مقاربات في المشهد السردي الألفيني في اليمن
تسعى القصة القصيرة في المشهد السردي اليمني الألفيني إلى الإيجاز والتكثيف؛ ويبدو ذلك واضحًا في الإصدارات الأخيرة لعددٍ من كتّاب وكاتبات القصة القصيرة في اليمن، ولعلّ ذلك لا يبتعد عن مثيلاته في الساحة الأدبية العربية، والاختصار في المدونة الكتابية (المتن القصصي) قد أصبح طابعًا واضحاً في الآونة الأخيرة، ويبدو ذلك نتيجة تأثير التكنولوجيا الحديثة على كلّ مفردات الحياة من حولنا بما في ذلك الإبداع، فالميلُ إلى الإيجاز سمةٌ انتقلت من ممارسة الشباب للكتابة الرقمية من خلال الرسائل النصية وتحديدها بعدد الحروف، كما يظهر ذلك في الهواتف والإيميلات، كما أن الشات في مواقع التواصل المختلفة، والفيس بوك، والتويتر وغيرها من المواقع الاجتماعية قد جعل المستخدم يهتم بالإيجاز والتكثيف في كلماته لإيصال الفكرة في أوجز صورها وأقلِّ كلماتها، ومن هنا بدأ يتشكّل سلوكٌ كتابيّ جديدٌ لا يخرج عن بيئته واهتمامات كتَّابه، فليس بغريبٍ - وفقاً لذلك- أن نجد كثرة واضحة في الكتابات القصصية التي لا تتجاوز بضع كلمات في الأسطر المعدودةِ عدّا.
وفي قراءتنا هذه سنقف عند المجموعة الثالثة للقاصّة سماء الصباحي بعد مجموعتيها: (اختيار، 2005م، الهيئة العامة اليمنية للكتاب، واثنان .. اثنان فقط، 2007م،مركز عبادي). وحتى تعطينا مجموعة (أنات قصيرة جداً) لسماء علي الصباحي(#) بعض مكنوناتها وتجلياتها علينا تركيز الرؤية فيها من خلال محورين اثنين في هذه المقاربة.
المحور الأول: النظر في التيمة المركزية للنص.
لعلّ ما تقوم عليه التيمة المركزية في النص هو ثناية الضميرين: هي / وأنت، وثنائية الجدليتين: الحياة والموت.
تقوم نصوص المتن السردي في بؤرتها على هذه الثنائيات وتدور نصوصها القصيرة جداً في مدارها.
في النص عدد من الموضوعات التي تشعبت منها: الزواج المبكر، صدأ الأعراف وقسوة التقاليد، السجن، الصراع من أجل تحقيق الذات، بل وأحيانا بقاء الذات، التأمل في الحياة والكون والنفس، وغيرها، ولكنها جميعا تنتظم في سلك أو سمط يجمعها هو الضمير هي، وأنت/ هو. وجدلية الصراع الدائر والأزلي بين ذاتين غير متوافقتين تخوضان حربا مزمنة لا يريدان لها أن تنتهي أو تتوقف لأنه بتوقفها ستتوقف حياتهما معاً، ولعلّ هذا التوقف هو الموت بعينه الذي يمثل مع نقيضة أو نقيضته /الحياة الثنائية الأخرى المسيطرة على النص ، فثنائية الحياة والموت تمثل التيمة الأخرى في بنية المجموعة، تحتل هذه الثنائية نصيباً في المتن السردي ولعلها من أهم مبررات الأنّات ومسبباتها فيما يبدو. ففي هذه النصوص ما يؤكد على اهتمام النص ووعي الساردة بهذه الجدلية:
"بل سلْ كم هي اللحظات التي أموتها وأنا بقربك" ص16.
"فها هو يترك كل شيء ليشرف على تحضير جنازتها.." ص27.
لو كان الموت رجلاَ..."43.
نعيش الألم معتقدين أنّه جزء من الحياة وحين يشارف عمرنا على الانتهاء ندرك.."ص 45.
"ليعتاد على الموت ولايخافه.. وليدرك أن موت القبور أفضل بكثير من موت الحياة.."ص 49.
" لكنه .. نسي الموت عندما التقاها.." ص56.
كان يظن أن الأحلام ستساعده لكي يعيش لكنها دفنته حياً.." ص60.
" كأنك ميتة في تابوت..... الوحدة مقبرة تجمع الأحياء والأموات معاً.." ص62.
من خلال النصوص السابقة- وعلى الرغم من اكتناز النص في عمومه وتكثيفه- نجد أن مفردة واحدة وهي الموت وامتداداتها أو لوازمها مثل: (الجنازة، التابوت، المقبرة، الدفن، والانتهاء ) ظلت حاضرة حضورا ملفتا، وغالباً ما تُذكَرُهذه المفردة (الموت) وتقابلها مباشرة مفردة (الحياة)، ومن خلال تَعَمّق النص نلاحظ أن الموت يأتي من مصدر واحد غالبا وهو الـ (هو) الآخر المذكر، فهل هو موت حقيقي أو موت معنوي؟ والأخير أشد، في حين أن المقابل هو (الحياة) ومصدره الـ (هي)، ومن الغريب أن اللغة تؤكد ذلك من حيث البناء فالموت مذكر لفظا ، قُلْ إِنَّ المَوْتَ الّذِيْ تَفِرُّونَ مِنْهُ فِإنَّهُ مُلاقِيْكُمْ... الآية(#) فحتى الموت الذكر يأتي في مقابل أنوثة الحياة وأنثويتها...، فكما يقابل الموت الحياة يقابل الهو الهي في صراع من بعض فوائده أنه أنتج هذا النص المكثف المختَزِن والعميق.
إذن هذا يقودنا إلى طرح تساؤل نقدي إذا كان هذا النص من الأنات القصيرة جداً نصاً يقوم في بنيته الأساسية على هذه الثنائية بين ضميرين هو وهي أو إن شئنا التحري بين هي/ أنا الراوية، وهو /أنت الغائب الحاضر، فلماذا هذا التقسيم الذي سعت إليه المجموعة بالضمائر الأخرى(أنات ..نا، وأنات.. هم، وأنات .. الأشياء)؟ في حين يبدو لنا مما يوحي به النص أن هذه التقسيمات جاءت من خارج النص وليست من داخله، بل ربما أنها جاءت لغرض تبويبي أو حتى إخراجي ، ومن هنا فإنه من وجهة نظر هذه المقاربة، نقول إنَّ النص كتلة واحدة ونص مترابط كنسيج الشاش المحكم من بدايته إلى آخر أنّةٍ فيه، ولا يكاد يوجد فيه حضور حقيقي لضمائر ( نحن وهم) لأن كل الحضور لضميرين فقط مسيطرين وحاضرين بشدة وهما ضميرا (الـ هي/ أنا، والـ هو/ أنت).
ومن خلال ما يطلق عليه التفكيكيون بالنص المرجَأ أو الغائب، ربما نستطيع تبرير حضور تلك الضمائر (نحن وهم) إنما تستدعي الغائب (أنت) الحاضر بقوة في وعي الراوية/القاصّة ولا وعيها وتجلياته حاضرة في ثنايا النص وتركيب متنه، فكل هذه الأنَّات سببها الضمير (أنت) المخاطب الحاضر وليس الضمير(هو) الغائب، وإن غُيّبَ أحياناً؛ لأن هذا الـ (أنت) هو سببٌ مباشر وعلامة ملحة وفاعلة في كل هذه الأنّات التي تصيب بالحُمّى، ولعل القصة الآتية واحدةٌ من مفاتيح قراءة الـ (أنت) وبالتالي قراءة النص عموماً:
(حين قيل لي: "إن الحمّى تخفف الذنوب"
تساءلتُ: أي ذنبِ اقترفتُهُ يا ترى لأصاب بحمّاكَ؟!!" ص12.
هذا النص على الرغم من أنه يأتي تحت عنوان أو قسم( أنات.. ها) الذي يحيل إلى الغياب إلا أنه لا يحتمل ذلك الغياب والإخفاء فسرعان ما ظهر بضمير المواجهة: أنا / وأنت، ضمائر المتكلمة( قيل لي، تساءلتُ، اقترفتُه) في مواجهة ضمير المخاطب( حُمّاكَ).
يتبعها النص في الصفحة الأخرى مباشرة:
" بين تسارع نبضي وأنت قريب منيوبين توقفه وأنت بعيدٌ عنيتملكتني حيرةٌ لا آخر لها!!" ص 13.
إذن فهذه النصوص وغيرها حوار مكاشفة واضحة بين أنا وأنت تقوم على جدلية تحقيق الذات بين (ها) وبين (هو) بين الأنثى والذكر، لا تخرج عن واقعها الاجتماعي القائم على صراع مزمن بين ذاتين: أنثوية (بأحلامها، وفراشاتها ، وألوانها واهتماماتها الصغيرة الخاصة)،
وذكورية(بسيطرتها وأنانيتها وقضاياها الخاصة أيضاً)، وتركز الكتابة هنا على الفئة النسائية المثقفة – كما يقول حميد لحمداني- "فهي التي تعاني مثل غيرها من الشرائح النسائية من سلطة المجتمع ذات الطابع الذكوري، ولكنها تواجهها بوعي خاص أحيانا، متوسلةً بالكتابة كأداة لإثبات هوية الذات وتميّزها"#، ولكن هذه الجدلية بمجملها هي الحياة في مسيرتها منذ الحضور والوجود الأول بين شريكي الحياة الـ (ذكر والأنثى) بهما تشكلت تلك الحياة ومن أجلهما كانت وبهما استمرت، ومن دونهما لا شك أنه الموت.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن في ذلك التقسيم- وإن جاء كما أسلفنا خارجياً وربما متأخراً- دليلٌ على صناعة تقوم على مهارة في الصنعة السردية تسعى إلى إبراز انسجام العنوان الخارجي( أنَّات قصيرة جدا) مع المحتوى الداخلي للنص في تقسيماته إلى ( أنات.. ها، وأنات..نا، وأنات..هم، وأنات ..(الأشياء) ويلعب الفضاء الكتابي، فضاء النص الورقي دوراً مع علامات الترقيم في استغلال إمكانات المعنى من خلال فصل الأنات عمّا تضاف إليه فتبدو حاضرة لكنها على مقربة من مضافها وليست مندمجة فيه أو معه (أنات.. ها)، ونلاحظ أن أنات ..(الأشياء) يأتي التركيز فيها على خمسة أشياء هي (المنفضة، والحذاء، والصورة، والصخرة، والورقة) وجميعها أشياء مؤنثة، وهي الوحيدة التي لها عنوان في كل صفحة مندمجا مع قصته، ويشكّل عتبة له، وهذا يختلف عن التصنيف السابق؛ حيث تبدو المجموعة بلا عناوين لكل صفحة أو أنة –كما يحلو للقاصة تسميتها- فتشكل نصا واحداً عدا ذلك التقسيم الذي نعدّه من المهارة الصنائعية أو الصناعيّة، الذي يؤكده من وجهة نظر هذه المقاربة آخر نص في المجموعة وهو على قدر كبير من الصنعة، وهو (أنة .. شاردة من المتن) (ص 74)، هذه الأنة الأخيرة تحتاج إلى وقفة متأنيةٍ، فهي تختلف في موقعها عن سابقاتها من أنات الأشياء وإن أُلْحِقت بها، لماذا؟ لأنها ليست عن الأشياء، ولكنها عن الإنسان فهل الإنسان شيء؟ .. ربما. ولكن ما علاقته بالمنفضة، والحذاء، والصورة ..الخ لعل القصد منه التشييء للإنسان –أي: جعله شيئاً- في هذا الزمن وقد كان، لكن هذه الأنة لا تقف عند هذا المستوى فهي تعرف الإنسان: بأنه مبتدأ مرفوع بالصُّراخ، وخبر ينتهي بالسكون" لكن هذا النص- وإن كان الأخير حضوره- فإنه مفتاح فهم نص البداية، بل ويحيل إليه فبعد صفحة العنوان الرئيس يأتي " لكلٍّ منا أنّاته. فالمفرد في النهاية(أنة .. شاردة من المتن)، والجمع في البداية ( أناته) دليل الاكتناز الذي لم يُفصّل بعد، وكذا نستطيع فهم التقابلات الواضحة بين (لكلٍ منا) أي نحن البشر(الإنسان) في المستهل، و(الإنسان) في المختتم، ثم يأتي متن نص البداية الموجز، فيقول:" ينزفها بصوت"، وهي تقابل " مرفوع بالصراخ، فالنزف خروج الدم، يقابله الرفع وهو خروج الصوت، ثم إن الصوت يقابل الصراخ، ثم تقول:" يصرخها بصمت في البداية، و(خبرٌ ينتهي بالسكون) في نهاية المجموعة، ولا يخفى المقابلة والتوافق بين الصمت والسكون، وكذا ما بين(وكلاهما مؤلم) في البداية، و( خبر ينتهي ) في النهاية، فالألم هناك يقابل النهاية هنا( ومؤلم) اسم الفاعل يقابل الفعل(ينتهي) وفيهما معاً روح الحركة والتجدد/ أي الحياة.
ولعلّ هذا مما يقود هذه المقاربة إلى التأكيد على واحدية النص من البداية إلى المنتهى، وقد أحسنت الكاتبة صنعا باهتمامها بالمطلع وكأنها تستجيب في صنعتها هذه لمقولة أبي هلال العسكري(ت395هـ) في كتابه الصناعتين،؛ حيث يقول:" أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فإنهنَّ دلائل البيان.."(#).
وهذا مما يؤكد ما ذهبنا إليه من إتقان الصِّنْعة في نص المجموعة المصنوعة بحرفية سردية متقنة فيها قدر كبير من الترابط في تكوّن النص وتكوينه.
المحور الآخر: لغة النص وعناصر بنائه.
لغةُ النص لغةٌ سردية خالصة تحقق صفاء النوع القصصي ولا تختلط بعالم الشعر ومفرداته، ومن خلال ذلك حققت تفوقاً وانحيازا واضحا إلى السردية، ومن هنا استطاعت الكاتبة أن تقدّم نوعاً سردياً أصيلا في ميدانه لا يختفي في ثنايا استخدامات اللغة الشعرية فيتمايل بين نوعين أدبيين أو يراوح بينهما كمشي الحِجَل، كما قد نلاحظه عند بعض التسعينيين في من كتب القصة القصيرة جداً أو( الأقصودة)، ولكنها كواحدة من الجيل الألفيني يبدو أنها تُخلِصُ للنوع السردي بوعي شديد وتمدّه بأدبية تقوم على أمرين اثنين:
التكثيف: وهذا واضح في عموم النص ويقوم على الاختزال الشديد في بناء القصة فنتج عنه اختزال شديد في عناصرها من( حدث، وشخصيات، وزمكانية، ولغة) لذا نلاحظ أن الأحداث مختصرة جداً وتقوم على تتابع الأفعال: (مدت يدها الصغيرة، تستجديه بعض نقوده القليلة، قطعها عندما طلب منها ما هو أكثر) ص63.
الحدث في هذا النص مكثف لا يتعدى الأربعة الأفعال (مدت/ تستجديه/ قطعها/ طلب منها) وهذا مما يدل على اختلاف فن القص عند الألفيّين أو القص الأحدث عما كان عليه عند من سبقهم، ثم إن الشخصيات في القصة – سواء في هذه أو في غيرها من القصص لا تتعدى الفواعل أو الضمائر فشخصياتها ليست سوى( هي وهو) ولا ثالث لهما إلا ما يتعلق بهما من أشياء أو ما قد يدور خلال رؤيتهما من ضمائر أخرى. وهذا دليل آخر على اندماج قاصّي هذا الجيل في التجريب وانغماسهم في الرهان على التكثيف، وظلال اللغة الموحية كبدائل للحكي وإسهاباته وغوايته، إذن فهم يعتمدون على غواية الإيجاز- إن صح التوصيف- وظلال ما تثيره اللغة في توقع القارئ من اتساع، وكذلك يعوّلون على حضور الحوار وغياب السرد والوصف باتساعه، لأن الحوار أقدر على الإيجاز وأكثر وصفا لدخائل المتحاورين، ومقاصدهم، وهو أيضا في منتهى الاقتصاد اللغوي.
ومن هنا فنحن أمامَ تجربةٍ قصصيةٍ تجريبية حداثية تعتمد على أحدث أساليب السرد وتستغني عن كثير من الحشو بل إن العنصر الثالث في البناء السردي ، وهو (الزمكانية) يكاد يكون غائباً عن هذه النصوص/ الأنات القصيرة جدا.
ولعل أبرز ما يدل على صفاء النوع القصصي أيضا هو احتفاظ أغلب نصوص المتن بخصوصيتها المتحققة منذ توصيف "ادجار آلان بو" لها وهي (لحظة التنوير)، ولكنها لحظة مختلفة في نصوص الكتابة الحديثة جدا إذ لم تعد – كما نص القصة القصيرة- بعناصرها الكاملة، وإنما هي أقرب إلى مفارقة الإدهاش، أو مفارقة اللحظة، تظهر في مثل هذا النص، بما يمثله -مما ذكرنا- من إيجاز في عناصر القصة ولغته الحوارية المميزة، وسرده الذي تحول إلى سيناريو مختصرٍ جداً، يقول النص:
(بصوت مرتجف سألتُه:هي النهاية؟أومأ برأسه : نعم-لماذا؟دون أن يرفع نظره إلىّ قال:-ما فائدة ما بينناإن كنتِ آخر من يصلُ عند حاجتي إليه؟!)، ص 39.
الانزياح: هذا هو الأمر الثاني من الأدبية في هذه المجموعة، والانزياح كمصطلح أدبي معروفٌ بكثرة في دراسة الشعر، كما يكثر الآن في دراسة السرد في نماذجه الجديدة بعد تكثيفها واعتمادها على الإيجاز الشديد ، والانزياح في نص سماء الصباحي يبدأ من العنوان( أنات قصيرة جداً) وهنا يختلف المعنى ويضعنا في بديل ملفت لمفردة (قصص)التي تستبدل بـ (أنات)، ولعلها أرادت بذلك أن تكون عنواناً وتوصيفا للنوع الأدبي في ذات الوقت.
ثم هناك الكثير من الانزياحات في المعنى في النصوص الداخلية بعد هذا العنوان، وهي تفيد أدبية السرد وتضفي عليها خصوصية في التعامل مع لغته (ينزفها بصوت؟، يصرخها بصمت) ص7.
وقد استطاعت القاصة أن تستخدم الانزياح مقترنا بالتناص، ومسلطاً على مألوفٍ موروثٍ فتحوِّلَ معناه في إجماله إلى سياق آخر ودلالة جديدة، وهذا يدل على التمكُّن من الأدوات والتعامل مع اللغة، فهذا النص المنقول والمعروف عن الإمام علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) ثابت في ميدانه البلاغي، ومحلق في معناه، فحين تتعامل معه القاصة فهي تحتاج إلى قدر كبير من البلاغة والتوظيف الجديد المقنع لكي نتقبل إزاحتها للمعنى إلى ما يخدمُ نصَّها ويتوافق معه في بنيته عموماً فتقول:
(لو كان الموت رجلا لقتلته.. قالبسخرية أجبتُ:أ لأنه أرأفُ بالناس مني ومنك؟!).ص 43.
إذن فقد انزاح المعنى تماماً بين الفقر والموت، بل ولعلَّه جعل الفقر أحد ممكنات وصور الموت، ثم لقد أتى التساؤل بعدَه مؤكَّداً ينفي هذا الفعل (أ لأنَّه أرأف بالناس...) هكذا يغدو الموتُ رَؤوفاً إنه انزياح مُرَكَّب، ومعنى مفارق وتناغم مع التراث وانحراف عمّا يُؤلَفُ إلى مفارقة جديدة وإزاحة موفقة، أيُّ قدرةٍ على الالتقاط للنظر، ولوجهاته قد يتميز به هذا النص لو لم يكن وراءه موهبة حقيقية وثقافة واسعة؟!.