش في مقالة له، ( كي لا نفهم الإعلام على طريقة فهمنا للشعر الجاهلي)، ذاكراً، أن المعرفة أولاً وأخيراً، : لأن حجم مجاعتنا كعرب ومسلمين إلى الحكمة والمعرفة. ويكمل الكاتب عزيز باكوش: لأن
التساؤل جوهر القضية
وتساؤل الشاعر محمد دلة، يحمل دست المعرفة التي أوجدها في قصيدته هذه، بوعي أبداعي متميز في البحث عن العمق والتفاوت المتناوب في القضية العربية، والتي تحتاج إلى معجزة خارج حدود التحديق، و(ح) تعني حامل لواء مزينة/ و(ن) نعمان
بن مقرف/ وفرس، فارس صحابي/ ونهوند، معركة قتل فيها، فبكاه عمر على منبر الرسول.
أجد الإشكالية في قصيدة الشاعر الفلسطيني محمد دلة، قصيدته ( ح ن فرس من النهوند ) تقع في عمق العقيدة التي تحملها الإنسان العربي، ذلك الإنسان الذي بنسبة عالية ينكر التعارض في المشاهد الواقعة حالياً تحت نير التغافل والنسيان، بما يخرج به حامل
اللواء من تكوينات روحية، وعمق هذا التعارض، هو عدم وجود تراجع، في الدوافع العميقة لتاريخه، والمظاهر الحياتية المنتمي إليها، وأما ما علينا معاينة العميق التاريخي، بما يحمله " ن " من إدراك لمعنى الشرف في عملية الالتزام الإنساني ونقاء النزاهة
عند "ح " ، ويرى الشاعر أن ( ح ن فرس من النهوند) هو ما يستحق حمل صفة الشهادة، فنجده يقول في مطلع القصيدة:
فرس من النهوند
وحي من اللأزورد
أدنى من هديل النور
أبعد من خيام الناي
يسكب صمتها الصوفي
في قلق المصير
وتغيير القدرية التي يحملها ذلك البطل، هي بصفاء السماء، حين تحمل زرقتها درجات النور، التي لا تعادلها أي نقاوة، إن سكنت القلب السابح بحب إلآهي، لا يختلط معها حب آخر من شهوات الدنيا، والشاعر محمد دلة قد عرف كيف يمسك عقد الإنسان المختلف،
والمفقود في زمننا، فالبعد شاسع بين الماضي، وبين الحاضر، حين يقول:
منْ سوى تمائمها
ومن أغوى صلاة التوت
أن ترسو على زغب الحرير
هنا الشاعر مدرك، ميكانيكية الطبيعة البشرية، والضروف الروحية، والمادية، لما بين الاثنين من تفاوت حين يقول:
أول الأشجار تجريب والعناصر والانكسار المسألة
وسنابل بالرمز ترفل مثقلة
يقصد السنابل، عمرها ما كانت تحمل الذل، أو التخاذل، ولكن الذي يحدث ما يرمز للمعنى المغاير، لذا نجدها اليوم أمور باتت مثقلة بالعنوان الحقيقي تلك الصور الدارجة، فهو يعود للسؤال، في قوله:
هل تصل المقامات المقيمة في تفردها؟
وكم شعب سيحفر جوهر النص الثقيل
الشاعر يدرك ما يحدث، ولكن أين هم من يدرك، إن ما يحدث، خارج قانون طبيعتنا العريقة العربية، واقصد العربية التي في " ح ن فرس " ، محمد دلة القابعة مظاهرها في تبدل، وإسقاط مفردات كانت شهية، ثم أصبحت علقم، فلم يعد ينفع الندم، ويحدد هنا
نقاط البحث في قوله:
للصمت متسعاً من الوقت
للموت معراجاً من الموت
الشاعر في قصده العميق، يريد طرح المسألة بدقة وصراحة وشجاعة، ويَعلَم أن مثل هذه الشجاعة تحتاج صبر وروية، لذا نجده يطالب بالعودة للمعراج، خلاصاً من الموت المحكومين له، والذي يجب أن يكون كموت "ح" ، فيعود إلى الأكثر قرباً من الفهم
فيقول:
" أمية خيل النجوم
ودورة الأفلاك
لم تقر أنهار الأبجدية"
لو عرجنا إلى أبجديتنا، لعلمنا أنها طريقنا الوحيد للتوحد، لكان لنا قلب واحد، وكلمة واحدة، وليس كما يحدث اليوم في عالمنا العربي، مفردات لا علم لنا بها، نضضعها فوق الأجود من مفردانتا، ثم نسيل بعمومها فوق أيامنا، وتصبح جراحاً فوق جراح، فيعود مؤكداً
على العمق الذي فقدناه:
يا أيها المتشائل المذبوح بالنسيان والجمل الطويلة
يا أيها الممسوس بالآيات والشطآن والرؤيا الرسولة
قد أكملت عاماً" ولاؤك" أو " عناتك
ما مررت ولم تنادي في الرعاة
ليسلكوا شظف الجهات
أي تعبير عن إحباط جماعي شخصي تفاعلي رقيق الإحساس، بالزمكانية، وظاهرة المفكر المستدل المنطق، مستنبطاً بذكاء القضايا الاجتماعية، مشبعاً بالرمز، سانداً يقوة خطواته الإبداعية حيث يقول:
إسرائيل
تنفض عن دمي العبرية الصلعاء أضرحة الأفول
وتأخذ المعنى سفاحاً
وأستنتج من باقي المقطع أنه أدخل التاريخ بما يحمل من مضمون جمالي، مستخدماً أسلوب متميز، ومكتسب، من إدراك في رؤيته للوضع الاجتماعي، حاملاً مدلولاته الواعية بقوله:
وباطن الشهوات يعلى في مشاهدنا عناقيد غضب
مستاء مما يعيشه أكثر من وطن، فقد عزتهِ، وسلبت إرادته، وتزعزعت قوته، وأُشعلت الفتن بين إخوته، كل هذا ما يريد الشاعر الوقوف عنده، فيقول:
" الثارات مشرعة وحبلى بالسلب"
تتكشف قصيدته في الأسلوب المعبر عن المعاني، في تغيير النفس وحضورها الإنساني، ومجتمع يبحث عن مخرج، وهو نفسه الشهيد والقاتل، وربما يدفعك تسأله إلى رغبة التكفير، بشرط جوهري، لأن عملية التطوير، تحتاج خاصية المعراج، والربط بين سمة
الوسائل، بما كان سابقاً، وما يحدث لاحقاً، حيث نجده مزج بين تاريخين، متناقضين لا ينفصمان بقوله:
حرموا ما في المدينة من نساء
من رجال
صبراً بحد السيف
يعمق في تسمية العبارة سيمنطيقياً، ليخرج بمدلول غائب، يحث في قيمة المعطى الإبداعي مثبتاً أظافره ُبالمفقود من المحسوس صارخاً:
نينوى نأي وبابل حرة بشعابها
وبنوك يا رب الجنود
يسلمون مفاتيح المدن الحصينة للعدو
بالهكسوس والرب السليل
الشاعر يتعذب بما عنده من رؤيا للمحسوس في مواقع تحمل الإحباط، عائداً إلى صفة المعانات الكامنة بالإشكالية المتغاظ عنها محركاً العملية بعكس الاتجاه، للذي يجري ولا رجوع فيه، بل التآزر لمعرفة من الناحية الفوتوغرافية، وبتصوير ذكي، استعمل المفردة
المعبرة، وهذا الربط البارع في تحديد مباشر، والمخفي في استعماله، وابتكار التفاعل لسحب القارئ إلى عمق الموضوع في قوله:
فاخرج من دخانك
أيها الأعمى القتيل