الأحد ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم سهير فضل عيد

لم أعد أسعل يا أبي

في غرفة تداخلت فيها الأصوات والحركات، وضاعت الآهات بين الضحكات، خرج لهذا العالم طفل كانت الشمس تراقب لحظات مجيئه بطرف عينها ؛ فابتسمت له، معلنة حبه، ومانحة إياه بعضاً من خيوطها الذهبية، لتلون بها شعره المسترسل دون انحناءات، وفي ذات المساء أطل البدر ملقياً بنوره على ذاك الوجه، ليبدوالطفل كنجمة سطعت وسط قماش مخملي حالك السواد، وبين ذراعيها حملته السنون مسرعة، تستعجل الأيام والشهور، لتحط به بين أقرانه في المدرسة، جامعاً بين الوسامة والبراءة الملائكية، إنه الطفل (م ـ هـ)، بسنواته الست المليئة بالمرح والمتعة، فمتعة الأطفال اللعب، وما كان هناك شيء يعرقل هذه المتعة لدى (م ـ هـ) سوى تحسس بسيط لا يذكر، ناتج عن بعض الروائح النفاذة أوغبار الطلع الآتي مع الربيع، وكانت تكفيه بضع سعلات خفيفة ليطرد بها كل ما يعكر صفورئتيه، ليعود مرة أخرى للعب بمرح أكثر ومتعة أكبر.

ذات يوم لاحظت معلمة (م ـ هـ) في الصف أنه يسعل أكثر من اللازم، فخاطبت والديه تنبههم لضرورة عرضه على طبيب مختص بالأمراض الصدرية.

إلى مستشفى من فئة خمس نجوم، أخذ الأب ابنه، كانت في استقباله حسناوات يقفن خلف حاجز رتبت فوقه ثلاثة أوأربعة (كمبيوترات)، كن يصبغن وجوههن بألوان متعددة من (المكياج) الذي ربما ابتعنه من نفس الشركة التي يعمل بها أبو (م ـ هـ)، يبتسمن بتصنع كاشفاتٍ جزءاً من شعرهن ومحرراتٍ زراً أواثنين من أزرار قمصانهن، علهن يزدن من زوار المستشفى، الذين تنفرج أساريرهم عندما ينقِّلون أبصارهم بين هذه وتلك، محاولين سبر ما يستطيعون من أجسادهن، سواء أكانوا من ذوي اللحى الطويلة أم بدونها، ومحظوظ من يجيد الإنجليزية، فهن يحببن التغنج بمفرداتها مع أنهن عربيات.

وقف الأب الذي لم يكن ممن يُحِبون التلصص على النساء، منتظراً دوره ليفتح ملفاً لابنه عند استشاري الأطفال (أ، ر)، سألته السمراء البهية: ألديك تأمين؟ أم ستدفع نقداً؟، وبحركة سريعة وخفيفة ناولها بطاقة التأمين بعد أن لفظتها محفظته الجلدية السوداء، وحين فرغت من تعبئة البيانات قالت: تفضل انتظر دورك، استعاد بطاقته منها وذهب ينتظر دوراً ـ ويا ليت الدور لم يأتِ.

(م ـ هـ) نادته الممرضة الفلبينية التي قامت بقياس الحرارة والوزن، ليدخل بعد ذلك غرفة الفحص، حيث عاينه الطبيب (أ- ر).

انطلق الأب شارحاً الموضوع في أثناء معاينة الطبيب للطفل، لديه تحسس بسيط، إنه يسعل عندما يشم العطور وما إلى ذلك، لكنه تحسس لا يكاد يذكر فقلما سمعناه يسعل في البيت، ولولا أن إدارة مدرسته أعلمتنا بذلك لما أخذنا الأمر بالاعتبار، يبدوأنه مع الجري واللعب في باحة المدرسة، يزداد سعاله، وخاصة عند إثارة الغبار، فيُحلِّق فوق رؤوس الأطفال، جراء حركاتهم السريعة.

حسناً قال الطبيب مقاطعاً سنقوم بتعريضه لغاز (النيوبلايزر) وإن لم يتحسن .... ـ لديك تأمين أليس كذلك؟ ـ ، نعم، إذن يُفضل أن يتم تنويمه في المستشفى في حال عدم استجابته للعلاج.

الأب: هل حالة ابني تستدعي أن ينام في المستشفى؟!

الطبيب: في الغالب.

الأب: ولكن!

الطبيب: لا تقلق ليس في الأمر ما يخيف.

قامت الممرضة التي قد تكون من تلك القادمات للبلد على أنهن خياطات أومدبرات منزل ثم يعملن بالتمريض، بوضع الكمامة على أنف وفم الطفل الوسيم وأدارت المفتاح لينبعث غاز(النيوبلايزر) محدثاً توسيعاً لقصباته التنفسية، فيشعر بالارتياح ويغادره السعال تقريباً.
أرى أنه لا داعي أن ينام ولدي في المستشفى ـ قال الأب:
 دعني أراه بعد يومين، ومن ثم نحكم ـ قال الطبيب

عاد (م ـ هـ) يستمتع باللعب دون أن يُعكر السعال صفوه ، فلقد كان مستقلاً سيارته التي تشحن بالكهرباء، ماراً بكل غرف المنزل، حينما عاد أبوه من عمله ليأخذه إلى المستشفى، عاينه الطبيب ذاته من جديد وأصرّ على تنويمه على الرغم من محاولات الأب المستفيضة واليائسة لإثبات أن الصبي قد تحسن ولم يعد يسعل، إنه يقفز، يمرح، يجري هنا وهناك دون أن يسعل أبداً ـ قال الأب:
 لابد من تنويمه في المستشفى فحالته صعبة ـ قال الطبيب ـ

هزّ الأب رأسه مستسلماً، حسناً كما تريد، أنت الطبيب وأدرى وأعلم مني بالتأكيد.

لكن المستشفى ذا النجوم الخمس كان ممتلئاً بكامله ولم يكن هناك غرفة أوحتى سرير فارغ لاستقبال الطفل على الرغم من أن الوقت كان لا يزال صباحاً، مما اضطر الأب للرجوع بطفله للمنزل بعد أن أبلغه الطبيب (أ. ر) بضرورة العودة مساءً.

مساء يوم 11 / 12 / 2007 م قام الأب بجر ابنه الذي كان رافضاً العودة للمستشفى، يا أبي لقد تحسنت، لم أعد أسعل، لا، لا أريد الرجوع للمستشفى، لكن توسلاته باءت بالفشل، وأدخله أبوه عيادة الطبيب رغماً عنه، وما كان الطبيب ليظل واقفاً بعد أن أعطى أوامره للممرضة، وبناءً على أوامر الطبيب الغائب تم وضع الطفل في غرفة من الدرجة الأولى، وتمديده فوق السرير وتعليق (السيروم) في وريد معصمه، خرجت الممرضة بعد ذلك لتعود تتمايل حاملة بين يديها دواءً مجهول الهوية وقامت بتحضيره أمام العائلة المكونة من الأب والأم ـ التي وضعت منذ أيام قليلة أخاً له ـ ومن الجدة، حقنت الممرضة الدواء ضمن (السيروم) المعلق وغادرت الغرفة، قرابة دقيقة واحدة، ربما أكثر حتى بدأ الطفل الوسيم يتململ ويشعر بانزعاج وضيق، فحاول النزول عن السرير، فأعاده أبوه ظاناً أن ذلك شيء من الدلال، يا أبي أشعر باختناق، لا أستطيع التنفس،

وكالمجنون خرج الأب منادياً الممرضة، التي قالت أن الأمر عادي، بدأ الوجه المنير يزرقّ، يُظلم، صرخت أمه، انزعي الدواء من يده، ابني يختنق، لكنها أجابت لا أستطيع، أين الطبيب؟، سأل الأب، واختلط المشهد بأحداث عدة، الطفل يحتضر، يتقيأ دماً، وأمه ضاعت وسط الذهول، وأبوه الذي يبحث عمن ينقذ ابنه الميت، صمت رهيب، لا أحد يجيب، وكأن الأطباء تم نفيهم لمكان آخر في هذه اللحظة الحرجة بالذات، مرت نحوعشرين دقيقة إلى أن جاء طبيب ليستطلع الأمر وتتمكن الممرضة من الاتصال بالاستشاري (أ ـ ر) ليطلب منها إعطاءه حقنة وريدية أخرى ريثما يحضر، وبأقصى سرعة تم إخراج الأهل من الغرفة، ودبّت الحركة الآن في المستشفى بعد ذاك الصمت المدَّوي، ممرضات يسرعن بالذهاب والعودة محملات بأدوية وأجهزة لإنعاش الطفل، والعائلة تنتظر وهي تستمع لأصوات يائسة استمرت ما يقرب الساعة بغرض الحصول على قدر أكبر من الوقت، علّ الأهل يهدؤوا قليلاً أوربما من أجل تجهيز كلام منطقي يُقنع الأهل بعدم مسؤولية المستشفى أولتحضير ما سوف يكتب بالتقرير.

ساعة من الانتظار مرت بما فيها من ألم وأمل وصبر ودعاء وبكاء، ليخرج بعدها الاستشاري (أ ـ ر) قائلاً ـ رحمه الله ـ وتوارى عن الأنظار دون إعطاء أي تفسير مستغلاً غرق الأهل في الصدمة.

دخلت العائلة، ضمت الأم ابنها لصدرها علّ بكاءها ودموعها وحنانها يرجعونه لها، وعساه يعود لسيارته التي كان يلهوبها قبل قليل، ماذا ستقول لأخته إن سألت عنه، ولأخيه حين يكبر؟، كيف ستدخل غرفته لتطمئن عليه ليلاً؟، بكت ولازالت تبكي، لن تنسى أبداً اللحظة التي رأت فيها طفلها وهويموت متألماً، أما أبوه فقد كان عقله مشغولاً بعدم التفكير وهويرى الممرضات ينظفن المكان لإزالة أي دليل يدل على وجود دواء أعطي للصغير، لكنه وبعد لحظات قليلة صحا من ذهوله، صارخاً، شاتماً، وبحركات عشوائية من يديه التائهتين والمحلقتين في الهواء هجم على الممرضة وأبعدها ليقطع جزءاً من الأنبوب الدقيق الذي يصل ما بين (السيروم) ويد ابنه، ومن حيث لا يدري حضرت الشرطة، لم يعلم من أبلغها ومن جاء بها.

هل تريدون أن نطلب من المستشفى عمل لجنة لتحقق في الوفاة؟ ـ قال المحقق:
 لا، من المؤكد أنهم سيقومون بعمل ما يجعل الأمر لمصلحتهم، أريد نقله لمستشفى آخر فأنا لا أثق بهم ـ قال الأب:
 تم نقل الطفل لمستشفى حكومي والكشف عليه من قِبل أطباء متخصصين وإعطاء تقرير بالحالة وتسليمه للشرطة التي قامت بدورها بإحالة القضية للشئون الصحية التي تابعت التحقيق وأرسلت لجنة للمستشفى ذي خمس النجوم، وحققت في الأمر وخرجت بتقرير وافٍ بما حدث، بعد ذلك نقلت الجثة للتشريح، حيث شُرِّحت يده التي حُقنت بالدواء المركب ثم تم تشريح الجثة كلها.

وبتاريخ 9 ـ 1 ـ 2008 م دفنت الجثة، ولم يتم التوصل لشيء من الحقيقة، فالأمور كلها غامضة، التقرير وما يحمل بين طياته، هوية الدواء المجهول، ونتيجة تشريح الجثة، وكأن هناك من لا يريد كشف الحقيقة، أحد ما يختبيء في الظل ويمنع الحقيقة من الظهور، فسمعة مستشفى يربح مئات الآلاف شهرياً أهم بكثير من كشف سبب وفاة طفل يعانقه الآن التراب الحزين.

رحل الطفل ولا زال أبوه يهرول باتجاه المشرحة طالباً منهم تحديد سبب الوفاة، وهم في كل مرة يتحججون بحجة ما، تارة بتلف الأجهزة وتارة بغياب الموظف المسؤول وتارة وأخرى وغيرها.

ضم الثرى الجسد الطاهر، لكن روحه بقيت تحلق وترفرف في السماء تتساءل، إن كنتم تنوون عدم إظهار الحقيقة، فلماذا تركتم مشارطكم تتنزه في جسدي البريء؟!، ألم يكن باستطاعتكم ترك شيء سليم أحتفظ به لترابي الحزين؟!

غاب دون وداع ولا زال صدى صوته يتردد في أذن أبيه ـ يا أبي إنني بخير، لا أريد الذهاب، لم أعد أسعل، لا يا أبي، لا .... لا......


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى