يوم ضاع مني حمادة
كان حمادة تلك الروح التي لامست قلبي بهمسة، وأضّفت على حياتي بريقاً من السعادة،كانت روحهُ الشقية تحلّق في رتابةِ أيامي فتتدفقُ عذوبةً وحيويةً.
حمادة هو الياسمين الذي يتناثرُ فوق روحي المتعبة فتورق سعادةً,حمادة هو الطفل الذي لم أنجبه والذي لن أستطيع أنجابه أبداً.
همس حمادة أسمي قبل أي اسمٍ أخر،يومها وقفت بذهولٍ للحظة,وركعت أمام شمعته الأولى راجيةً منه أن يدغدغ أذنيّ بصوته ِ من جديد.
عدتُ هنيهة للوراء, يوم أعطتني إياه القابلة وأمسكته بين يدي،يومها فتحت عيني بدهشةٍ،وانّحنيّت برفق انحناء الغزلان فوق الموارد كي أقبّل أصابعهُ الصغيرة،
وأداعبَ شعره بشفتيّ معانقةً وجهه بعينّي،لم يكن أول طفل أُحمله،لكنه كان الطفل الأول الذي بكيت أمام ملاكه النائم.
سار نهرٌ جارفٌ من الحنين إليه ،فاشتعلت دمائي وكدتُ احرقه شغفاً, فانتزعوه من بين أضلاعي خوفاً عليه من نهر حبي.
كنت أمه الثانية وكان ابني الأول،وحين أكمل عامه الثاني حلّقت به لأشتري له كل شيء,يكفيه أن يشير لي بيده لأشتري له العالم.
امتلأت يداي بالهدايا, لكني وفي غفلةٍ مني وشقاوةٍ منه فقدته،جلّتُ بناظري إلى اليمين واليسار،ثم استدرت للوراء،فلم ألمح ملاكه حولي،هزني إعصار من التوتر.
شحذتُ عزيمتي وابتلعتُ صرخةً بكماء :من المستحيل أن يحدث هذا معي،سحبتُ شهيقاً عميقاً وأنا أهمسُ لنفسي لا تتوتري.. ستجدينه.. صلّي باسم النبي.
على مفترقِ طريقين وقفت،وقد أصغتْ أذني إلى قلبي، وفي الطريق الأول قادني إحساسي الخائب،وعدتُ إلى الطريق الآخر لأصطدمَ بفقدانه.
تركتُ هدايا شمعتهِ الثانية تتناثرُ على أرصفةِ ألمي،وأنا أستوقف المارةَ سائلةً إياهم بصوتٍ مبللٍ بالدعوات عن طفلي الضائع،وأصفهُ لهم بثيابهِ بشعرهِ بوجهه،كانوا ينظرون إليَّ هامسين: مسكينة.
أخذتْ حباتُ العرق ترشحُ من مسامات وجهي الأحمر،وتسلل خدرٌ رهيبٌ إلى مفاصلي،وأنا ألهث وابكي راح قلبي يهرول باحثاً عن نبضه الضائع, أصابتني عاصفةٌ من الجنون:أين أنت يا حمادة؟ماذا سأقول لوالديك ؟
رقدتْ الحياة للحظة في عيني،وتوقف عقلي عن التفكير، واستطعت أن أفهم كيف يصاب الإنسان بالجنون ،هطلتْ عليَّ الأسئلة ممزقةً ما تبقى من روحي :في أي يدٍ وقعت يا حمادة ؟ كيف سأعود إلى البيت دونك؟
جلستُ على الرصيف بشعرٍ مبللٍ بالدموع،ووجهٍ جامدٍ ورحّتُ أتسوّل في وجوه المارين سائلةً إياهم عن حمادتي ،إليك أيها الرحيم أشكو عجزي واطلبُ أن تردّه إلى قلبي،أخذ عوسجُ الألم ينمو ويتسلّق أغصان صدري ليصل إلى قلبي فعُنُقي،ساعاتٌ مرّتْ وأنا أجوبُ شوارع مدينتي ولا أملك إلا يديّ،فصخرة الصمت جثت فوق لساني، وعلمتُ كيف يفقد الإنسان النطق .
دخلتُ وقد أقامت الدموع قصراً في وجهي إلى مركز الشرطة ،فطلبوا مني الجلوس وهم سيبحثون عنه،لكنني عدتُ لسير بقدمين من فولاذ في صحراء عطشى بحثاً عن ثرابِ واحتي الضائعة دون جدوى.
إلى أن لمّتْ الشمس ضفائرها،ورأيتُ جثمان الأمل مشيّعاً أمامي،أدركتُ عندئذٍ أنَّ ما حدث حقيقة يجب عليَّ تفجيرها في بيتِ أخي،أين أنت أيها الموت أنني أستدعيك؟كيف أعود وأنا بلا نقود وبلا جوال, هل أمدُّ يدي للمارة؟.
دخلتُ مركز الشرطة وقد تغلغل التعب في جسدي، فستوقفني الشرطي سألاً: إن كان أسمي رهف.
تسمّرت قدماي،وانّتفضت أوردتي وحفرت عيني في وجهه, كدّتُ امسك يده سائلةً: هل وجدّته؟
قطعَ لهفتي قائلاً: لقد وجدنا حقيبتك،قيل لنا إنها لامرأة أضاعتْ أبنها.
هززتُ رأسي وأنا أنفثُ زفيراً عميقاً أطفئ به شمعتي الأخيرة :ظننتُ أنكم وجدتموه،سطعَ بياضُ أسنانه وأومأ لي: هو في تلك الغرفة إنه جائع لقد أحضرتُ له ما يأكله.
ركضتُ مرفرفةً إليه وقد غرد قلبي في جسدي،وعند عتبة تلك الغرفة استعدتُ حواسي المعطلة،واشتعلتْ جمرات الأمل المنطفئة،فتحتُ عيني ونظرت إليه بحبور ركضتُ إليه وضممته إلى صدري المجنون شوقاً لاحتضانه صارخة :حمادة .
تركَ (سندويشته) وركضَ إلى أحضاني صارخاً بصوته الطفولي: (لهف).
تسلّقت ذراعاي المرتجفان جسده الصغير لتصل إلى وجهه وأنا أتحسسُ بملء كفي وجهه الصغير،نعم هذا هو حمادة وأضمه إلى ربيع صدري المورق شوقاً.
عندما عدت إلى البيت وأنا أزنّر جسده الغافي بذراعي نظروا إلى يديّ بدهشة:كل هذا التأخير في السوق ولم تحضري شيئاً.
ضممتُ حمادتي أكثر وأنا أمسح عيني بوجنتيه :لقد أحضرت حمادة ألا يكفي؟.