السبت ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم غزالة الزهراء

هيفاء

تجر قدميها المرهقتين من مكان إلى مكان طامعة في يد رحيمة تستلها من بؤرة التوهان، الطوى أنهك ممشاها، وعصر أمعاءها حتى كادت تقيء، عليها أن تبحث عن قطعة خبز لتسد بها قرقرة أمعائها، لا يهم إن كان الخبز يابسا ومضمخا بالعفونة، ستقضمه بين أسنانها لتخرس عواء الجوع، لا تطمع إلا في كسيرات يابسات عافتها البطون الملآنة.
رائحة دجاج مشوي تنبعث إلى أنفها زكية شذية كالياسمين فتخدر خياشيمها وبالتالي تتسلل بتؤدة إلى أمعائها، فما أطيب تلك الرائحة وما أشهاها !
سال لعابها بقوة فبلل ذقنها، تقدمت رويدا رويدا نحو المكان، رواد كثر من مختلف الأعمار غارقين في التهام اللقمة إلى حد النخاع، لم لا تتمتع هي الأخرى بكرسي مريح بينهم؟ هذا حلم لذيذ ورائع ولكنه بعيد المنال، سيطردها صاحب الشأن شر طردة لأنها لا تملك ولو دينارا في جعبتها، المدينة لا تعترف قط بمثيلاتها لأنهن عبء ثقيل يربضن فوق صدرها.
أطالت الوقوف أمام الباب، نهرها صاحب المطعم بصوت خشن لا رأفة فيه: انصرفي من هنا وإلا.....
ـــ سيدي، أنا جائعة، أريد قطعة خبز ليس إلا.
ـــ مثيلاتك كثيرات، التسول بات هوايتكن المفضلة.
راحت تلح بشدة: أريد قطعة خبز فقط، أرجوك سيدي.
ثم أجهشت بالبكاء.
لم يتأثر لحالها البائس وكأنه يملك قلبا من حجر الصوان.
ازدادت اقترابا من الباب مترجية إياه والعبرات تسفح على خديها مدرارا: أكاد أموت جوعا يا سيدي، ألا تحييني بقطعة خبز؟
اهتاج غضبا، وانثال عليها ضربا مبرحا أمام مرآى الناس جميعا.
انتصب أحدهم من مجلسه تاركا ماكان يتناوله، وقفز إليه ليوبخه على فعلته اللاانسانية التي ترتكب في حق فتاة بائسة لا حول لها ولا قوة.
ـــ ألا تخالج قلبك ذرة من الرحمة يا رجل؟ أبلغت بك القسوة ذروتها إلى هذا الحد؟
ـــ ما شأنك بي؟ أتحشر أنفك فيما لا يعنيك؟ أتدافع بضراوة عن فتاة لا تعرفها؟
ـــ مادامت أنها من احساس ولحم ودم سأقف في صفها لأنك ظلمتها من غير وجه حق، أنت ظالم ومستبد لن يشفع فيك الرب يوم القيامة.
التهبت المناوشات الكلامية بينهما كما النار في الهشيم، ولم تنطفئ شرارتها الحارقة إلا من بعض الأخيار الذين تدخلوا لفض هذا النزاع.
مسك بيد الفتاة قائلا: لا تقلقي، سنلج معا إلى مطعم آخرتسوده الرأفة والطمأنينة، وستتناولين ما تريدين.
ـــ ليس في حوزتي......
وانكمشت في كهوف الصمت.
ـــ أعرف ذلك، أنا من سيدفع، اطمئني.
طلب لها ما لذ وطاب من الأطعمة، وقال لها وابتسامة الرضا تجلل شفتيه: تناولي غداءك بكل أريحية، ولا تهتمي بتاتا بالذي حدث مع ذلك الذي......
صمت للحظة ثم تمتم بصوت لا يكاد يسمع: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ما إن فرغت من طعامها حتى تكهربت فجأة وكأنما هاجمتها وحوش الخيبة جيوشا مدججة بالانكسار: انظر، انظر إلى هناك يا سيدي، والدي قادم.
باسغراب كبير: والدك !؟ ألك أب على قيد الحياة وأنت في حالة رثة تمزق نياط القلب، وتدمع لها الأعين؟
ـــ أنا خائفة، خائفة منه يا سيدي.
هدأ من حدة اضطرابها: في وجودي لن يجرؤ على مس شعرة من شعيرات رأسك.
مرت لحظات قصار، اتخذ الرجل مكانا بعيدا عنهما، الحمد لله فالفتاة مديرة ظهرها له، جحافل الخوف زعزعت سكينتها، وصيرت مذاق الطعام في حلقها إلى مرارة حنظلية لن تقاوم.
ـــ لا تتحركي من هنا، ابقي في مكانك هادئة، بعد حين سأستل من أحشائه الحقيقة كاملة.
امتثل أمامه، وسأله: أتسمح لي بالتحدث إليك؟

ابتسم الرجل ذو العقد الخامس من العمرابتسامة عريضة، وهتف بابتهاج لا يوصف: تفضل، كيف حالك؟ أأنت بخير؟ صدفة جميلة أليس كذلك؟
ـــ أتعرفني؟ أخبرني عنك.
ـــ أنا أشرف، تلميذك الذي ذاق العلم على يديك، ألا تتذكرني؟
ـــ ما عادت ذاكرتي متوهجة كالسابق، لا أتذكر إلا القليل القليل.
سأله وتلك الابتسامة لا زالت تتراقص بمرح على شفتيه: ألم أكن ضمن الأقلية التي ادخرتها في صندوق ذاكرتك؟
ـــ للأسف ما كنت من بينهم.
ـــ أما زلت تمارس مهنة التعليم يا سيدي؟
ضحك المعلم وقال بارتياح: لقد أحلت على كرسي التقاعد منذ مدة.
واتخذ الحديث منحى آخر حيث طفق المعلم ينبش في بستان حاضره عساه يصل إلى ما يريد.
ـــ ألك أولاد؟
هز أشرف رأسه وقال: لي ولدان وبنت.
ـــ هذا جيد، الأولاد هم هبة من الله، وهم زينة الحياة الدنيا.
وتابع سائلا إياه: هل هم بأحسن حال؟
تلبد وجه أشرف بسحابة حزن، وتنهد قائلا في انكسار واضح: الولدان بخير، أما ابنتي هيفاء......
وابتلع ما أراد التصريح به.
ـــ افصح عما يعتمل في صدرك من نيران الضيق والغم، أنا كلي آذان صاغية، ولا أتوانى أبدا في تقديم يد العون لك.
ـــ ابنتي هيفاء تاهت مني، لم أعد أراها لحد الساعة.
ـــ ما سبب اختفائها؟
ـــ لقد هددتها بالعقاب العسير إن لم تحظ بنتائج طيبة في دراستها، والآن ها أنذا أدفع الثمن باهظا لسوء تصرفي مع صغيرتي، منذ اختفائها تحولت حياتي إلى قبر مظلم لا نسمة فيه ولا بهجة،و......
قاطعه المعلم زارعا في نفسه أملا لن ينطفئ: ابنتك موجودة على قيد الحياة، لا تفرط فيها ثانية، شد على يدها، واغمرها حبا واهتماما، وادفع بها برفق إلى بر الأمان، ولا تنس بأنها مسؤولة منك.
هتف الرجل باكيا من شدة الفرح: أين هي؟ أين وجدتها؟ وكيف عرفت أنها ابنتي؟ قل أين هي؟ أين هي؟
ـــ هناك.
وأشار المعلم بأصبعه إلى تلك الطاولة.
في رمشة عين وجد نفسه أمامها، احتضنها بقوة، وأخذ يقبلها والدموع تنهمر على وجنتيه من غير هوادة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى