الاثنين ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم سامر سمير كرّوم

وحيدون في المنازل

مترجم عن كتاب "الانجليز" لجيريمي باكسمان

في سنة 1835 تخرج من جامعة كمبريدج شاب إنكليزي يدعى ألكسندر كينغليك وقبل مباشرته بمزاولة مهنة المحاماة قرر أن يكتسب خبرة حياتية عن طريق خوض مغامرة سفر عبر الصحراء السورية على ظهر جمل. وبينما هو في طريقه إلى القاهرة – مسلحا بمسدسين و مصحوبا بمعاونين من العرب- وبعد عدة أيام من السفر لاحت إمامه قافلة مؤلفة من ثلاثة جمال. وبينما كانت تقترب شيئا فشيئا باتجاههم، اتضح ان هنالك شخصان يمتطيان جملان بينما كان الجمل الثالث محملا بحقائب سفر. وبعد قليل تبين لكينغليك ان احد الراكبان يرتدي سترة جيش إنكليزية وتدل ملامحه على انه اوروبي. وكانت كلما اقتربت القافلة اكثر كلما اصبح كينغليك اكثر قلقا، حيث يقول في معرض حديثه عن هذا المشهد:

" وبينما كنا ندنو من بعضنا البعض، سألت نفسي عما إذا كان ينبغي علينا الكلام. اعتقدت ان هذا الغريب سيبادر بالكلام واذا ما فعل، فسأكون على أهبة الاستعداد للرد عليه ومجاذبته أطراف الحديث بقدر ما تسمح طبيعتي بذلك. إلا ان ذهني كان خاليا من اية افكار محددة يمكن الحديث عنها، بالاضافة الى انه لم تكن تعتريني رغبة جامحة للتوقف والحديث. شعرت حينها وكأن زائرا أتى لزيارتي في الصباح وأفسد علي لحظات الطمأنينة والعزلة."

ولحسن حظ كينغليك، ان الرجل الآخر كان إنكليزيا. وهو ضابط في الجيش كان في طريقه للعودة إلى انكلترا قادما من الهند عن طريق البر. واخيرا، وبعد ان التقى الرجلان الغريبان في وسط الصحراء يقول كينغليك:

" رفعنا أيادينا باتجاه رؤوسنا ونزعنا قبعاتنا ولوحنا بأذرعنا بلطف، على الطريقة الإنكليزية، تعبيرا عن الاحترام ومررنا بجانب بعضنا البعض بفتور وبرودة اعصاب من دون ان ننبس ببنت شفة وكأن ذلك حاصل في مدينة بال مال في انكلترا."

ولكن الجمال العربية هزمت ذلك الجفاء الإنكليزي إذ رفضت متابعة السير وتوقفت بعدما مرت بمحاذاة بعضها البعض. عندها التفت الرجلان الى الوراء وعادا ادراجهما ليلتقيا. يتابع كينغليك القول: " لقد كان هو الباديء بالحديث، ولكنه وبلطف بالغ لم يتكلم كثيرا وكأنه علم باحتمال وجود رغبة لدي لإراحته من الغوص في الحديث العادي الفارغ لمجرد التعارف، وعلم في نفس الوقت ان سبب تقدمي نحوه هو رغبتي- الجديرة بالثناء- بسؤاله عن معلومات و حقائق. وعليه، فعندما اقتربنا من بعضنا البعض وأصبحنا على مسافة يسهل فيها سماع احدنا الاخر، اردف قائلا: استطيع القول بأنك ترغب في معرفة آخر التطورات المتعلقة بتفشي مرض الطاعون في القاهرة؟ "

أين اكتسب الإنكليز صفة النفور الغريب من المشاركة في الحديث مع الآخرين؟

ان العديد من الزوار الاجانب لانكلترا يشتكون مرارا وتكرارا من استحالة التقرب من الإنكليز. واذا كنت اجنبيا وتتمتع بطباع حسنة- كماكس أوريل مثلا- الذي عاش في بريطانيا في نهاية الحقبة الفكتورية، فانك- ببساطة- ستجد السلوك الانكليزي مثيرا للضحك. إذا ما كنت جالسا في مقصورة للتدخين في قطار واشرت الى بعض الرماد الذي تساقط على بنطال رجل انكليزي ونبهته لذلك فربما يجيبك بقوله: " لقد لاحظت، وعلى مدار العشرة دقائق الماضية، ان علبة الكبريت في الجيب الخلفي لسترتك ما زالت تحترق، الا انني لم اتدخل في شؤونك ولم الفت انتباهك لذلك".

ولكن، ربما ينظر الإنكليز لمثل هذه المسائل على انها فقط متعلقة باحترام خصوصية الاخرين بينما يعتبرها الاخرون ازدراء وتأنفا. لقد كان من العجرفة بمكان ان يسيطر الإنكليز على امبراطورية حكمت العالم. وقد انعكس ذلك سلبا وبشكل غير عادي مما ادى للتقليل من شأن الامة الإنكليزية.

فبعد قرن من حادثة القطار تلك، وفي سنة 1992، صرح امريكي، بعد شعوره بالسعادة لخلاصه من العيش في انكلترا ومغادرته لها، عن السبب من وراء عدم احتلال انكلترا خلال الألف سنة الماضية حيث قال ان انكلترا وببساطة لا تستحق عناء غزوها. فبعد 8 سنوات من محاولاته الفاشلة لاتخاذ اصدقاء انكليز، اكتشف ان الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها ان يعترف بك في المجتمع الانكليزي هي ان تتظاهر باللامبالاة. فيسأل: ما هي انعكاسات ذلك على مجتمعكم

الذي يعترف باولئك الغير مكترثين بالانتماء له؟ ويجيب بقوله:

"بداية، ان ذلك يوحي بان الإنكليز لا يهتمون كثيرا بان يصبحوا محببين من قبل الاخرين. انهم يفضلون معاشرة امثالهم من مبغضي البشر. و بما ان احدا من مبغضي البشر هؤلاء لا يريد الانتماء الى ناد يجمعهم، فان المصرون على الانضمام يجب جزرهم و صدهم عن فعل ذلك."

لن يقوى ذلك الامريكي على تصور مدى اللذة الرائعة التي قدمها لبعض الإنكليز بثورانه هذا. فقد لا تحتل بريطانيا مرتبة الصدارة بعد الآن، الا ان الإنكليز ما زالوا يمتلكون قدرة التحقير من شأن الاجانب. ولكنه، في المقابل، لامس الحقيقة. فما يسميه هو ببغض البشر قد يسميه الآخرون احترام خصوصيتهم و عزلتهم. و هذه الاخيرة صفة متأصلة في شخصية الانكليزي و ما برح الزوار الاجانب يشتكون منها دائما و ابدا.

ان المصائب دائما تاتي من خارج المنزل لتفسد على ساكنيه هدوئهم و طمأنينتهم. ودائما ما كان ذلك يحصل مع شارلوكهولم. فبينما يكون جالسا في منزله الهاديء، الواقع على شارع بيكر، بصحبة صديقه الدكتور واتسون يغالبهما النعاس، يأتي فجأة زائر يطلب المساعدة و يفسد عليهما هدوئهما. لم تكن مغامرات شارلوكهولم الشيقة الخالدة متعلقة بهمة و نشاط ذلك التحري الفذ الذي يستطيع حل جميع جرائم القتل الغامضة، و لكنها كانت مهمات تحت الطلب دائما ما كان يستثيرها شخص محتاج للمساعدة.

وحتى أولئك الاجانب الذين يعملون في هذا البلد يكتشفون ان زملائهم الإنكليز لا يدعونهم لمنازلهم الا في اليوم الذي يسبق عودتهم الى اوطانهم. و بخلاف بعض البلدان الاخرى التي تدور فيها بعض النشاطات الاجتماعية في المنازل و من دون اي ترتيب مسبق، فان الإنكليز لديهم نزعة حمائية تجاه منازلهم اذ يفضلون تجاذب اطراف الحديث في المطاعم او الحانات. احدى نتائج هذا التحفظ تعكس عظم المناسبة و اهميتها اذا ما تمت دعوتك بالفعل الى منزل انكليزي بعكس امريكا مثلا، التي تبدو فيها الدعوة الى المنزل امرا عاديا جدا. و على النقيض، فان احترام خصوصية الآخرين و عدم تبادل الزيارات اطلاقا يمكن ان يثير في مخيلة المرء افكارا، ما انزل الله بها من سلطان، متعلقة بما قد يحدث في منزل شخص ما من دون الحاجة لزيارته. و عليه، فان سلسلة من العناوين لا تزال محفورة في ذهن الإنكليز بالرغم من عدم زيارتها اطلاقا.و فيما يلي امثلة على تلك الاماكن:

- 10 ريلينغتون بليس

 المنزل ذو الغرف المروعة في نوتينغهيل، غرب لندن، و الذي قتل فيه جون كريستي ستة نساء ومارس الجنس معهن وهن اموات.

 23 كرنلي غاردينز، في منطقة موسويل هيل و 195 ميلروز أفينيو، في مقاطعة كريكيل وود، المنزل الذي قطع فيه دينيس نيلسون أوصال خمسة عشر شابا وألقى بهم في مجارير المياه.

 25 كرومويل روود، في مقاطعة غلوسيستر، و الذي عذب فيه روز و فريد وست وقتلا عشرة نساء على الاقل.

ان هذه الامثلة و الحالات المروعة ما كانت لتصل الى ما وصلت اليه لولا قناعة الجيران و ايمانهم الراسخ بعدم التدخل في شؤون اللآخرين. فردا على أسئلة الصحفيين الفضوليين، و بينما كانت الشرطة بلباسهم الاسود منهمكين بنقل بقايا الجثث في صناديق تلو الاخرى، قال احد الجيران: " انني لا احب التطفل و لا الفضول".

انه و ببساطة لا يوجد في اللغة الفرنسية او الايطالية مرادفا حقيقيا لكلمة " خصوصية"، و لكن في انكلترا تعتبر الخصوصية احدى اهم المباديء الاساسية ويبدو للوهلة الاولى ان الدولة لم تسن قانونا يحدد اسسها و مبادئها الا ان الحماية الدستورية في هذه الحالة تكون مهمة فقط في مجتمع ينظر الى افراده على انهم اقل اهمية من الدولة. ان اهمية احترام خصوصية الافراد في انكلترا تتجلى في مؤسسات الدولة و طريقة سن القوانين و حتى في الابنية التي يعيش فيها السكان. فمن الملاحظ ان منازل الاغنياء تبنى بطريقة تحجبها عن الناظر لكي لا تثير الانتباه الا اللهم بعض الصروح المعلنة عن قصد كقصر فانبروغ بلينيم مثلا.

فغالبا ما يبنى المنزل الانكليزي الريفي بطريقة تجعله مخفيا نوعا ما. فقد يقع على اقل تقدير وراء جدران عالية او شجيرات كثيفة و عادة ما يتم بناؤه بين طيات الهضاب ليصبح اكثر انعزالا.

وفي حيوات الناس العاديين تبقى حرية الاختيار و التصرف سيدا الموقف. ففي قارة أوروبا يعيش الناس على الشوارع. هناك يأكلون و يشربون و يغازلون و يواسون و يضحكون و يمضون الوقت. اما في انكلترا فان الحديقة الخلفية للمنزل تكون بمثابة شارع من شوارع اوروبا يجتمع فيها الناس بعضهم ببعض بدعوة مسبقة من صاحب المنزل فقط. وبما ان الإنكليز يحلمون بتحقيق عزلتهم من دون وحدة موحشة فهم يتسابقون على شراء المنازل و كل منهم يحتاج الى منزل. و اذا ما خير احدهم بين حديقة منزله الخلفية و العيش مع اناس قد يشاركونه الاستحمام في حوض سباحة او ممارسة الرياضة في ملعب مثلا، فانه سيفضل البقاء في حديقته.

لقد بنيت نصف المنازل الجديدة في المانيا و فرنسا في فترة التسعينيات على هيئة شقق. اما نسبة الشقق في انكلترا، فان المعدلات الاكثر تفاؤلا تشير الى ما نسبته 15%. وهذا بعينه يعكس في نهاية المطاف فكرة مفادها انه عوضا عن الجلوس على الطرقات و التحدث الى الآخرين يفضل الإنكليز الذهاب الى منازلهم و اغلاق الباب و المكوث في الداخل.

في تشرين الثاني من سنة 1896، استقبلت السفارة الالمانية في لندن موظفا جديدا. فالى جانب الدبلوماسيين الذين كانوا يدرسون الحياة السياسية البريطانية و قواتها المسلحة بالاضافة الى تجارتها الخارجية، شكل في السفارة ملحق خاص. فقد عين السيد هيرمان موثيسيوس مسئولا عن ارسال التقارير للمجلس التجاري البروسي المتعلقة بكيفية توزيع خدمات الغاز و الكهرباء و تنظيم سكك الحديد في المدن الانكليزية.

ولكن، ما خطط فعلا للقيام به هو دراسة ثمة شيء خاص جدا بالانكليز على حسب اعتقاده. فقد انبرى موثيسيوس ، المهندس الخبير، لتحليل كيفية بناء الإنكليز لمنازلهم وكتب للدوق الكبير في منطقة ساكس ويمار قائلا: " لا يوجد شيء مميز في فن العمارة في انكلترا سوى عملية تطوير المنازل، فالانكليز لا مثيل لهم بين الامم الاخرى في هذا الجانب- جانب التطوير- وذلك لان الامم الاخرى لا ترتبط ارتباطا وثيقا بالمنزل كما هو الحال عند الإنكليز" فرد عليه الدوق متحمسا للفكرة ومشجعا اياه بالبدء بالمشروع قائلا:" ان مثل هذا الكتاب سيكون ذا قيمة نفيسة في المانيا، ففي بلاد اجدادنا هذه، الاقل حظا من بلاد الإنكليز، يشير التاريخ الى عدم اكتراث الالمان بموضوع الارتباط الوثيق بالمنزل و تطوير كافة اساليب الراحة فيه." و بعد سبع سنوات، تم بالفعل نشر النتائج التي توصل اليها موثيسيوس في هذا المجال و ذلك عندما عاد الى المانيا قادما من لندن. و قد اطلق على الكتاب اسم " البيت الانكليزي"( تسمية الكتاب باللغة الالمانية) و ظهر في ثلاثة مجلدات في برلين سنة 1904 و 1905 . و بالرغم من ظهور نسخة اخرى ما بين عامي 1908 و 1911، الا ان النسخة الانكليزية لم تظهر الا في عام 1979، و ربما هذا دليل آخر على قلة اهتمام الإنكليز بتعليقات الاجانب على طريقة عيشهم.

موثيسيوس كان مهتما جدا بانكلترا ولكن اهتمامه هذا لم يخلو من الانتقاد، حيث يقول: " ان المدن تغص بالمنازل

التي تبنى كمشاريع تجارية لكي تباع لاحقا وهي تخلو من اي ذوق. فهي منازل حقيرة صغيرة مطابقة تماما لبعضها البعض وتمتد على مئات الهكتارات، بينما غالبا ما تكون الضواحي مكتظة بالمنازل ذات الواجهات العادية المبتذلة والتصميم الذي ينم عن سوء فهم لفن العمارة"

وبالرغم من هذا فان انكلترا تعتبر البلد الوحيد المتقدم على اقرانه في اوروبا من حيث ان اغلب السكان يعيشون في منازل عوضا عن العيش في شقق. وبالتالي فان جمالية المنازل في انكلترا تفوق تلك الموجودة في المانيا بمئات المرات. ان اكثر ما اثار اعجاب موثيسيوس في طريقة البناء مرتبط بشخصية الإنكليز وهو الطبيعة التلقائية. فهو يعتقد ان الحقيقة المتعلقة بقدرة هؤلاء الإنكليز، الذين ينعمون بالازدهار، على تصميم طريقة عيش منزلية خاصة بهم و ما يتخلل ذلك من التصميم على توفير جميع وسائل الراحة في المنزل من دون الخنوع الى هوس الترف والاسراف والغرور، انما يدل انهم اصحاب حضارة راقية.

وبالرغم من تركيزه على اعمال مهندسين من امثال: كلوتيينز وبيدلايك و نورمان شو، الا ان موثيسيوس كانت لديه نظرة ثاقبة فيما يتعلق باسباب تطور البناء الانكليزي على النحو الذي تطور فيه. وكغيره من الاجانب علق على اهمية المناخ واصفا اياه " بالهواء الانكليزي الرطب و السماء الملبدة بالغيوم دوما وابدا"، مما دفع العائلة الانكليزية دائما للبحث عن مأوى داخل المنزل، ربما، بخلاف كثير من البلدان التي تتمتع بمناخ يسمح لمواطنيها بالبقاء خارج المنزل. والاهم من ذلك هو الاكتفاء الذاتي واستقلالية التفكير التي يتمتع بها الإنكليز منذ زمن بعيد، حيث يقول في هذا الصدد: " هؤلاء الناس يحتاجون فقط للنذر اليسير اليسير من خارج وطنهم". وهذا ما جعل المكوث في منازلهم عادتهم المثالية بالاضافة الى كونهم محافظون بالفطرة ولا تغرهم فتنة التغيير.

ان الإنكليز كانوا وما زالوا متأقلمون مع هذا النوع من اسلوب العيش المنعزل. يقول موثيسيوس: " ان قلة احتكاكهم باللآخرين تجعلهم مختلفون جدا عن اقرانهم في اوروبا. فهم لا يغضبون ولا يعترضون على ما يجري من حولهم لانهم يعيشون في عزلتهم وحيدون في منازلهم".

لقد ابدى موثيسيوس ملاحظة صائبة عندما اوضح ان من احدى النتائج المترتبة على امتلاك الإنكليز لمنازلهم معرفتهم السابقة بانها منازل خالدة تحثهم على الاستقرار والعناية الدائمة بها. على عكس تلك الاماكن التي يتوقع من ساكنيها المغادرة خلال اسابيع او اشهر و بالتالي يصبح عدم الاكتراث بالمكان سيد الموقف كأن يطلب من شخص ما ان يفرش ويصمم ويعدل غرفة في فندق لا يملكه.

ان المسألة اذا متعلقة جزئيا بالفروقات الطبقية الاجتماعية. ففي الوقت الذي كان موثيسيوس يمجد فيه عبقرية المنزل الانكليزي،كانت هنالك ملايين من الناس تعيش في منازل شعبية بعيدة كل البعد عن حسن البناء وجماليته التي اعجب فيها صاحبنا. وكانت اقصى آمالهم تتطلع الى الانتقال للعيش في اماكن شبيهة بذلك الشارع الصغير الذي بني في نهاية عصر الملكة فيكتوريا والذي لا يزال موجودا في مانشستر بالقرب من المكان الذي بني عليه سابقا اول مصنع آلي في العالم. لقد بدلت ارضية الشارع بالاسفلت بعد ان كانت مكونة من الحصاة، الا ان معالمه الخارجية لا تزال كما بنيت سابقا. فالاسقفة المكونة من القرميد الاحمر لا تزال تواجه مثيلاتها و هي شبيهة بتلك المنازل التي كانت منتشرة في كل مدينة انكليزية. ولكن الشيء الاكثر غرابة هو اسم الشارع " شارع أنيتا" ( اسم شائع لفتاة انكليزية )لانه لا يوجد هكذا اسم لاي شارع في كافة ارجاء لندن الكبرى. وتفسير ذلك يرجع الى ان المسؤولين في مدينة مانشستر، وعندما بني ذلك الشارع، كانوا يعتبرونه معلما من معالم المدينة لان كل منزل فيه كان يحتوي على شبكة انابيب للمياه ( حمام ومرحاض) اعتبرت من ابهى وسائل الراحة لعمال مصانع القطن آنذاك. لقد صرحوا بفخرهم بالاسم الذي اطلق على هذا الشارع ( شارع سانيتاري) (كلمة انكليزية تعني الصرف الصحي) و يبدو ان السكان الذين تعاقبوا على العيش في الشارع نفسه اصروا على حذف اول حرف و آخرحرفين من كلمة سانيتاري و ذلك * لانهم كانوا ممتعضين من ربط فكرة ذهابهم الى المرحاض باسم شارعهم

ان المنفعة النفسية التي رآها موثيسيوس في ادمان الإنكليز على العيش في منازلهم انعكست ايجابيا على صحتهم الروحية نتيجة لتواصل المنزل مع الارض ووجود حديقة تربطه بالهواء النقي و بالتالي المحافظة على قوة الانسان الطبيعية و قدرته الجسمانية التي اكتسبها في الريف عوضا من ان تبدد في المدينة الصاخبة. الا ان الإنكليز الذين يعتبرون المدن مدمرة لقيمهم الاخلاقية العتيدة لن يوافقوا السيد موثيسيوس رأيه و حماسته. و لكنه من دون شك ضرب على الوتر الحساس في وصفه لصفة عظيمة من الصفات التي يتحلى بها الإنكليز.

وبما ان الثروة اصبحت و ببطء توزع بشكل اكثر عدلا في انكلترا، فقد ازداد عدد مالكي المنازل. ان ثلثي الشعب الانكليزي يملكون البيوت التي يسكنون فيها وهذا معدل اعلى بكثير من المعدلات الاوروبية، اذ يصل الى الضعف مقارنة مع المانيا ( اما في هولندا فان المالكون اقل من نصف السكان وفي فرنسا تنوء النسبة عن النصف بقليل). وقد يكون من الاستعجال بمكان استخلاص النتائج من الارقام المتوفرة ( فالنسبة في اليونان والنروج اعلى من تلك في انكلترا ولكن ما هي القواسم المشتركة بين هذه الدول؟). ان حقيقة اهتمام الإنكليز بامور لا يكترث بها الاوروبيون، انما يدل على شيء ما..

وربما يتعلق الامر بنزعة الانكليزي لحب الاستثمار، فتلك النقود التي تستدان لشراء الاحجار و الملاط لن تذهب سدا كما هي الحال عندما تهدر النقود على استئجار البيوت. هذه النزعة تلقي بظلالها على اهمية الملكية الفردية في انكلترا. لقد كانت المشاركة السياسية في هذا البلد مرهونة بامتلاك منزل ما ولم يكن باستطاعتك التصويت قبل سنة 1832 الا اذا كنت من اصحاب الاملاك التي تقدر قيمة دفع الضرائب المتوجبة عليها باكثر من اربعين فلسا. وعندما وسع هذا الحق الدستوري في القرن التاسع عشر، اصبح حق التصويت مقتصرا على الذكور. لقد بدأ بنك " اللابي ناشينال"، والذي كان اساسا جمعية تحث الناس على البناء، مسيرته بانشاء منظمتين: احداها كانت تسمى " الابي رود" سعت الى تمكين الشباب من شراء المنازل التي يسكنون فيها بينما سعت الاخرى " ناشينال بيلدينغ سوسايتي" (جمعية البناء الوطنية )لاقناع الشباب بانفاق نقودهم على اشياء نافعة عوضا عن الكحول. لقد كانت تاتشر على دراية تامة و فهم عميق لبعض النزعات الانكليزية، ( بخلاف الاسكوتلندية و الويلزية)،عندما اعترفت بقوة الدافع من وراء الانكباب على شراء المنازل وارغمت سلطات البلديات حينها على منح الحق للمستأجر لشراء المنزل الذي يقطن فيه.

ان النتائج المترتبة على هذا الهوس يمكن ملاحظتها في كل بلدة
على هذه الارض. فاذا ما ركبت سيارتك و اتجهت الى ضواحي اية مدينة في انكلترا ستجد ان معظم الناس قد اطلقوا اسماء مختلفة على بيوتهم. و لكن لماذا؟ فهنالك نظام ممتاز لترقيم المنازل تصل عن طريقه الرسائل البريدية الى العنوان الصحيح و بشكل اسهل من وصولها الى لائحة اسماء اطلقت عشوائيا على البيوت: "كشادي ليز" و "مون ريبو" و "دان رومينغ"، (أسماء تطلق على المنازل، بعضها فرنسي مثل: "مون ريبو" و تعني " استراحتي" ، و البعض الآخر انكليزي مركب مثل: "دن رومينغ" و تعني " انتهى السفر و حان وقت الاستقرار)، الا ان تسمية المسكن من قبل ساكنيه تخلق نوعا من العلاقة العاطفية بينهم، فالاسماء تعبر عن الذات الفردية اما الارقام فهي مؤشر على الرتابة والمجهول.

ولكن، انظر ماذا يفعل الإنكليز بمنازلهم. فصف البيوت المبنية بشكل سليم و لبق منذ عهد الملك ادوارد قد تحولت الى صخب من الجص الممزوج بالحصاة و نوافذ على شكل القنينة مكسوة بكساء ثيودوري مزيف (نوع من انواع التلبيس الخشبي، و هو ضرب من الهندسة ينسب الى حقبة من التاريخ الانكليزي تبدأ بالملك هنري السابع و تنتهي بالملكة اليزابيث الاولى)

وفي كل عطلة نهاية الاسبوع يهجر الازواج زوجاتهم والآباء اطفالهم من اجل ان يعبثوا بالمنزل مستخدمين المطرقة والمنشار والمثقاب ليتركوا بصمتهم الخاصة على احجار المنزل و ملاطه. "دي آي واي"،( وهي عبارة عن محال تباع فيها كافة مستلزمات و معدات التصليح و الصيانة التي يستخدمها الناس العاديون و يجربوها بأنفسهم( ومن هنا أتت التسمية) لاصلاح شيء ما في منازلهم او حدائقهم)، هي الاخرى ظاهرة هوس في المجتمع الانكليزي. وقد كان هذا العشق للغبار قد تطور منذ الحرب العالمية الثانية لاسباب قديمة و منطقية منها ما هو متعلق بارتفاع نسبة مالكي المنازل و ثقافة الصناعة والتصليح التي افرزتها ايام الحرب و ارتفاع اسعار اجور البنائين المحترفين بعد الحرب بالاضافة الى الرغبة العامة لدى الشباب بتحديث و تجديد المنازل عوضا عن السكنى في بيوت مهترئة. الا ان هذه الاسباب و هذا التحليل يتجاهل السبب الاكثر اقناعا و هو العلاقة الغرامية الحميمة بين الإنكليز و منازلهم. و كلما ازدادت فرصة امتلاك منزل ما كلما ازدادت الرغبة بتحسين ذلكم المنزل. ففي الستينات مثلا، بدأ التلفزيون بعرض برامج متعلقة بكيفية وضع الجص بين قطع البلاط في احواض السباحة الامر الذي شهر مقدمي تلك البرامج المملين، الذين كانوا يظهرون بملابس تنم عن الذوق المتدني ، واصبح كل شخص في انكلترا يعرف اسمائهم.و في سنة 1969، افتتح اول محل اطلق عليه اسم "دي آي واي"، و في التسعينات زاد المالكان، ريتشارد بلوك و ديفيد كوويل، من عدد هذه المحال لتصل الى 280 محلا. و اصبح الإنكليز يصرفون على شراء المستلزمات من هذه المحال مبلغ 8،500 مليون جنيه استرليني كل عام.

ان ولع الإنكليز بشراء المنازل هو تعبير مادي عن شغفهم بالعزلة. و لكن،هل انعزال الامة الانكليزية بشكل عام و ايمانهم جميعا بالحياة المنزلية وحب الانطواء من قبل الافراد ثلاثة امور تعكس ظاهرة واحدة؟ و اذا كان الامر كذلك، فما هي جذور هذه الظاهرة؟

لقد مررت على مقاطع من كتاب " سمات الإنكليز" للمؤلف رالف والدو ايمرسون يبين فيها حالة الطقس و تأثيره على شخصية الانكليزي، فيقول: " ان الانكليزي و بحكم ولادته في مناخ قاس و رطب يبقى داخل المنزل في كل الاوقات التي يسعى فيها لراحته" ، " الحياة المنزلية هي الجذور الاساسية التي تجعل الامة الانكليزية تتفرع عرضا و علوا. و ان الدافع و الهدف من وراء تجارتهم هو حفظ استقلاليتهم و عزلتهم في منازلهم." و انني اتسائل اذا ما كان الطقس الانكليزي هو السبب الحقيقي فعلا.

تأتي الرسالات الالكترونية الينا من باراماريبو مرورا بكازابلانكا و ميناء موريسبي و جزيرة الصعود و صوت ماك موردوو(صوت يبلغ طوله و عرضه 55 كلم اكتشفه القبطان جيمس كلارك روس سنة 1841 ) تنبؤنا بمقدار تساقط الامطار و تلبد السحب. وتحتوي آلاف و آلاف الاماكن الاخرى في العالم على بالونات للمناخ و اقمار اصطناعية و سفن و طائرات و مديرات مكاتب البريد المتقدمات في السن في اعالي الاراضي الاسكوتلندية يمسحون السماوات و يقدمون تقاريرهم في الدقيقة المحتومة و في الساعة المقدرة. وماذا يحصل لهذا الكم من المعلومات حول المناخ مرورا بالغابات و الصحارى و الجبال الثلجية؟ ترسل هذه المعلومات الى بلدة براكنيل ، في منطقة بيركشاير. انها ليست بمثابة بلدة في الواقع، بل مجموعة من مواقف السيارات و الشوارع و قد اكتسبت شهرتها بسبب وجود سلسلة من المحال التجارية ( مراكز توزيع) تسمى " ويت روز". ليس هذا فقط، بل انها تعتبر من البلدات التي تحتوي على محال تناسب جميع الاذواق- دي آي واي و محال اخرى لمستلزمات الحدائق.....الخ. و ربما تتواجد في نهاية بعض مواقف السيارات الضخمة محال لبيع كتيبات و ارشادات للوصول الى المحال الاخرى.

كنت قد زرت تلك البلدة و كان ينبغي علي ان اتوقع انها ستكون مهمة حمقاء. تقول الفطرة السليمة انه طالما يوجد هنالك تأثير للمناخ على تصرفات الفرد فلا بد من بعض التأثير على شخصيته. و هل يمكن طرح تفسير بسيط مفاده ان انشغال الإنكليز بعزلتهم و منازلهم له علاقة مباشرة بتأثير المناخ الذي يرغمهم على المكوث في البيت لفترات طويلة؟

فمن الفرضيات المعقولة ان المناخ البارد الرطب الذي دفع المراهقين للبقاء داخل المنزل في الشتاء عوضا عن الذهاب الى الشاطيء او التزلج، ربما له علاقة باختراع موسيقى الروك. و لكن، هل القضية اعمق من ذلك؟ و هل هذا الطقس اللطيف، الذي نادرا ما يكون

باردا جدا او حارا جدا، لعب دورا في تكوين شخصية الإنكليز البراغماتيكية المعتدلة؟

لقد كان محب الإنكليز الفيلسوف جورج سانتايانا مؤمنا كما يقول بان انكلترا " تعتبر و الى حد كبير ارضا متأثرة بمناخها.... فالمناظر الطبيعية- اذا ما لاحظنا فقط الاراضي و الاعمال التي اقامها الانسان عليها- بسيطة و نادرا ما تكون معقدة والجو ساحر و معتدل و صالح تماما للعيش . و يجذبك المناخ دائما لعشق الحياة المنزلية، و كأن عشاق المنازل و تلك النفوس التي تحبذ العيش في اقفاص هم فقط من يستطيع العيش هناك. و لكن اذا ما ارتقيت بنظرك فوق سطوح المنازل و اعالي الشجر فان الجلال الذي لم تستطع رؤيته على الارض ستراه ممتد بشموخ امام ناظريك في السماء الانكليزية"

لقد كتب سانتيانا كثيرا من الامور التي يصعب فهمها احيانا. و لكنكم تستطيعون فهم ما يصبو اليه هنا. يبدو في بعض الاحيان ان الإنكليز يفتقدون للحزم. و من الصحيح القول بانهم اثبتوا براعتهم في كتابة ادب رفيع المقام. الا انه قلما وجدت مؤلفا موسيقيا انكليزيا مشبوب العاطفة خلال القرنين الماضيين بداية من بورشيل(مؤلف موسيقي انكليزي 1659-1695 ) و انتهاء بألغار(مؤلف موسيقي انكليزي 1858- 1934). لقد انجبت انكلترا فنانا ثوريا مذهلا هو جيه. أم. دبليو. تيرنر، و لكنها لم تلد مايكل آنجيلو (رسام ونحات ومهندس وشاعر ايطالي1475-1564) او ريمبراند (رسام هولندي (1606-1669) او دورار (رسام ونقاش وعالم رياضيات الماني من اصول بلغارية (1528-1471) او فيلاسكيس ( رسام اسباني 1853-1890) او ال غريشو ( نحات ورسام ومهندس يوناني 1881-1973) او فان غوخ ( رسام هولندي1853-1890) او بيكاسو (نحات ورسام اسباني 1881-1973). و بالرغم من ذلك فان انكلترا تعج كل صيف بالمعارض التي تعرض لوحات و رسومات لفنانين هواة في قاعات الكنائس. انها بلد الرسومات المائية و ليس الزيتية، بلد النسخ المنمنمة و ليس النصب التذكارية الفخمة.ومن العجب القول بان المناخ لا يلعب دورا في هنا.

لقد مرت مئتا عام على مقولة الدكتور جونسون: " عندما يلتقي شخصان انكليزيان فانهما يبدآن بالحديث عن الطقس"، و هي لا تزال تنطبق على ايامنا هذه. هنالك هاجس قومي مرتبط بعدد مشاهدي برامج الاحوال الجوية على التلفزيون البريطاني. فبالاعتماد على تحليلات بسيطة، في بلدة براكنيل، يقوم بها رجال و نساء بعيدين كل البعد عن الاناقة و ينقصهم سحر الشخصية، يصل عدد المشاهدين الى 6 او 7 او 8 ملايين. ان الذين يعيشون في بلدان ذات مناخ قاس ينظرون الى هذا الهوس الانكليزي و يحتارون في امرهم.

كتب بيل براسون قائلا: " الشيء الذي يثير غرابة غير الإنكليز هو عدم كفاية التغيرات المناخية في انكلترا. فان جميع الظواهر

الخطيرة و الغير متوقعة و التي تؤجج الطبيعة في الاماكن الاخرى - كالاعصار القمعي ( الرناد) و رياح المونسون و العواصف الثلجية الهوجاء و عواصف البرد الخطرة- لا تحدث في الجزر البريطانية. انه لامر جيد برأيي فأنا افضل ارتداء الملابس ذاتها في كل

يوم وعلى مدار السنة"

و لكن برايستون فاته بيت القصيد، فتعلق الإنكليز بالطقس ليس له اية علاقة بالتكلف بالسلوك او الكلام- فعند الحديث عن الريف مثلا، و الذي في معظم أجزائه يكون بعيد عن الدرامية بشكل درامي، يكون الاهتمام بالظواهر المناخية اقل من الاهتمام بعدم ثبات المناخ على وجه محدد.

لقد فهم الدكتور جونسون تماما الاسباب المؤدية لتعلق الإنكليز بالطقس. انها نتاج قلق حقيقي، : " في جزيرتنا يخلد الرجل للنوم و لا يدري ان كان سيصبح في اليوم التالي ليرى شمسا مشرقة ام غيوما متلبدة. فهو لا يدري ان كان سينعم بنوم عميق على وقع رذاذ المطر ام سيتخلل ذلك عاصفة تؤرقه."

وهذا يعني انه يمكننا الجزم بان انكلترا تتمتع بمناخ متقلب دوما. و قد لا يتخلل ذلك زوابع استوائية و لكن موقعنا على حافة المحيط من جهة و حافة القارة الاوروبية من الجهة الاخرى يعني عدم امكانية تنبؤ ما سيحصل بالضبط.

هل يمكن القول بان جهوزية تغير معالم السماء ساهمت في بعض التلبد الحسي لدى الإنكليز؟

ان اقل ما يمكن طرحه هنا هو فرضية جونسون حين قال: " ان ميولنا و نزعاتنا تتغير بتغير الوان السماء"، مما يجعل الانكليزي سعيدا تحت اشعة الشمس و مملا ضجرا اثناء سقوط المطر. لقد كان مزاج الشخصية الانكليزية للبطل جون بول- في مخيلة آرثبوتنوت الذي اخترعها سنة 1712- متقلب بتقلب حالة الطقس: فروحه كانت تعلو و تنخفض بحسب حالة الطقس المرئية من خلال النافذة. ( الا ان الكثيرين يعتقدون عكس ذلك، فمعدلات الانتحار في انكلترا ترتفع عند تحسن الطقس و ذلك في اشهر نيسان و ايار و حزيران)

و يعتقد الإنكليز- من خلال تهكمهم احيانا على الاعراق الاخرى- بان نشاطهم المفرط و وسع حيلتهم سببه المناخ، بينما العرب- على سبيل المثال- كسولين لدرجة قصوى بسبب تعرضهم لاشعة الشمس دائما. ( و هذا ايضا عكسه صحيح، فقد علق الزوار الفرنسيون على الإنكليز في القرن الثامن عشر بقولهم: ان الخلط بين كميات كبيرة من اللحم و وجود مناخ كئيب رطب عرض الإنكليز لان يصبحوا اقرب الى الميلانخوليا).

ان محاولاتي للتحقق من تأثيرات المناخ لم تستمر طويلا، فقد قال لي بروفوسور، ذو وجه قمطرير خال من التعبير يعمل في جامعة سالفورد، انه يعتقد ان بحثا كهذا سيكون مميزا الا ان العلم المقرر لن يهتم به، ولذا قال لي : " اقول لك، وللاسف، انه لن تستطيع الحصول على دعم مادي لانجاز مثل هذا البحث". و هكذا انفضت رحلتي الى المباني الكئيبة في منطقة الارصاد الجوية في براكنيل، التي تقع بين مطرقة المنازل الشعبية و سندان الدوارات الضخمة. المباني الشامخة التي تشبه مباديء البروتوستنتية التي تنص على ان الاموال العامة ينبغي ان تنفق فقط على المباني العملية لتعميم الفائدة.

لقد بدأت هذه الخدمات ابان الحرب العالمية الثانية و بدورها انقذت الآلاف من جنود التحالف، خصوصا طاقم الطيران و الذي بمعرفة نوع السحب و حالة الطقس كان يحمي نفسه من المدفعيات الالمانية المضادة للطائرات، و المعرفة المسبقة لاحتمال حدوث عاصفة كان يعني الفرق بين التأكد من التزود بالوقود الكافي للعودة الى القاعدة بسلام او السقوط في بحر الشمال.

في احدى امسيات شهر شباط، مرت امرأة شقراء متوسطة العمر تشد بمعطفها على جسدها و تقول: يا الله...... أليس الطقس باردا جدا؟ لم توجه هذه العبارة لاحد ما بعينه. لقد كانت الى حد ما تشبه الفتيات الروسيات من حيث صبغة الشعر الذي يبين السواد في جذوره وللحظة كنت اتسائل لو ان الروس اخترقوا مكتب الارصاد الجوية الذي لا يزال يعتبر كجزء من منظومة الدفاع في وطننا. و لكن ذلك مستحيل اذ لا يمكن ان تكون تلك المرأة روسية لانه لا يجرؤ روسي بالفعل على القول بان الطقس بارد في شهر شباط لان الامر حقيقة في روسيا و لا داعي للتفوه بتلك العبارة. لا، لا، فان القدرة على اختراع المفاجئات اللامتناهية فيما يتعلق بالطقس هو حرفة انكليزية. تماما كما كان يشتكي جورج أكسلورد قائلا: " كل ما يفعلونه في انكلترا هو الحديث عن الجو و لكن لا احد يفعل اي شيء لتغييره".

يحصل في مكتب الارصاد الجوية العديد من العمليات الحسابية و الرقمية تصل الى مليار حركة حساب في الثانية. و خلال عشر دقائق تحضر مديرات المكاتب البريدية في اعالي اسكوتلندة تقاريرهن التي تتحدث عن كمية المياه المتساقطة و الحرارة و سرعة الرياح. لوحة كاملة ترسم لمناخ المملكة المتحدة، و خلال 3 ساعات و 5 دقائق من وصول التقارير من سينت هيلينا و دار السلام و بابيتيه و كايينيه الى مدينة براكنيل، يصدر كمبيوتر يزن 16 طنا نشرة جوية

الى كافة انحاء العالم. انه من الروعة بمكان ان ينخل شخص ما سلسلة من الارقام و يقيسها من خلال مخطط ليخلص الى تنبؤات حول الطقس لاي بقعة من بقاع العالم. ولكن هنالك شيء من الدراما متعلق باولئك الشبان الذين يلبسون القمصان ذات الاكمام و يحملقون في شاشات الحواسيب. " انهم يقولون انهم مجانين بعض الشيء" اجابني مسئولهم عندما سألته عن هواجسهم. و لم يكن من السهل عدم موافقته على ما اجاب به ، خصوصا عندما نظرت الى تلك الغرفة الهادئة التي تحتوي على رجال متحضرون يلبسون سترات ذات اكمام قصيرة بعض الشيء و يمارسون هواياتهم الاسبوعية كسماع راديو الهواة و المشي بين الهضاب و زراعة الكوبيات...

و عندما غادرت اذهلني كيف كان المكان بالفعل بريطاني الصبغة و الرائحة. كم كان هادئا و عمليا و حضاريا بشكل متحفظ. لقد كان شبيها بتلك الامكنة التي تحل فيها ألغاز الكلمات المتقاطعة بهدوء. ذلك مكان قلل من اهمية القوى التي لا يمكن السيطرة عليها ليحولها الى كليشيهات منزلية تمنحك الدفء و الراحة و الامان. و كانت المرة الوحيدة في السنوات الماضية التي حصل فيها امر غير عادي- اعصار عام 1987- ظهرحينها مايكل فينش على شاشات التلفزة ليطمئن الناس و يهديء من روعهم. و بعد ذلك سنحت للانكليز فرصا عديدة ليقلبوا هذه الظواهر الى انين هاديء

ان الشكاوى لم تعد تقلق رجال و نساء النشرات الجوية ( تماما كما لم تعد تقلق الحراس الذين عانوا الامرين في حراستهم للسكك الحديدية و كانوا يتلقون شكاوى من اشخاص فاتهم القطار في بلد تعتبر خدمات السكك الحديدية فيه رديئة للغاية). لقد قال لي المدير انه يشعر بالكآبة اذا ما علم ان هنالك تغير ما سيطرأ على حالة الطقس خلال فترة خمسة ايام. فهو يريد ان يحصل التغيير الآن. وهذا سبب آخر يدفع الإنكليز ليشتكون من مذيعي النشرات الجوية ايضا. انهم يحبون ان يفاجؤوا بمناخهم.

لا ينظر جميع الاجانب للانكليز على انهم اشخاص مبغضين للبشر. فمراسلة الحرب الامريكية مارثا غيلورن قدمت الى اوروبا من سانت لويس في ولاية ميسوري في عام 1930 و تابعت عملها في تغطية الحرب الاسبانية و تزوجت ايرنست هيمنغوي و دخلت معسكرات الاعتقال في داتشو، (معسكر اعتقال نازي بني سنة 1933)، وكتبت تقارير عن فييتنام و اصبحت في سن الواحدة و الثمانين المراسل الاجنبي الاول الذي دخل باناما ابان الاحداث التي تم على اثرها قلب نظام الحكم الديكتاتوري الذي كان يتزعمه نورييغا آنذاك.

و عندما التقيت بها، قبل ان ترحل عن هذه الحياة بسنة، كانت تعاني من ضرر جسيم لحق بعينيها بسبب عملية اجريت عن طريق جراح احمق- زعم انه الافضل في لندن- فلم تستطع بعدها ان تكتب. الا انها كانت لا تزال تمتلك ساقان طويلتان ضعيفتان و شعر اشقر طبيعي و اصابع انيقة بالاضافة الى رأي ثاقب في اي موضوع كان ما كان. لقد قدمت الى لندن بعد ان تركت هيمينغوي مدمنا على الخمر في كوبا، لتشاهد بعدها من على شرفة فندق دورشيستر اول الصواريخ الالمانية من نوع "دودلبغ" تتساقط على شارع بارك لين. و بعد تلك الفترة اخذت تنتقل بين باريس و مكسيكو و افريقيا الى ان اشترت شقة في منطقة نايتس بريدج. و كانت تقضي نصف وقتها فيه و النصف الآخر في بيت صغير بالقرب من الحدود الويلزية.

سألتها مرة عن سبب اختيارها للعيش في انكلترا ولم يكن جوابها متعلق باي من الاسباب المعروفة كمستوى المسرح مثلا او جودة الخطوط الجوية او نوعية الصحافة الجيدة نسبيا او ما شابه ذلك بل لان الناس هنا لا يكترثون لاي شيء البتة. فقد قالت: " استطيع ان اسافر و اعيش في غابة و لمدة 6 اشهر و من ثم اعود مجددا و ادخل غرفة ما من دون ان اتعرض لمسائلة الناس و فضولهم. فهم لن يطرحوا علي اسئلة مثل: اين كنت؟ وماذا كنت تفعلين؟ بل سيقولون فقط " مسرورون لرؤيتك مجددا. شاركينا الشراب".

فقلت لها ان هذا السيناريو قد يكون متعلقا بصفة التحفظ لدى الإنكليز او ربما عدم الرغبة بالتدخل في شؤون الآخرين، فأجابتني قائلة : " انها خصوصية اللامبالاة".

ان " خصوصية اللامبالاة" ذكرتني بشيء كنت قد قرأته سابقا. وبعد يومين تذكرت اندريه موريس، الكاتب الفرنسي، الذي كان يعمل كضابط ارتباط مع الجيش البريطاني ونتيجة لتجربته هذه التي قربته من الإنكليز كتب كتابا سماه " صمت العميد برامل" مصورا فيه الشخصية الوطنية الانكليزية بشكل لطيف قدم فيه نصيحة مفادها ان لا يخجل المرء بتوجيه اي كلام للانكليز: لانهم فخورون جدا ولن يتأثروا بما سيقوله المرء ايا كان نوع الكلام.

ان تاريخ الازدهار الذي شهدته انكلترا يبين ان " انكلترا ليس لديها اي عقد من عقد النقص...

حمدا لله ولاسطولنا الحربي، فهي لم يتم احتلالها اطلاقا. وان الشعور الوحيد الذي ينتاب الإنكليز حينما يفكرون بالامم الاخرى هو شعور باللامبالاة. واذا ما خلص موريس الى هذه النتيجة في عام 1918، فما بالك بترجيح صحتها بعد الانتصار في حرب عالمية اخرى!؟؟

يقولون انه من المستحيل تصديق فكرتين متناقضتين في آن معا. ولكن يبدو ان الإنكليز يديرون حياتهم بشكل جيد. وقد تأقلموا منذ زمن بعيد مع التقليل من شانهم بين الامم. الا ان ثمة اعتقاد ان الإنكليز لا مثيل لهم. " متبجح كالانكليزي "، عبارة فرنسية كانت تتناقلها الألسن في الثلاثينيات وكان الجميع يعرف معناها. لقد كانت اوديت كيون منبهرة بلطف معاملة الإنكليز في كل لقاء، فهي القائلة:" ان الشيء...الشيء الحقيقي الذي يمتاز به هؤلاء الناس هو انهم مأدبون في التعامل... فاللطف والكياسة وحب المساعدة وتحمل الآخرين والاعتدال وضبط النفس و اللعب النظيف وروح النكتة والاخلاق الجميلة والهدوء والرواقية و الدرجة العالية جدا من التمدن الاجتماعي ، كلها صفات محببة اكتشفتها في شخصية الإنكليز" . الا ان هذه الامور لم تصقل شخصية الإنكليز الا بعد تضحيات. فالميل الخلقي لتسوية امر ما يعني انهم كانوا غير قادرين على اتخاذ القرارات واسوء من ذلك انهم مغرورين بشكل لا يطاق. ( فالانسة كيون زعمت مرة انها توقفت امام احدى المراحيض العامة التي كتب على مدخلها: الدخول للاسياد- بنسا واحدا اما الرجال فمجانا، وعلى الجانب الآخر: الدخول للسيدات- بنسا واحدا اما للنساء فمجانا. وبينما هي واقفة تتأمل مغزى العبارتين على مدخل تلك المنظومة المخصصة للتفريغ البولي تقدم نحوها رجل شرطي وسألها اذا ما كانت محتاجة لبنس للدخول).

في ذلك الوقت كانت بريطانيا تصدر نماذج للمواطنة باستخدامها تعابير مثل: " السيدات و السادة" التي اعجب فيها الجميع وبدؤوا باستخدامها في كافة ارجاء العالم. الا ان الإنكليز لم يكفوا عن هذا الغرور والتبجح منذ قرون، فسلامة وأمن جزيرتهم دفعتهم لاحتقار من هم اقل حظا منهم، اولئك الذين عانوا من السلبيات المزمنة لكونهم غير انكليز. ظهرت نزعة الغرور المدهش في نهاية العصر الثيودوري، فقد وصف ذلك فرويسارت بقوله: " انهم فخورون جدا لدرجة انهم لا يبدون اي اعتبار لاية امة اخرى".


و قال ميتشيليت:

" ان هذا الغرور متأصل في دمهم و محفور في كيانهم". وليس غريبا ان نقرأ ما كتبه امرسون في عصر الملكة فكتوريا: " انهم بصراحة يعتبروا جميع الاراضي التي تقع خارج نطاق انكلترا كومة من الزبالة" . وحتى في الخمسينيات من القرن المنصرم زعم هارولد ماك ميلان: " اننا نعلم وبشكل عام- وبالرغم من جميع نواقصنا- ان بلدنا هو الاجمل في العالم."

مترجم عن كتاب "الانجليز" لجيريمي باكسمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى