وانطفأت شمسي
جلست بثياب العزاء السوداء على كرسي الصمت أرتل في أعماقي صلاة الراحلين وفي يدي شهادة نجاح تيماء في الصف الثالث العلمي: شهادة لجسد وروح واصلت طريقها حتى النهاية في رحلة العذاب والمرض.
سمعت موسيقى خطوات ابنتي تيماء ، دخلت الغرفة بوجه تتعرش فيه الطفولة قائلة: أمي.. أمي لقد قررت أن أدرس الطب البشري، عندما أحصل على الشهادة الثانوية، سأجد الدواء لكل الذين يعانون من مرض انحلال الدم وامتزج صوتها مع غصة من البكاء حتى لو لم أستطع إنقاذ نفسي، ابتسمت لها ابتسامة خافتة ووقفت بلهفة الأم الحنون كي أضمها إلى صدري، ولكن الذي كان، كان سراباً لا أكثر في صحراء الخيال الخضراء.
نسيت أن ابنتي قد توفيت منذ شهور وأنني مازلت أراها كيفما تحركت، أسمع صوتها... أخاطبها،أخذ الألم يتنامى بلا عطف من جديد وارتفع نواح قلبي الضعيف، وأخذت أدور كالبيكار في دائرة صمتي المرير.
أمسكت قلمي ودفتري لعلّ نتاج القلم يلبسني ثوب الصبر، وعدت بالذاكرة إلى طفولة ابنتي تيماء، في الشهور الأولى شعرت بشعور أسمى من الوصف لم أكن أصدق بأنه سيصبح لدي طفلاً يزرع في حياتي معنى جميلاً للحياة، وفي عيني شمساً دائمة العطاء، سأضمه إلى صدري، وعندما أرضعه سأشعر بأنني أقدم كما لم أقدم من قبل ،ستكون سعادتي مثل سعادة طفل زاه بخطواته الأولى ،غداً ،عندما سيبكي طفلي في ليالي الشتاء الباردة سأقوم بكسل، قد يكون مبللاً، سأشعر بالبرد يوخز جسدي ولكن دفء الأمومة في أعماقي سيبعث في جسدي الراحة والدفء، وعندما أتغيب عنه خلال ساعات عملي، سأعود بلهفة المغترب إلى دياره لأطبع قبلة طويلة على جبينه، ستدغدغ ضحكته البريئة أذني وسيغرد الدم في قلبي عند سماع كلمة: ما... ماما.
وتفتحت في حياتي زنبقة صغيرة شدت إليها الأنظار منذ الساعات الأولى لولادتها ، بعد يومين شعرت بتغير لونها المفاجئ حملتها إلى الطبيب فطلب إجراء بعض التحاليل، وكانت الصدمة الكبيرة عندما أخبرني الطبيب أن ابنتي مصابة بانحلال الدم،المرض وجد في عائلة زوجي غدير حيث أصيب به اثنان من العائلة، وبدأت حياة ابنتي المرهونة للموت مع نقل أكياس الدم وإعطائها الإبر،كنت عندما أضمها أكثر إلى صدري وأتذكر أن الموت يجول مع الدم في دورانه الدوري، أضمها أكثر والنار تتأجج في داخلي.
كبرت صغيرتي حتى أصبحت في ربيعها السادس، ومرة دخلت غرفتي مهفهفة ثوبها الأحمر،جلست بجانبي كعروس خجولة وبلدغة الراء قالت: أمي لماذا أعطى الإبر دائما... ؟ لماذا أعطى الدم ؟ نظرت إلي بعينين مفتوحتين تنتظر جواباً.. كانت عيناها تتفحصان كل حركة أقوم بها، أحست أنني مجرمة أية حركة أقوم بها قد تودي بي، وإذا المحقق طفلة.... طفلة صغيرة جردتني بكل براءة من رداء الكذب الذي أتنكر به.
رفعتْ عن يدها البيضاء الغضية وقالت بعينين مفتوحتين: أنظري يا أمي كيف أصبحت يدي ثم رفعت عن الأخرى وقالت: وهذه كذلك، ولكن لماذا أصدقائي ليسوا مثلي ؟ لماذا أنا وحدي هكذا ؟ لم أعد أريد أن أعطى ولو أبره واحدة، فكل من يراني يسألني عن هذه البقع، والآن ماذا أقول ؟ حبست لهذا الموقف ألف حساب، وعندما وضعت به لم أستطع التفوه بكلمة، اختفى صوتي، نظرت إليها كانت تترقبني تتفحصني وتطلب جواباً لسؤالها المغموس بالعذاب، لم أكن أعلم كيف أبدأ، كيف أشرح لها ولم أجد حلاً إلا أن أشرح لها بشكل علمي عن كريات الدم وانحلالها بعد فترة، محاولة ترويض دموعي الخائفة من أسئلتها.
كبرت تيماء وازدادت جمالاً وروعة، كانت تسلبُ الناظر بعينيها كأنهما غابتان خضراوان فاتحتا اللون، مسطرتين برموش سوداء مكحلة تلعق حاجبيها المنحدرين مثل هضبة هادئة، فمها الوردي الصغير شعرها الأسود الغجري الذي ارتمى فوق أردافها النحيلة، ولكن و يا للأسف فبقدر ما أعطتها الحياة من الجمال و ما وهبتها من الروعة و الفتنة سرقت منها أهم وأغلى شيء في الوجود، ألا وهو الصحة تفوقت في دراستها كانت شعلة من الذكاء وعندما أصبحت في الحادي عشر من عمرها دخلت البيت ذات يوم ربيعي باكية متألمة، دخلت غرفتها وأغلقت الباب بسرعة طلبت منها أن تفتح الباب ولكن صوت بكائها ازداد، طلبت مني أن أتركها فهي لا تريد رؤية أحد قالت لي: بأنها لا تحبني ولا تحب والدها، وصمتت...صمتت لتسمع نشيج بكائي، صدى كلماتي، لم أتفوه بحرف، كلماتها كانت كافية لإجابتي دون سؤال، جلست على أرض مرارتي وأسندت ظهري على باب غرفتها لطالما حاولت إخبارها الحقيقة كاملة، لكنني لم أستطع، هل بيدي أمزق أحلامها؟
ها قد علمت بطريقة ما ولم تجد أحداً معها في صحراء الضياع، بل وترفض أية يد تمتد لمساعدتها.
عندما دخلت غرفتها في المساء نظرت إلي بعيون مرهقة كعيون المرافئ، حاولت إخفاء اضطرابي اللا إرادي، أمي لماذا لم تخبريني حقيقة مرضي كاملة ؟ لماذا تركتني أتخبط في بحر من الأسئلة دون جواب ؟ لماذا تتحدثين عن الصدق و أنت لم.. خرجت و لم أقل لها إلا كلمة " لأنك ابنتي ".
رفضت إعطائها الإبر، طلبت مني أن أتركها تموت فهي لم تعد ترغب في الحياة و وقعت طريحة الفراش لتغدو زهرة بلا عبير،حاولت تدثير جروحي بورد الصبر الأليم لكن عبثاً.. عبثاً علب التدخين اللا محدودة و الموزعة في أرجاء البيت ما استطاعت منحي و لو لحظة من الراحة الكاذبة في رحلة الفكر إلى عالم اللاوعي.
هكذا اقتربت ساعة الموت من تيماء، و بدأ نزيف القلب و العيون، تحول البيت إلى مكان موحش مظلم كالمقابر، لا أحد يقطع هذا الصمت إلا هذياناتها المضطربة في غيبوبة المرض و خطواتنا الصماء تقطع الغرفة جيئة و ذهاباً.
بقيت أسهر الليالي على راحتها و أنا أجهز نفسي لليوم و الساعة التي سأدخل بها غرفة تيماء، أناديها بصوت مبحوح.. ابنتي.. استيقظي.. دون أن تجيب.
كان منزل الطبيب قريباً من منزلنا مما جعله يتمكن من زيارتنا كل فترة.
و في يوم ممطر، دخلت غرفتها بخطىً شاردة و قلب كجمرة النارجيلة الحمراء، كان منظر ذلك الصباح الكئيب و الأنوار الشاحبة و الستائر الموحشة قد تمكن من قتل الأمل في داخلي، و رأيتها تمسك أحد الكتب بين أناملها، لم أصدق عيني أحسست بقلبي يرقص فرحاً، و ريشة تدندن على أوتاره أغنية لأمل جديد و أشرقت شمس الأمل في وجهي و لملمت ستائر الحزن و أرسلت زفرة تحمل عذاب الثلاثينات المبكرة، ابتسمت لها ابتسامة زركشت وجهي ألعجائزي، ابتسمت لي و قبلت جبيني و وضعت رأسها على كتفي.
عادت وحيدتي إلى مرافئ الحياة برغم مرضها فيما أخذت أترقب بخوف تلك الساعة، لا أعلم يا تيماء لماذا أخذ يراع الأمل ينغل في جسدي، كنت أشعر أنك ستبقين لي ؟ ستحصلين على الشهادة الثانوية، ستدخلين الجامعة، ستدرسين الطب، ستأتين يوماً و الخجل باد على وجهك و أنت تخبرينني أن شخصاً سيتقدم لخطبتك، سأبكي و أنا أزفك..
نجحت تيماء إلى الصف الثالث الثانوي، و بدأت مرحلة جديدة من الاجتهاد و الدراسة المتواصلة، كنت خائفة على تيماء فالإرهاق يفتك بجسدها مثل سكين جزار و ما كنت أخشاه حصل، فقد ازدادت حالتها سوءاً، شحب لونها و كلل بالسواد و الاصفرار و وقعت طريحة الفراش، كانت تيماء مثل هذا القلم الذي أرسم فيه دموعي على هذه الأوراق لا تتحرك إن لم أحاول تحريكها، طلبت من الله أن يرحمها كفى عذاباً لها.
كنت أرفض كل الرفض مجرد التخيل بأني سأفقدها أنني سأقف على حافة قبرها و أقرأ الفاتحة على روحها، و بفضل الأطباء الذين ما تركوا تيماء و بعون الله تحسنت صحتها، و عاد الحسون ليغرد من جديد،لم أترك تيماء ترهق نفسها بالدراسة رغم محاولتها إقناعي، لكني لم أستطع وضع حاجز بين تيماء و دراستها عند بدء امتحان الشهادة الثانوية.
كنت أترقب عودتها بلهفة العاشق و أنا أبكِي دون إرادة وجع السنين و مرارة الذكريات.
في آخر يوم من أيام الامتحان، اتصلت بتيماء لكن أحداً لم يجيب، اعتقدت أنها مع إحدى صديقاتها.
عندما عدت من عملي، وجدتها ممددة بجسد متراخ له اصفرار الزعرفان ، وقفت بذهول للحظة ثم نقلتها إلى المشفى كانت حالة تيماء خطيرة، سقطت طريحة الموت الذي أخذ ينشب مخالبه في وجهها و يغرس سيفه المصقول في جسدها، صداع أليم رهيب ألم بها، أصبحت مجرد هيكل عظمي متهافت فقد مرونته و قدرته على الحركة، عيونها أصبحت غائرة ذابلة، بقيت مع تيماء في المشفى، جلست مع الموت في غرفة واحدة، تحاورت معه عن إمكانية الخلود و البقاء، لكنه كان ينتظر رفة عيني ليطعنها بمديته السامة.
في منتصف الليل شهقت تيماء شهقة الطير المذبوح قائلة: أماه.. أماه و ثار بركان أمومتي حارقاً، أشعلت الضوء فصعقتني بحالتها، كأن هذه الفتاة الممددة على السرير ليست ابنتي، بدأت شفتاها الشاحبتان ترتجفان رجفان المحمومين ثم انتقل إلى أنحاء جسدها بسرعة انحلال قطرة الحبر في كأس ماء.
جاء الطبيب في الحال، أما أنا فسقطت مغمياً عليَّ، عندما استيقظت ذهبت مسرعة إلى غرفتها، وجدتها تنام بشكل هادئ لطيف، ملقية الغطاء على وجهها البريء، اقتربت منها.. حمدتُ الرب الرحيم لأنه لم يأخذها مني، رفعت الغطاء عن عينيها بأصابعي المكللة بالثلج.. لامست وجهها البارد.. تجمّد الدم في عروقي.. انحبست الدموع في عيني.. سجنت الآهات داخلي.. جثيت أمام جثة ابنتي، غرست أصابعي في شعرها قبلتها.. قبلتها و انهمرت دموعي الدافئة فوق جسدها البارد،ضممتها إلي بكل قوة.. كان عليَّ أن أودعها لآخر مرة، كنت أعلم أنها توفيت منذ اللحظة التي شاهدت الغطاء على وجهها.. لكني أوهمت نفسي أن الموت لسبب أو لآخر لن يأخذها مني، فحاولت أن أطيل الوقت لكي أعيش بحلم أنها ما زالت على قيد الحياة.. و إذ بي وجهاً لوجه أمام وجه الموت الضاحك الماكر.
كيف أغفر للحياة تمزيق قلبي إلى ألف ألف آه.. أمومتي المبتورة.. جسدي المطعون صراخ أوردتي.. مرارة دموعي.. صقيع عظامي.. كيف أحيا! من يحتوي قهري.. جسدي الفارغ.. فالقلب دفن هناك.. هناك في مقبرة الراحلين.
لماذا تصر الأيام على حزم آمالنا في حقائب سفر في حين تفتح ألف باب للأرق ؟ أنا التي حرمت من أمومتي ماذا أقول في زمن الوداع القسري.
هكذا تموت الورود في تربتها.. في منابتها.. و في أوردتي يبقى عطرها.