هاجسُ اللونِ عند الفنان سمير مجيد البياتي
«حين تكونُ اللوحةُ قصيدةً»
إنّه واحدٌ من أسرة احترفت الثقافة والإبداع، فإذا كان عبد الوهاب البياتي الشاعر الكبير يكتب بالحرف فإن سمير مجيد البياتي الفنان الموهوب يكتب باللون قصائد مختلفة تتخذ من وجوه البشر وتضاريس معانيها عوالم خاصة يقرؤها سمير بطريقة جديدة، يجعل ريشته تُعانق القلم وتمتزج بالحروف بطريقة فيها تماهٍ عجيب مليء بالإدهاش، وبسبر أغوار الكلمات إنه لا يرسم لمجرد الرسم، ولكنه يمارسُ الكتابة الإبداعية بغوايتها اللذيذة من خلال لوحاته، إنه يعمل باشتغالٍ جادٍّ على استخراج الفكرة وربطها بعالم الأديب ذاته، إن مشروعه فريد في نوعه، فوجوه سمير مجيد ليست مجرد وجوه يختارها من عالم الناس، ولكنها حياة أدبية مكتملة لا يخطُّ أول لون فيها إلا بعد قراءةٍ متأنيةٍ وعميقة في التجربة الشعرية أو القصصية أو حتى الحياتية لصاحبها، ولكي يحدد ملامح الوجه لا بدّ أن يعرفَه ويقرأه من خلال أدبه، وعوالمه الخاصة، بل وأحيانا يلزم نفسه بمعرفة مفردات قاموسه الأدبي المختلف لكي يظهر ذلك في مفردات ألوانه وملامح خطوط لوحته، إنها تجربة جديرة بالتأمّل لفنان مختلف في اختياراته وتفكيره وألوانه، إن ما يقوم به سمير من صهرٍ للفكرة بالضوء ومن مزج للكلمة باللون، ومن تعانق للأدب بالتشكيل فيه تميّز لا ينبغي المرور عليه مروراً عابرا، فلا بدّ من وقفات تأمّل عميقة كعمق صنيعه في لوحاته، إنه يقرأ الكون بعين الريشة، ويحاور القصيدة بأنغام الألوان، ويفهم الناس بلغة الظلال، وصدى الوجوه، والمعنى لديه يظهر في ما وراء الكتابة كخلفيات داعمة لوجوهه الأدبية.
إن مشروع (وجوه) الذي يشتغل عليه سمير مجيد كعمل أدبي ويطوره من لوحة إلى أخرى يكرّسُ مدرسة خاصة به تتطور كلّ يوم، وتتجسد معالمها وتنضج تجربتها مع ميلاد كل لوحة جديدة من لوحاته التي تصنع كل واحدة منها أفقاً إبداعيا جديدا ومختلفا.
ومن هنا أجدني مشدوداً إلى الحديث عن هذا المشروع لأنّه يُلخصُ-إلى حدٍ بعيد- تجربة هذا الفنان الذي يتخذ من هذه الثيمة تفرده الخاص، فالوجوه قد بدأ رسمها مع بداية معرضه الأول عام 1982م، إبان كان طالباً في معهد الفنون الجميلة بالعراق وعلى الرغم من أن رسومه كانت خطوطاً بالرصاص وبالأسود والأحمر، فإننا نلاحظ تطور تجربته حيث نراها تنمو نموا طبيعيا وموفقا على كل المستويات من الفكرة وحتى أداة التعبير بحسب معارضه الخمسة حين بدأها بالرصاص – كما قلنا- مروراً بالألوان المائية، ثم الزيتية، فالقماشية فالتجسيمية وغيرها، إنه في هذا المشروع –نعني وجوه- يتخذ من الوجوه البشرية الأدبية معلماً خاصا لتجربته في النظر إلى الحياة ورؤاها، وبذلك يكوّن بصمته ويحقق نَفَسَه الخاص، ففي لوحاته ضمن معارضه السابقة يُركز على (الوجه الحزين) وفيه تصويرات بارعة لمعالم الحزن، بحيث يغدو الحزن الشفاف هو الملهم لذة الروح الفنانة التي تتخذه معادلا موضوعيا لإبداعها ووجودها، وكأنما يقبض على تلك اللحظة النفسية الغائرة في عوالم النفس البشرية ليرصدها، ويجسد خطوطها من خلال اللون والريشة، ويعبّر عن الحزن في ملامح الوجوه بطريقة تجعل لكل لوحة عالمها الحزين الخاص، والحزن هو الأصل في حياة العربي وهو أكثر خصوصية في حياة العراقي، حيث يكون الاستثناء هو الفرح الذي لا يكاد يعرف طريقا إلى تلك الوجوه، كما في لوحات: (الرجل الحزين، والوجه البنفسجي، والغمامة، وزمن التطور وأكثر، ومناجاة، ونهاية المطاف، وغيرها مما يصل إلى أكثر من ثلاثين وجهاً مختلفاً حزينا.
إذن فالحزن حاضر في وجدان فناننا وهو يعيش معه وبه، لذلك فهو يحرص على الإمساك به وتأطيره في لوحاته، وهو لا يبتعد عن عالم الإنسان في بحثه الدائم والمتأني والأزلي عن الاستقرار النفسي في عالم مضطرب، ومن هنا يبدو تأثره واضحا في البدايات بالفنان العالمي "سلفادور دالي" الباحث عن حالة عدم الاستقرار، وعدم الثبات في لوحاته، ولكنه سرعان ما يتجه بشخصيته إلى التميز والانسلاخ عن المألوف المؤطر ليرسم ملامحه العربية العراقية يُصوّر الواقع وتلتقي لوحاته مع مفردات البيئة العربية بإنسانها وهمومها وواقعها المتغير المتحيّر.
ومن هنا لا نستغرب كيف أن لوحاته التعبيرية تحتوي على ذلك الموضوع المُلحِّ في تجربته من خلال لوحاته التي تحمل عناوين كاشفة لهذا الإحساس، ولذلكم الواقع العربي الذي يظهر جلياً في لوحات: "إحساس الضياع، وأسرار الزوارق الورقية، وأصبح البقاء كالرحيل، والحرية .. الحرية، والزنزانة، وانتظار المجهول القادم... وغيرها"، ولعلَّ ما يستوقف القارئ للوحات سمير –ربما لوقت أطول- ويجعله يقف موقف تأمّل لهذه التجربة لا يخلو من إجلال هو لوحته الرائعة عن العراق بلده الحزين المنهك، حيث يُجسد صدق التجربة لكل معاناة العراق الحديث وإنسانها المقاوم الأصيل الذي يغالب الوحل بكل دلالاته ومعانيه، فيسبح فيه، ويحمل ملامح الأنفة إنسانُه الصامدُ الذي يريد العيش والحياة فيسبح في غمار ذلك الواقع الصعب مؤكداً بنفسٍ أبية شامخة محبته للحياة الكريمة تحت كل الظروف، ولعلّها –في اعتقادي- لوحة من أبدع ما رسمت ريشة سمير البياتي، تُذكّر على مستوى الأدب الإنساني بالأسطورة العراقية الشهيرة (جلجامش)، وكيف عانى الصعاب في البحث عن شجرة الخلد وإكسير الحياة والبقاء في سبيل إنقاذ حياة صديقه "أنكيدو"، تماما كما يبحث هذا الجلجامش الجديد عن الحياة في لوحة سمير وسط هذا العالم المتسلط الخانق، إنها –بحقٍ- لوحة على قدر كبير من الإبداع تُلخّص تطور تجربته التشكيلية في أعلى مستويات نضجها.
ولعلّ تميزاً آخر لا يقل أهمية في لوحاته التعبيرية الدالة على أصالة هذا الفنان يظهر في أنه لا يرسم لمجرد الرسم، ولكنه يعيش ما يرسمه وينتجه بكل حواسّه بعد مخاض شديد بين وعيه ولا وعيه، يظهر في اللوحة التي أدهشتني حدَّ الحيرة في مقدرة هذا الفنان على تصوير أدق تفاصيل النفس وتضاريس الطبيعة البشرية داخل تلك اللوحة البديعة عن (الإنسان اليمني) في وجه رجل مسن تبدو في ملامح وجهه تضاريس اليمن مجسدة بسهلها وجبلها ووديانها وطيبة إنسانها وبراءة ابتسامته ومعاناته، وظلال الأمل واليأس، وتفاصيل الحياة اليومية إنها باختصار اليمن بين إطار من الحرفية وألوان من الدقة المبدعة، إذن هذا الفنان يعيش داخل أرواح أبطاله ثم يحاورهم ويتعرف عليهم وعلى أدق تفاصيلهم قبل أن يلتقط لهم "بوتريه" يثبت اللحظة فيها، ويرصد الحياة ويؤطر الخيال.
وللفنان سمير مجيد اهتمامات متعددة فهو لا يوقف موهبته على لون واحد في مدرسة التشكيل، ولكنه متعدد يتعامل مع خامات تشكيلية أخرى غير اللون والورق والقماش يظهر ذلك في تشكيله "للفيبر جلاس" وللمعادن والمواد الصلبة المختلفة من خلال عدد من أعماله التي نفذها في اليمن وغيرها كالعراق والأردن لشركات ومؤسسات مختلفة، أضف إلى ذلك اهتمامه بالمسرح والطبيعة ومعالمها ومخلوقاتها كمشاركته في معرض الخيل الأول عام 2006م، وديكوراته المتميزة ذات النكهة اليمنية الطازجة التي ازدانت بها استديوهات الفضائية اليمنية لحين من الزمن.
نعم إنَّ الفن لدى سمير البياتي مِلّةٌ واحدة تتعدد صوره ومواده ولكنها جميعا تقطر من روحه فناً صافيا صائغا للناظرين.
ولا ينبغي لي في هذا الترحيب بأعمال هذا الفنان التشكيلي المتميز أن أخفي إعجابي كشاعر بأعماله التي تُعانق القصائد والقصص في مشروعه الذي لا أظنني أشيع سراً حين أتحدث عنه، فهو ما يزال رهين التكوين وطور التشكّل، فهو أديبٌ مُحبٌّ للشعر والأدب عموماً قارئ له بعين مختلفة لأنه يكمل مشروعه المتميز (قصائد مصورة) حيث يقرأ تجربة الشعراء الذين يختارهم بعناية شديدة كما في عدد من لوحاته/القصائد المنجزة عن السياب، والبياتي، ومظفر النواب، وحاتم الصكر وغيرهم حين يحوّل تلك التجارب الشعرية إلى لوحات تحملُ شفرة شاعرها وقاموسه وموضوعاته الأثيرة واهتماماته بطريقة مدهشة، لا يمكن أن تقرأ في جلسة واحدة أو تستوعب في وقفة لكنها تحتاج إلى معاودة النظر في وقت طويل لا أبالغ إن قلت أنها ربما توازي وقت قارئ تجربة ذلك الشاعر أو الأديب.
وهو مستمر في مشروعه من خلال ما أسماه: (مبدعون) في تصوير وجوه نابضة للأدباء، ولأنّه فنان أصيل يحب المكان الذي يعيش فيه وأهله ممن يعرفهم ويلتقيهم ويقرأ تجاربهم الإبداعية فإنه ماضٍ في مشروعه في القراءة والرسم متابعا عددا ليس بالقليل من أدباء اليمن ومبدعيها من أمثال: أحمد محفوظ عمر، والبردوني، والمقالح، والوريث، والغربي عمران، والرويشان، وزيد الفقيه، ونادية الكوكباني، وريا أحمد ومليحة الأسعدي، وكاتب هذه السطور، وغيرهم من الأجيال المتعاقبة في المشهد الأدبي اليمني.
إنه بعمله ذلك يجسد الموضوع -عند سؤاله عن موضوعه في أحد اللقاءات الصحفية- يقول: "أنا الموضوع وغيري يبحث عن نفسه في داخلي، قد أكون بالنسبة لبعض المشاهدين صورة شفافة بإمكانهم انتزاعها ووضع وجوههم محلها.. أنا أرسم حالات إنسانية مشتركة" يا لها من إجابة فلسفية عميقة تلخص تجربته الإبداعية مع الوجوه التي يرسمها ويخلقها، بالفعل هو كذلك، وهو لا يرسم إلا بعد قراءة متأنية صبورة في المبدع وإبداعه، ومن هنا تأتي أعماله على قدر كبير من الخلود الذي ينتظرها، بسبب الجهد المبذول قبل الرسم وأثنائه وبعده.
شكراً لسمير مجيد البياتي لأنه أعطانا كلَّ هذا الضوء وجمال هذا البريق، وجعلنا نقرأ أنفسنا ونتأمل وجوهنا، فنتعرف على بعض ملامح إبداعنا من خلال هاجس ألوانه، وفضاء روحه.