هل نحن أمة متخلفة؟؟
لن نتحدث هنا عن عوامل التخلف العربي، ولن نتحدث عن مظاهر التخلف العربي في جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية... الخ. فهذا ميدان واسع لن تشفع لنا عجالتنا هذه بالخوض فيه بشيء من التفصيل. فهناك مئات الدراسات المنشورة حول هذا الميدان منذ ما يربو على مئة وخمسين عاماً وحتى يومنا هذا، وقد كنت قد فرغت من تأليف كتاب موسوم بـ «نظرية المعرفة والواقع التربوي العربي المعاصر» سلطت فيه الضوء على مظاهر التخلف العربي في الميدان التربوي والثقافي، وعزوت السبب الرئيس لهذا التخلف إلى عوامل معرفية صرفة، وقد بينت في هذا الكتاب أنّ مآلات نظرية المعرفة في الفكر الإسلامي قد أدتْ إلى تشكيل العقل العربي الذي يحوي جملة المبادئ والقواعد والمفاهيم والإجراءات التي تتوفر لدى الإنسان العربي في قدرته على التحليل والتمييز والحكم على الأمور في المجالات كافة، وقد أدى شيوع اتجاهي؛ البيان والعِرفان، وتراجع اتجاه البرهان (= الاتجاه العقلي) إلى تشكيل ثلاث سلطات معرفية هي: سلطة اللفظ، وسلطة الأصل، وسلطة التجويز. وقد نتج عن تفاعل هذه السلطات الثلاث عبر شيوع الاتجاهين؛ البياني والعرفاني في الثقافة العربية الإسلامية ظهور أداءات ذهنية تحارب التفكير العلمي، وتحارب استخدام العقل عموماً، فأصبح الوعي العربي وعياً متخلفاً يستبدل الأفعال بالكلمات، ويستبدل وجوده الواقعي بوجود لفظي وغيبي وسِحري بعيد عن الواقع، وشاعتْ مظاهر التعصب والتسلط وتعطيل المبادرة والحرية والعمل الإرادي والعقلي، وشيوع ثقافة تستند إلى الجبرية والاتكالية والاتباع بدلاً من الحرية والتجديد والإبداع، وشيوع أنماط التفكير الخرافي والأسطوري والسحري والدوغمائي، وأنماط التفكير المزدوج، والمواقف المزدوجة والتلفيقية من مظاهر الحياة المختلفة، وحالات الاغتراب الثقافي والاجتماعي، ناهيك عن اعتزاز الإنسان العربي بقيم الجهل والتخلف والأمّية.. وغيرها من المظاهر التي سنتوقف عن سردها الآن.
لكننا نتساءل، هل نحن بالفعل أمة متخلفة؟
إن هذا التساؤل يذكّرنا بالمقابلة الصحفية التي أجرتها صحيفة «اللوموند الفرنسية» مع عبد الكريم الخطيبي، حين سأله المراسل إنْ كان يوافق على قول بعض المثقفين العرب بأنّ التخلف العربي ليس تخلفاً بالمعنى الصحيح، بل هو وصف مغرّض للواقع العربي، فكان جواب الخطيبي: «هذه سفسطة، بل ديماغوجية». فمهما حاول العرب إنكار مسألة تخلفهم، فإن هذا لن يغير من الواقع شيئاً، ومهما تغنا العرب بأمجاد الماضي، فإن هذا الغناء العذب سيتحول إلى عويل حين يخرجون من حالة الطرب ونشوة الجذلان وسكرات اللاوعي، إلى حالة الوعي والواقع الصارم في أحكامه وفي معطياته.
لن نثقل على القارئ بكلام فلسفي يبعث على الضجر، ولا بكلام أدبي يستثير فينا القلق ويوقظ الشجون، بل سنأخذه في رحلة صغيرة جداً ليتعرف على بعض مظاهر التخلف العربي البسيطة، والتي يستطيع أن يتلمسها أينما حلّ أو ارتحل. ووجهتنا في هذه الرحلة إلى مدينة لندن، هذه المدينة التي تعج بملايين البشر بين مقيمين وسائحين وطلاب علم وقاصدي علاج.. وغيرهم.
ولست أدري من أين أبدأ؟ لكن، لنبدأ عشوائياً من حديقة الـ«هايد بارك»، تلك الحديقة التي يقصدها هواة التزلج وهواة ركوب القوارب وهواة لعبة الروقبي وكرة القدم وهواة التصوير وهواة الركض، إضافة إلى قاصدي الاستمتاع بالمناظر الطبيعية والاستجمام وناشدي الاسترخاء. لكنك ستجد في أثناء زيارتك لهذه الحديقة أسراباً من العرب يتسكعون بخطوات متثاقلة وعيون عطشى بحثاً عن الجنس والمغازلة، فهناك حفنة من الشباب يلقون بأوراق مكتوبة فيها أرقام هواتفهم النقالة للفتيات الجميلات، سواء كنّ عربيات أو غير عربيات، وهو ما يعرف في بلدانهم بمصطلح «الترقيم». وستجد أطفالاً يؤذون الطيور الجميلة كالحمام والبط والأوز، ويرمونها بالحجارة أو يسكعونها بأرجلهم، كل هذا يحدث بمرآى ومسمع من آبائهم وأمهاتهم الذين تعلوا قهقهاتهم نشوة وحبوراً بسلوكيات أطفالهم الخاطئة، فلا تكاد تسمع من أب أو أم عبارة زجر أو نهي لهذه التصرفات غير الحضارية، هذا إن سلمت الطيور من مشاكسات الكبار والبالغين. أما إن تحدثنا عن طرق إطعام الحيوانات في الحديقة فستجد أن للعرب أسلوبهم الخاص في ذلك، أسلوب يختلف عن باقي أساليب الأمم الأخرى، ويتلخص هذا الأسلوب بإحضار كميات كبيرة من الخبز وأحياناً من الحلوى وإلقائها على الأرض، فليأكل الجميع وليراقب العربي الجالس مع أسرته منظر تلك الحيوانات وهي تلتهم كسر الخبز أو الحلوى، لتغادر المكان وقد بقي الكثير منه في الأرض. لا ضير، العربي والإسباني كل منهما يطعم الطيور والسناجب، لكن الأول يطعمهم بطريقة مقززة، والآخر بطريقة متحضرة وجميلة وممتعة.
وإذا خرجت من حديقة الهايد بارك، إلى شارع العرب المعروف بـ «إدجور رود» والذي يقع على مقربة من الحديقة، فستجد ظواهر غريبة كلها تؤشر على تخلفنا وانحطاطنا القيمي، فهناك سيارات فارهة تجول الشارع ذهاباً وإياباً تحمل أرقاماً مميزة اشتروها أصحابها بملايين الباوندات في معارض المزادات، وإذا استرقت النظر إلى من بداخل هذه السيارات فستجد شباباً منتفخين في كل شيء، شعورهم منتفخة، وبطونهم منتفخة، وأعناقهم مشرئبة، تماماً هي حالة التكبر والتصنع والتشنج التي تصيب الإنسان المغرور، وليت شعري، هل كان غرورهم في شيء ينفع أمتهم أو ينفعهم أنفسهم؟ هم في حالة من الاستعراض في هذا الشارع، كحال عارضات الأزياء اللاتي يذهبن على طول منصة العرض ويأتين، لكن الفرق فيما بينهم، أن عارضات الأزياء يلاقين اهتماماً كبيراً من المنشغلين بالتصاميم، وتلاحقهن الأعين وعدسات التصوير من كل اتجاه، وفي النهاية يدفع لهن أجراً لقاء ما قدمن من عروض، أما هذا العربي المسكين، فلا يجد اهتماماً ولا استحساناً من أحد، بل يجد استهجاناً وتقززاً من سوء فعلته، وهو مع هذا قد صرف الملايين على جولته التسكعية هذه دون أن يجني شيئاً... بالفعل هو مسكين، لأنه كالذي يرقص بالعتمة.
ولا تستغرب إن مشيت يوماً في شارع الإدجور فسمعت صوت فتاة عربية تشتم وتلعن شاباً عربياً آخر يلاحقها ويحاول أن يعطيها رقم هاتفه، لا تستغرب، ولكن عليك أن تعض أصابعك ألماً وحسرة على سلوك سئمناه في بلداننا، فنقله العرب معهم إلى لندن. لقد شاهدت كثيراً من هذه المواقف في هذا الشارع، وكنت أرقب عيون الأجانب إلى هؤلاء الشباب، وكأنهم يقولون في أنفسهم: «بالفعل أنتم عرب».
لقد فهم الإنجليز أنماط تفكيرنا ورغباتنا وسلوكياتنا، فلا ضير حينئذ أن تجد الـ«إدجور رود» مليئاً بإعلانات الدعارة وبائعات الهوى، وذلك بشكل ملحوظ وكثيف مقارنة بأي منطقة أخرى من مناطق لندن، وذلك لسبب بسيط وواضح، وهو أن الجنس من أكثر ما يشغل بال الإنسان العربي ويستهويه. ويكفيك أن تقف في إحدى كبائن الهاتف المنتشرة في هذا الشارع وحوله لترى أرقام الهواتف المعلقة كإعلانات للجنس بكافة أنواعه. ليس الجنس فحسب، بل إنك ستجد إعلانات قراءة الكف والطالع والفنجان وضرب الودع والخط بالرمل والحظ والنصيب تلاحقك في هذا الشارع أيضاً.
إنك لو رصدت سلوكيات أعداد كبيرة من العرب في لندن، فستكتشف أشياء يصبح معها الحليم حيراناً، فذاك عربي اشترى شقة مطلة على نهر التايمز بملايين الباوندات، وآخر فعل فعلته بشقة مطلة على الهايد بارك. وتلك فتاة عربية اشترت حذاء مطرزاً بالألماس من متجر «هاررودز» بمليون باوند، وأخرى مثيلتها تسوقت من نفس المتجر بسبعة عشر مليون باوند.
أما لو تحدثنا عن واقع العرب في الجامعات البريطانية، فهناك سنقول عجباً عن عربي أعرفه جاء ليدرس اللغة فمكث ثمانية أشهر في نفس المستوى دون أن ينتقل إلى المستوى الأعلى، وأعرف عربياً يدرس الطب في لندن منذ سنوات طويلة، وهو إلى الآن لا يستطيع تكوين جملة إنجليزية مفيدة. وأعرف أعراباً متميزين في لباسهم وفي قصات شعورهم، فهذا يلبس بنطالاً أحمر اللون وتيشيرتاً أصفر فاقع لونه، يظن أنه يسر الناظرين، وذاك طالب عربي ينفق على الفتيات في ليلة واحدة ما يكفي لإعالة عشرة أسر فقيرة في بلداننا العربية.
لو تحدثنا، فسيطول الحديث، ولكن حسبنا ماذكرنا، وحسبنا أن نشير هنا إلى ملاحظتين، الأولى: أننا لا نعمم ما ذكرنا على جميع العرب، وإنما نحن نستعرض سلوكيات فئة منا، صحيح أن هناك كثيراً من العرب نفتخر بهم وبإنجازاتهم وبإبداعاتهم في مجالات متعددة، ولكن هذه السلوكيات التي عرضناها تصيبنا جميعاً بنظرة الآخرين لنا، وهو ما يعرف باللغة الإنجليزية بمصطلح [1] أي الصورة النمطية. فحين يسلك بعض العرب مثل هذه السلوكيات، فمن أين لنا أن نقنع الآخرين بأن هؤلاء لا يمثلون كل العرب، بل يمثلون عينة منهم، على الرغم من أن هذه العينة واسعة وعريضة. أما الملاحظة الثانية: فتكمن في أن هذه السلوكيات لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج عمليات التنشئة الاجتماعية التي نتعرض لها في مجتمتعاتنا العربية، وعمليات التنشئة الاجتماعية هذه، لا يتعدى دورها - في معظم الأحيان- دور إعادة إنتاج التخلف في أجيالنا الجديدة. وإذا كان السلوك الإنساني انعكاساً للأنماط والبنى المعرفية للإنسان، فإننا وبدون شك لا نزال نرسف تحت وطأة التخلف المعرفي والثقافي.