نَخلةٌ طَريدةٌ على الخليجِ!
لا تعرفُ من أيِّ فَسيلٍ جاءَت..
أو مِن أيةِ "فصمة" (1)..
رُبَّ رياحٍ حَمَلتها للغربةِ قَسراً..
وتَهاوَتْ من عصفِ الوِدِّ إلى وَجَناتِ التُربةِ..
عَزَّ عَليها الهَجْرُ..
تَناخَتْ..
غارَتْ في أدَمِ الأرضِ..
وأمْسَتْ فاتنةً في بصراءِ النَخْلِ..
طَريدَة..
.......عِندَ شواطئِ "رأسِ البيشةِ"(
2)..
كانَتْ في عُمُرِ هلال العيدِ تُلَوِّّحُ جَذَلا لحقولِ الحنّاءِ..
مَرَتْ بجوارِ جَديلتها ثُلَّةُ فتيانٍ تَبحثُ عن سرِ الكَونِ..
سَمِعَتْ "إنكي دو"(3) يَروي حُلُماً:
الناسُ جيوشٌ من صلصالٍ رَخوٍ تَتَفَطَرُ..
تَتَدافعُ..
تَهوي في الطُرُقاتِ رُكاماً..
يأتيها قَمَرٌ من نارٍ ..
يَتَدَحرَجُ من بينَ ضلوعِ الغَيْمِ ..
يَلْهَبُها..
تَتَصَلَبُ ..
تَغدو ثيراناً من حَجَرٍ جامح..
تَتَنافرُ في إيوانِ الحُصنِ الخَزَفيِّ المَحروسِ بِجُنْدٍ من رملِ الصحراءِ..
تَمحو حَقلَ الألغامِ ..
وجدرانَ الحُصنِ الخَزَفيِّ..
وأصنامَ السُلطةِ الرَمليةِ..
.........
البَغيُّ تُرَوِّضُ "إنكي دو" كَي يَنكُثَ بالعهدِ..
وجيوشُ المُحْتَّلِ تُقَوِّضُ وَطني كي يَفتُكَ فينا أُمَماً..
.................مِنْ أرذَلِ عُمُرٍ لِرَضيعِ المَهدِ..
في عسَسَ الَليلِ المُثْقَلِ بالمحنةِ..
سِيقَ الحَلاجَ (4) إلى جذعِ النَخلةِ مَقصوباً..
تَحرِثُ ساقيهِ المَغلولةِ دَرباً للوَجدِ المُتَماهي بَينَ الخالقِ والمخلوقِ..
لَمْ يألَفَهُ الحُكماءُ..
وَلا..
وعّاظُ الخُلفاءِ المبكومينَ بِسِحتِ المالِ المَسْلوبِ..
.................
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على وَئدِ الفِكرَةِ ..
.........فاغتالَ الحلاجَ..
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على قَطعِ الخَطوَةِ..
........ فاجْتَّزَ الأطرافَ المَعْلولةَ من جسدِ الحلاجِ..
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على خَلْقِ الفُرقَةِ بَينَ الواجِدِ والموجودِ....
........فإختارَ الفِتنةَ بالسياراتِ المَلغومةِ في أسواقِ "الحِلَّةِ"...
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على كَمِّ الأفواهَ بِسَيْفِه..
.....فاسْتَقْدَمَ أفواهَ جحيمٍ ومَنابِرَ سوءٍ..
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على أن يَزرعَ وَرْدَة..
فإجْتَثَّ جميعَ النَخلِ بذاكرةِ النَهرين..
......................
.....................
شَعَرَتْ كُلُّ نَخيلِ الدُنيا بالوَجَعِ المُتفاقِمِ في روحِ النَخْلَةِ..
تَحْتَضِنُ الجسدَ الهالكَ..
والنَفسَ التَوّاقةَ للزُهْدِ بدارِ الغُربَةِ ..
سَعْياً للوطنِ الأزَليِّ النائي عن طُغيانِ القَسوةِ والزَيفِ..
يَطلُبُ قَتلاً في وَضَحِ العَقلِ..
لِئَلاّ يَخسَرَ سُلطان الأبديةِ..
يَحْنو بالجسدِ النازفِ..
فَوقَ خُشوعِ السَعفِ..
دفءً لرفيفِ الجذعِ الراعشِ..
***********
كانت نَخلَتُنا تَتَسامرُ تِلكَ الليلةَ والبدرِ المُتأرجِحِ خَلْفَ الغَيْمِ..
مَسَّتْ هامَتَها لَفْحَةُ بارودٍ ساخن..
جَفَلَتْ..
مَدَّتْ قامَتَها..
نَظَرَتْ لخليجٍ ساكِن ..
مُضْطَرِمِ الأعماقِ..
لَمَحَتْ "كوكس" (5) يَتَلَفَعُ "بِشْتاً" عربياً وعِقالاً..
يَحمِلُ "خِرْجاً" من صوفٍ داكِن..
تَتَراءى مِنهُ ملامِحَ مَلِكٍ مَذعورٍ مُسْتَورَد..
ووثيقةَ بيعٍ للمُنتَفعينَ..
فَكَّتْ نَخلتُنا فَروَتها ثاغِبَةً..
حَجَبَتْ رؤيتَها كِثبانُ الملحِ الزاحفِ نحو الأحداقِ..
هُجِرَتْ..
ما عادَتْ تَغمِرُها رائحةُ الحِنّاءِ..
تَفاقَمَ فيها الغَيظُ..
حَطَّتْ قُبَّرَةٌ فوقَ حُبوبِ الطّلعِ..
ناحَتْ..
تُنْبِؤها بدموعِ النِسوانِ المنكوبةِ بـ"الثورةِ" ..
يَحمِلْنَّ ذراعَ شهيدٍ بضلوعِ شهيدٍ آخر..
والقبرُ المُتشاسعُ ماعادَ يُصدِقُ أحلامَ الدفّانينَ المُنتَفخين..
********
كُنتُ أُطَهِرُ كَفي بالطينِ الحُرِّ الدافئِ من تَحتِ شُجيراتِ الحِنّاءِ..
أُسائلُ نفسي عن سِرِ النَخْلة "الزعلانة"..
بينَ سُكونِ "الشَطِّ" المذهولِ لهولِ الفولاذِ الدمويّ الخائضِ بِبُحورِ دِمانا....
ورفيفَ نخيلِ الوطنِ المُتَعانِقِ من أطرافِ الفاوِ إلى ناعورِ "حديثة"..
مَسَّتْ وَجهيَّ خَفْقَةُ ماءٍ باردةٍ من خورِ البَصرةِ..
تَحملُني لبساتينِ الكَرْمِ بأطراف"كَلالة"..!
–
(1) الفصمة:نواة التمرة في لهجة أهل جنوب العراق.
(2) رأس البيشة:شاطئ العراق المطل على الخليج العربي.
(3) انكي دو:صديق جلجامش .
(4) الحلاج:هو الحسين بن منصور الحلاج..صلبه المقتدر العباسي على جذع نخلة لانه رفض الانتماء إلى حزب السلطة!!؟
(5) بيرسي كوكس:ضابط يهودي بريطاني كلف بإجهاض ثورة العشرين ورسم مسار التطورات اللاحقة في العراق وإيران والمنطقة.