هل لا بد أن نكتب؟
سؤال مهم جدا وإجابته سهلة ويسيرة: نعم لا بد أن نكتب، ولكن المهم ماذا نكتب؟ هل يحب الكاتب أن يظهر اسمه على صفحات الجرائد المطبوعة والإلكترونية وحسب؟ بغض النظر عن أهمية الموضوع الذي يتناوله وحساسيته وملائمته للظروف الراهنة في بلده خصوصا وفى العالم عموما؟ هل يعقل ان يقرر الكاتب ان يكتب فيكتب دون سابق إنذار من فكرة معينة تراوده فيتقرب منها ويتودد إليها حتى تصير حقيقة كائنة فى عقله وفكره ووجدانه فيؤمن بها أولا بينه وبين نفسه ثم يقرر بعد ذلك صياغتها فى شكل مقال أو قصة أو قصيدة؟
أحب المواضيع الدسمة التي تشدني وتهز وجداني وتبكيني، تأخذني في أعماقها فأغيب فيها كأنني تركت الوجود وذهبت هناك فى عالم من الفكر العميق والخيال الخصب والصور المبهرة المعبرة الجذابة، يبهرني صدق الكلمة وروعة التعبير وجمال المعنى وصفاء الفكرة لدرجة تجعلني أؤجل طعامي وشرابي وأعيد قراءة ذلك الإبداع عدة مرات حتى أختلط به ويختلط بى فنصبح كيانا واحدا وبعد أن كنا حروفا مبعثرة نتجمع لنكون كلمة جميلة يحبها قلبي هى حب وسلام وعدل وأمان وطمأنينة وكرامة.
المكافحون بالكلمة الحرة لدحض الظلم أحبهم، والساهرون يكتبون بدموعهم كلمات من نور من أجل كرامة الإنسان وحريته وسلامته وسعادته هم هؤلاء الملائكة المتخفون فى صور بشرية وهم من يهزون وجداني بما يكتبون ويسقطون دموعي بما يبدعون وهم أنوار فى الأرض تطيح بظلمات الفساد والقهر والجبروت البشرى الذي يطغى فلا يرده غير القبر ويبغى الفساد فى الأرض فلا يوقفه غير الموت، حيث خمدت أمام ظلمه كل الأصوات الحرة وقتل بكفره وفجوره كل دعاة المحبة والسلام والحرية والكرامة الإنسانية.
المناضلون من أجل قضايا تحرير أوطانهم من الطغاة المغتصبين لصوص الأوطان، سعيا وراء العدل وجلب الحرية لوطنهم المغصوب المنهوب، هؤلاء هم شموع الكون ويجب أن تجلهم البشرية وتساعدهم وتحترمهم وتقدم لهم كل نفيس من أجل استعادة الحق المنهوب وتعديل الوضع المقلوب، فمن يلوم مظلوما يكافح لاستعادة حقه؟ ومن يلوم مقهورا من أجل دفاعه عن كرامته وإنسانيته وعزته وعودة وطنه المسروق وخيراته المغصوبة.
الكلمة الطيبة تطفئ نار الحقد وتحيل بقدرة الله تعالى العدو إلى حبيب والغريم إلى صديق
(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم)
ثم علمنا القرآن العظيم (وقولوا للناس حسنا) حتى الذين ينعمون برضوان الله فى جنات الخلد يصفهم الرحمن قائلا: (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد)، والشاعر القديم زهير بن أبى سلمى كتب معلقته الرائعة التي جاء فيها
لسان الفتى نصف ونصف فؤادهفلم تبقى إلا صورة اللحم والدم
والغريب أن هناك حالة واحدة قد يحق لصاحبها أن ينطق بقول السوء وتلك هى حالة وقوع الظلم على إنسان معين لدرجة أنه لم يعد يستطيع التحكم فى لسانه من هول ما وقع عليه من ظلم وقهر وإجرام فيقول عنه القرآن العظيم:
(لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)
وهو استثناء ذكره الله تعالى ليؤكد لنا قبح الظلم وقبح الظالم وأن للمظلوم حقا لا بد أنه آخذه إن عاجلا وإن آجلا.
فلا يجب أن تذهب نفوسنا حسرات على الشتامين اللعانين بغير سلطان ولا هدى ولا كتاب منير ولنعرف أن مالك الملك يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
ألكتابة رسالة الإنسان لإشعاع النور ودحض الظلام والظلم اللذين طغيا فلم يعد احد يسمع للحق صوتا اللهم إلا اقل القليل، والكتاب هم حملة مشاعل النور فى سبيل الحرية والمساواة بين البشر على اختلاف مشاربهم وفى سبيل سعادة الإنسان -كل إنسان وأي إنسان بأي مكان وبأي زمان- وكرامته وسلامه وحقه فى التعبير والإفصاح عن رأيه ومعتقده بوسائل سلمية راقية تعبر عن إنسانيته وحقوقه.
وإن من دواعى الحزن والقلق وما يندى له جبين البشر هو كاتب لا يكتب إلا إذا شتم هذا وسب ذاك وحقر من شأن فلان وقلل من قيمة علان، فكأن الكتابة أصبحت متلازمة مع الهجاء والذم والقدح والتوبيخ والتجريح والتقريع والامتهان والإذلال وتوجيه التهم بشتى ألوانها ومختلف أنواعها دون التأكد من شيء ودون التثبت ودون الوقوف على أي حقيقة ودون الوثوق بأى مصدر ودون تدعيم شتائمه وإهاناته واتهاماته بما يقوى من مركزها فتصبح شتائم مسنودة وذات مصدر يعتمد عليه، اما الشتم والتجريح لأن الآخر ذو دين مغاير أو مذهب مختلف او فكر شاذ فى رأى الكاتب أو وجهة نظر لا تعجبه فهذا بحق أبشع درجات الظلم وعاقبته وخيمة حيث سيسأل كل إنسان عن كلماته التى قالها شفويا أو كتبها تحريريا فى يوم يفر المرء فيه من أعز الناس إليه، فى يوم يملكه الواحد القهار فهو وحده مالك يوم الدين.
أى كتابة هذه التى تكون مقدماتها شتائم ومواضيعها جرائم ونهاياتها إهانات؟ وهل يرضى قارئ يحترم عقله أن يلوث سمعه وبصره وعقله بكتابات من هذا القبيل؟ وأي كاتب هذا الذي لا يكف عن التقريع لكاتب آخر ولا يخجل من تكرار شتمه آلاف المرات؟ ومتى كانت الشتائم حجة؟ ومتى كان التجريح برهانا؟
الشتائم دليل ضعف وبرهان عجز لدى الشاتم الذي يفشل فى الوصول لرأى مقنع فلا يجد أمامه سبيلا غير الشتم والتجريح والإهانة لغريمه في الرأي ظانا أنه بذلك ينتصر وهو فى حقيقة الأمر ينزوي ويندحر وينتحر!! دون أن يدرى.
المفكرون وأهل الرأي وأهل العلم وأصحاب النظرة الثاقبة لا يوافقون ولا يعتمدون القدح والذم والهجاء أسلوبا للنقاش إلا عند عاجز ضعيف لا يرقى لمستوى شرح فكرته وتبيان وجهة نظره فيلجا إلى ذلك الأسلوب المرفوض وهو الشتم والتقريع والهجاء.
ألغريب هو وجود باب أدبي فى كتب الأدب العربي اسمه (الذم والهجاء) لأمثال الفرزدق وجرير وغيرهما حيث كانت تعقد لهم الندوات ليشتم كل منهم الآخر بأقذع الألفاظ وقد يذكر كلاهما صفات تمس أم أو أخت الآخر أو أصله (عرقه) أو لونه فإذا كان اسود البشرة فله شتائم معينة والأسود أيضا يهجو الأبيض بما عنده مما لذ وطاب من الشتم والتقبيح والتقريع والإذلال والإهانات المختلفة، وعلى الجانب الآخر يقوم نفس الشعراء الهجاءون بمدح أسيادهم من الحكام للحصول على المنح والهدايا والعطايا مما يعنى أن الشتام أو الهجاء لديه المقدرة المزدوجة على شتم وإهانة إنسان ثم مدح وتعظيم وتوقير آخر ولكل موقف حجته الدامغة.
هل التلذذ بشتم المختلفين معنا صار ثقافة محسوبة علينا؟ وأين هى لغة الحوار الكريم الجاد الحر الشريف الذى يحتفظ للآخر المختلف باحترامه كإنسان وبحقه فى هذا الاختلاف؟
أرجو أن نكتب لكي نبنى لا لكي نهدم ولكي نضيء لا لكي نزيد الظلام سوادا ولكي ننشئ أجيالا تحترم الفكر والفكرة وتوقر كرامة الإنسان وتؤكد عليها لا نريد أجيالا تسحق المختلف وتحرقه وتقتله، فتعسا للدنيا لو تحولت لغابة وتعسا للبشر لو تحولوا لوحوش ضارية يأكل كل منهم لحم أخيه الإنسان:
(أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه)؟؟؟