نهضة 2023
في تاريخ الأمة العربية في العصر الحديث بعض الكلمات الدالة مثل عبارة (نكبة 1948) دالة على لجوء الشعب الفلسطيني الى دول الشتات وإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948.
كذلك كانت عبارة (نكسة 1967) دالة على هزيمة الجيوش العربية عام 1967 واحتلال ما بقي من أرض فلسطين والأراضي العربية في سوريا ومصر، للتذكير فقط ، قامت إسرائيل بهجوم مباغت دمرت فيه الطيران المصري، أصبح بعده الجيش المصري مكشوفاً أمام الطيران الإسرائيلي وخلال ستة أيام تم تدمير الجيوش العربية.
للتذكير أيضاً كان إعجاب الغرب بما فعلته إسرائيل من مباغتة لا يوصف وكالوا لها المديح على التخطيط المتقن والتنفيذ الجيد السريع.
بينما نجد أن الغرب نفسه كال الشتائم للقسام على ما فعله في 7 أكتوبر ووصفت المباغتة بالخداع والتضليل وغذت إسرائيل هذه الحملة بادّعاء أن جنود القسام قتلوا الأطفال والشيوخ واغتصبوا النساء واعتدوا على أبرياء يقيمون حفلة موسيقية، وثبت الآن أن كل هذه الادعاءت كاذبة بل بالعكس هم الذين قصفوا وقتلوا عدداً كبيراً من سكان المستعمرات الموجودة في غلاف غزة.
أطلق قائد القسام محمد الضيف على العملية اسم طوفان الأقصى وهي تسمية صحيحة لما تفعله في المنطقة والعالم. ويمكننا أن نطلق عليها أيضاً اسم (نهضة 2023)، رداً على عبارتي نكبة 48 ونكسة 67.
كما يقال جرت مياه عديدة في أنهار العرب ولكن احتاج الأمر 75 عاماً لكي ترد شعوب المنطقة رداً جدياً على قيام دولة إسرائيل، فما حدث خلال هذه المدة الطويلة بين العرب بما فيهم الفلسطينيون إنما محاولات رد الصفعات التي توجهها إسرائيل إليهم وضمن ذلك حرب 1973.
كانت حرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله مميزة، فلأول مرة يستطيع تنظيم شعبي التصدي والصمود في وجه الجيش الذي صوروه على أنه لا يقهر، ولكن هذه الحرب دارت على الأراضي اللبنانية وظلت في إطار رد الفعل العربي. طرد إسرائيل من لبنان والصمود المذهل في 2006 تم تلخيصه فيما قاله حسن نصر الله من أن إسرائيل أوهى من بيت العنكبوت.
وتتميز نهضة 2023 بالصفات التالية:
1. أنها للمرة الأولى تجري على أرض فلسطين بين الفلسطينيين وأعدائهم، فطيلة خمسة وسبعين عاماً كان لإسرائيل مطلق الحرية في أن تنكل بالشعب الفلسطيني والشعوب المجاورة بدون رقيب أو حسيب وكانت الحجة جاهزة : أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس، ولكن ليس هذه المرة.
2. أن هناك دعماً حقيقياً مؤثراً من الشعوب العربية بينما تقف كافة الدول العربية بين متفرج أو خائف أو متآمر، ولهذا السبب كانت التسمية المناسبة وصف هذا الدعم بوحدة الساحات، فالساحات هي العامل الشعبي وثبت أن هذا العامل أقوى بكثير من وحدة الدول التي هزمت وضيعت فلسطين بالكامل.
3. ونظراً لكونها حرباً بين الشعوب والعدو الإسرائيلي وداعميه، لاحظنا أن مدتها طالت وما تزال مستمرة. فمعظم حروب إسرائيل كانت قصيرة استعمل فيها الإسرائيليون الأسلوب الألماني في الحرب الخاطفة ( Blitz Krieg) حيث تترك الخصم محطماً مذهولاً لا يعرف ماذا يفعل. المرة الوحيدة التي طال فيها أمد الحرب كانت عام 2006 مع حزب الله على الأرض اللبنانية وقد حاولت إسرائيل استعمال هذا الأسلوب الخاطف بتدمير الضاحية الجنوبية في بيروت معقل حزب الله ولكن خطتها لم تفلح، نظراً لعناد قيادة حزب الله واستعدادها لحرب طويلة في الجنوب اللبناني.
طيلة هذه المدة تحاول إسرائيل أن تسير على نفس النهج السابق، لم تدرك بعد أن شيئاً ما تغير، فهذه المرة بدأت تتكبد الخسائر الفادحة وممن؟ من مربع صغير يمكن تدميره على رؤوس أصحابه. الرجل الوحيد الذي يفهم ما يجري فعلاً هو بنيامين نتنياهو ولهذا لن يتنازل عن موقفه لأن أي تنازل يعني هزيمة إسرائيل وبداية نهايتها. أما باقي المحيطين به فهم من العسكر الذين لا يفهمون في الاستراتيجية، ولكنه سيضطر في النهاية الى القبول بالهزيمة.
4. أن العمل الشعبي أو وحدة الساحات تظهر تأثيراً متصاعداً على دولة اسرائيل، فلأول مرة في تاريخها يتم تهجير السكان من مناطق الحرب سواء في مناطق الشمال أو في منطقة غلاف غزة. كما أن اغلاق باب المندب سيترك أثراً عميقاً على الكيان الصهيوني على المدى الطويل، ولولا دعم الإمارات وتركيا لهذا الكيان وإمداده بما يحتاجه لظهر هذا التأثير فوراً، ولا أستبعد أن تهدد أنصار الله الإمارات في خطوة تصعيدية قادمة بعد خطوة منع السفن المتجهة الى إسرائيل حتى من عبور رأس الرجاء الصالح. وأعتقد أن الإمارات لا تحتاج أكثر من تهديد لتتوقف عن هذ العبث المعادي للشعب الفلسطيني والأمة العربية.
فيما يلي بعض الملاحظات حول الوضعين العسكري ثم السياسي:
الوضع العسكري:
استطاعت المقاومة الفلسطينية جرّ عدوها إلى مربعها باتباع أسلوب حرب العصابات فهي لا تملك طائرات أو دبابات، وفي هذه المواجهة التي جربت بنجاح في فييتنام والجزائر وجنوب لبنان والتي تتبع أسلوب اضرب واهرب، كانت الغلبة للمحارب الضعيف. واذا أردنا إعطاء تشبيه لما يجري في غزة، فهو مثل رجل ضخم معصوب العينين أينما حرك رجليه أو قدميه فإنه يحدث خسائر فادحة ولكن في المباني السكنية مثل المستشفيات والمدارس والجامعات كذلك خسائر في السكان المدنيين بما فيهم الشرطة ورجال الإسعاف والصحفيون. ويوهم نفسه أنه قتل عدداً كبيراً من قوات المقاومة، بينما تتحرك قوات المقاومة في أعداد صغيرة لا تزيد عن خمسة أفراد وغالباً ثلاثة أفراد أحدهما مصور يسجل حادثة الضرب التي تستهدف موقعاً أو دبابة أو ناقلة جند من حيث لا يتوقع ، تساعد في ذلك شبكة الأنفاق التي خدمت المقاومة بكفاءة منقطعة النظير. كما أن تصوير الوقائع أولاً بأول هو نمط جديد استحدثته المقاومة الفلسطينية وهو فعال في رفع الروح المعنوية للشعوب العربية.
وهكذا تم استهداف ما يزيد عن 1100 دبابة أو ناقلة جند أو تجمع للجنود. مع ما يتبع ذلك من خسائر فادحة في الأفراد، وقد لاحظنا تكتم العدو على خسائره، وهذا أمر طبيعي في وقت الحرب حتى لا تنهار الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي، ولكن سحب الكتائب والألوية من مناطق القتال إضافة الى سعيه لتشكيل ألوية جديدة، إضافة الى الطلب من الحريديم الانضمام للجيش، وهو أمر جديد لم يحدث منذ أن تشكل الكيان، إنما هي دلائل قوية على العدد الهائل من الخسائر البشرية في غزة وجنوب لبنان.
الوضع السياسي:
يمكن وصف الحرب الحالية أنها حرب الأغنياء ضد الفقراء، على رأس الأغنياء تتصدر المشهد الولايات المتحدة الأمريكية، يتبعها في ذلك دول الاتحاد الأوروبي مع بعض الاستثناءات مثل إيرلندا وإسبانيا. ثم إسرائيل ومعها مجموعة كبيرة من دول النظام الرسمي العربي بما فيها السلطة الفلسطينية التي تقف متفرجة على مذابح السكان في غزة والضفة.
أما الفقراء فهم الشعوب العربية وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني والشعوب التي تشارك فعلياً في معركة طوفان الأقصى وسينضم الى هذه المعركة باقي الشعوب العربية عاجلاً أو آجلاً فحالتها تشبه حالة الماء الموضوع في طنجرة الضغط قد تنفجر في أية لحظة، ولا نعرف على وجه التأكيد ما هو المفجر، شهدنا مثلاً في الثورة التونسية أن حرق محمد بوعزيزي لنفسه أشعل الجماهير التونسية.
لم تعرف القضية الفلسطينية مثل هذا الزخم الشعبي في جميع أنحاء العالم مثلما نشاهد الآن، وهناك عوامل كثيرة لا يتسع هذا المقال لسردها ولكن أهمها إصرار الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسيمة عبر مائة عام.
النصر دائماً للشعوب والفجر قادم.