الخميس ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم سهير فضل عيد

نقص

استوقفتني حكمة
و أنا أقرأ ذات يوم تقول : ( أكثر الناس كذبا من يكثر الحديث عن نفسه .)

خطر على بالي حينها شخص يدعى إياد السيد علي والذي كان أستاذا ً في كلية الطب، وكان مشرفا على مجموعتي، تذكرت رسالة الماجستير التي ناقشها أمام اللجنة و سخرت يومها من تلك الرسالة التي ليس فيها أي أثر للبحث والتنقيب .
دكتور إياد كان دائم الحديث عن نفسه بسبب وبدون سبب ، بل إنه يدعي العلم في كل شيء ، فهو كما يطلقون عليه أصحابي --- أبو العُرِّيف -----

كان واثقا من نفسه لدرجة الغرور و لدرجة النفور منه و من حكاياه و بطولاته التي لا تصدق.
كان الدكتور إياد يضع صوره الشخصية ضمن الصور الإيضاحية الخاصة بمادة التشريح و يعرضها من خلال جهاز العرض و كأنها صدفة وكأنها ضمن المقرر ، فيقول هذه صورتي مع الزملاء حينما كنا نصطاد في البرية ثم يستطرد قائلا لم يغب عن بالي أبدا الذئب الذي هاجمنا و ابتعد كل زملائي و هربوا و بقيت وحدي في الميدان لكن بحمد الله ثم بفضل ذكائي الحاد استطعت التخلص منه .

أما هذه الصورة فهي التي رآها مصمم الأزياء العالمي جورج جيم و حاول اقناعي بشتى الطرق لأكون عارض أزياء ، أو أشترك في مسابقات ملك الجمال لكنني رفضت لأني أعتبر ذلك يقلل من رجولتي ، ثم ضحك ضحكة يعلوها الغرور و التصنع ثم قال : أتعلمون كان من الممكن أن أكون نجما ً سينمائياً ، لكنني فضلت دراسة الطب و هأنذا كما ترون استطعت في فترة قصيرة بفضل تفوقي أن أحصل على الماجستير و بامتياز.

حينها استغربت وشردت لبضع ثوان، أفكر و أقول لنفسي : إن دكتور إياد ليس وسيما ولا يصلح إلا للمصارعة ، إنه عملاق ضخم الجثة و بطنه أمامه و كأنه شارع و شعره أجعد خشن .
و كأن دكتور إياد قرأ ما يدور في ذهني و في أذهان معظم الطلبة فقال : لا تندهشوا ، فهذا الكلام منذ عشر سنوات وقد كنت أنحف وأرشق .

أوصلنا د. إياد لحالة من الملل و صار الكثير من الطلبة يغيب عن المحاضرة.
أما في القسم العملي ، كان يخطِّئ الطلبة ولا أذكر أنه ربت على ظهر أحدهم , بل كان دائم الانتقاد ، نعم أسلوبه خال ٍ من العصبية لكنه ممل ، منفر ، فكلما انتقد طالبا ً أوطالبة كان يذكرهم بنفسه .
قال لأحدهم : عندما كنت في مثل سنك كنت أفضل الطلبة و كل من حولي يغارون مني و يحقدون علي لدرجة تدبير المكائد لي و كان أساتذتي يعتبروني مضرب المثل .

و قال لأخرى و هو يسألها سؤال ليس له علاقة بالطب أصلا ولا أعلم لماذا يفعل ذلك فكثيرا ما كان يسألنا أسئلة ليس لها علاقة بالطب ، فيفاجئنا بسؤال يتعلق باللغة العربية أو بالرياضيات و ما شابه ، وعندما عجزت الطالبة عن الإجابة قال لها : أتعلمين عندما كنت في مثل عمرك كان عندي إلمام بكل شيء في هذه الحياة ، و بسبب إلمامي غير العادي بالثقافة صرت لاأنسى ولا أخطىء ابدا .

وصل الأمر بالدكتور إياد أن ينتقد الأساتذة الذين تجاوزت أعمارهم الخمسين , لكننا لم نستطع قول أو عمل شيء ، و القسم العملي لابد من حضوره ، فكانت مادته أكثر مادة نكرهها.
و في خريف 2006م وخلال أحد المؤتمرات الطبية الدولية ، لا أعلم لماذا بدأت الحديث عن د. إياد بشكل سيئ و كأنه خصمي و فاجأني دكتور يُدعى ماجد الأحمد و الذي يشارك في محاضرة من خلال المؤتمر .
د. ماجد طبيب وسيم لدرجة الافتتان به والشرود في أثناء الحديث معه ، طبيب لديه من العلم والخبرة ما لم ألمسه عند أي طبيب في مثل سنه ، إنه يُدعى للمشاركة دائما في المؤتمرات و هو مخترع و لديه براءة اختراع ، و مع كل ذلك فهو في منتهى التواضع ، ولولا أنهم تحدثوا عنه في المؤتمر لما خطر ببالي أنه طبيب له مكانة مرموقة .
قال لي :لابد أن تتحدثي عن أساتذتك بأسلوب لائق.

لم أستطع الصمت و أخبرته عن كل بطولات الدكتور إياد التي جاوزت الحدود ، ثم إن هناك شيئا ً آخر يا دكتور ماجد جعل جميع الطلاب يبغضون محاضراته ، وهو عدم اعترافه بخطئه ، ففي البداية كنا نمل من كثرة حديثه عن نفسه حتى صار بنا الحال إلى أن أصبحنا نحضر المحاضرات بأجسادنا ، فهو على حد قوله لا يخطئ أبدا ً و ليس لديه استعداد للاعتراف بخطئه مهما أحضرنا له اثباتات و براهين تثبت خطأ قول ما قاله ، لكنه بطريقة ما يتحايل
علينا كيلا يعترف بخطئه ، فما كان منا إلا أن التزمنا الصمت و تركناه يتحدث و يقول مثلما يحلو له .
ابتسم د. ماجد قائلا : أتعلمين أن د. إياد كان جاري في نفس الحي و في نفس العمارة و كان زميلي في كلية الطب أيضا .

بادرته بالسؤال : و هل كل بطولاته التي يذكرها صحيحة ؟
أخذ نفسا ً عميقا ً ونظر بإتجاه الأفق ثم قال و هو مكتوف الأيدي : ( إياد السيد علي ) كان لا ينجح إلا إذا تلقى دروسا خاصة ، و في المرحلة الثانوية كلّف أبوه ما لا يطيق ، بسبب كثرة زيارات المدرسين للمنزل ، بالإضافة للدوام في معهد صيفي ليدرس مقرر المرحلة الثانوية قبل بدء الدراسة ، وعلى الرغم من كل ذلك و على الرغم من الوساطات و المعارف ذوي الأهمية إلا أن معدل إياد لم يدخله سوى معهد فني الكتروني .
معهد الكتروني ؟! كيف ؟ ! مستحيل ! لكنه الآن أستاذ في كلية الطب ، هذا مستحيل ! .
قال لي مشفقا علي : أمام المال لا شىء يقف الا الصحة .

و لكن كيف ؟ رد و كأنه يتألم : هذا ما يحيرني ، لابد أن هناك طرقا ً لا نعرفها نحن الكادحون ، لكنه على أي حال أستاذك الذي لابد أن تحترميه ، و هو جاري أيضا ً في الماضي و زميلي الآن و كل ما أتمناه له النجاح و التوفيق.

و حسب معلوماتي لقد تعرف إياد على طالبة في كلية الطب و كانت تلك الطالبة ابنة رئيس أحد الأقسام و استطاع إياد أن يستميل تلك الطالبة له و يتزوجها و هو في السنة الرابعة و منذ تلك اللحظة لازمه الحظ السعيد ، حيث ترأس الهيئة الإدارية للطلاب لأكثر من مرة و شارك في بعض المؤتمرات الطبية كمحاضر و هو لم يتخرج بعد ، لكن الفضل كله يرجع لحماه و ابنته المدللة التي لا يُرفض لها طلب ، و نجح بتفوق ملحوظ على الرغم من تواضع قدراته .
فقلت للدكتور ماجد : إذا كان المجتهد يتساوى في هذه الدنيا مع الكسول ، فلماذا أجتهد أنا في دراستي و غدا ً سأصبح كغيري من الذين يحصلون على ما يريدونه بأساليب و طرق متعرجة ، بل سيكونون هم أفضل مني .
الدكتور ماجد : على العكس تماما ً لابد أن تجتهدي و دعي الأيام تثبت للناس من هو الأفضل ، كل ما عليك أن تتناسي كل أولئك الأشخاص من ذوي النفوذ و تتحلي بالثقة .

عدت للبيت مذهولة مما سمعت ، منكرة لكل كلمة ، ليس تكذيبا للدكتور ماجد الذي شهد له كل من في المؤتمر بالنزاهة والأخلاق ، و إنما إنكارا ً للأشخاص الذين يسلكون طرقا ً متعرجة للوصول ثم يساوون أنفسهم بالمجتهدين الكادحين بل و يدعون أنهم الأفضل ، و فهمت أن كل غرور د. إياد و ثقته بنفسه و اصراره على عدم الاعتراف بخطئه وبطولاته ليس إلا نوعا ً من التعويض عن نقص ما داخله .

و أعتقد أننا بحاجة اليوم و حتى العشرين سنة القادمة إلى زيادة عدد الأطباء النفسيين ، فكثير هم الذين يكثرون الحديث عن أنفسهم و سيصبحون أكثر في المستقبل .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى