وقفة في ديوان «غروب زمن الشروق»
«غروب زمن الشروق»، عنوان ديوان شعري للشاعر الدكتور سعود اليوسف، ووضعتُ ههنا الشاعر قبل الدكتور، لأن الدكتور سعود كتب القصائد المتضمنة في هذا الديوان في يفاعته. والديوان من منشورات النادي الأدبي بالرياض.
«غروب زمن الشروق» عنوان اشكالي يخلق العديد من الأسئلة لدى المتلقي؛ إذْ يحمل العنوان مفردتين متضادتين، ومعنيين متعاقبين؛ فكل شروق بعده غروب، وكل غروب بعده شروق وهكذا، لكن مفردة «غروب» كُتِبَتْ بخطِّ الثلث، وبحروف كبيرة في أعلى غلاف الديوان، ثم جاءت تحتها كلمتا «زمن الشروق».
لون الغلاف يغلب عليه اللون البرتقالي، وكأنه يجمع بين الغروب والشروق ثم يتدرج اللون ليصبح أسوداً في أسفل الغلاف، وكأنها حلكة الليل التي تمتد ستارة على زمن الشروق.
تتصدر الديوان قصيدة بعنوان "إهداء"، وهي شكر لوالد الشاعر الذي أغدق عليه الحنان و كفاه مقارعة الزمان، ومكابدة آلام الحياة، حيث يقول:
لوالدي العزيز فقد كفانيحناناً من مقارعة الزمان
لكن رغم أن الشاعر عاش في كنف والد لبّى احتياجاته، لم ينشأ مدللاً، غير مبال، بل على العكس من ذلك فهو يافع يحمل طموحات كهل، متجاوزاً بذلك أمنيات أكثر أقرانه.
أبي، شاهدْ بديواني المعانيتجدْني يافعاً كهلَ الأماني
لكن الأبيات التالية تعلوها غلالة حزن، حيث أخفى الظلام بريق شاعرنا، وجاء الغروب في وقت الشروق، والشاعر يغذّ سيرَه لـ (قرية الآمال)، لكن طريقه تعود على بدايتها وكأن حائلاً ما يقف في وجهه. ثم يشكر أستاذيه عرفاناً لهما بالجميل.
ثم تأتي بعد ذلك قصيدة غزليّة بعنوان "أبيات الوداع" وهذا العنوان ليس ببعيد عن عنوان الديوان أيضاً؛ فالوداع هو شكلٌ من أشكال الغروب، حيث التنعم بقرب الحبيب بعيد المنال، فيقول:
آن الرحيل فلا تمشي على أثريلسنا لبعضٍ ، قد أبى قدري
تبدو لوعة المحبّ في هذا البيت جليّة، فيودع من يحبّ مستسلماً لقدره، مؤمناً أن هذا الحبّ لن يكلل بالعيش معاً. القصيدة بشكل عام لغتها سلسلة بسيط مفهومة، تخلو من الرمزية أو الغموض، ربما لأنها مترعة بالوجدانيّة والعشق. ماعدا بيت أو بيتين يزخران بـ"انزياح لغوي" جميل؛ حيث يقول الشاعر:
فإنني أعزف الشكوى بلا طربٍوالناس يطربها عزفٌ على وتر
ولو أردنا تفسير معنى الانزياح في الشعر بلغة بسيطة يمكننا القول: هو البعد عن مطابقة الكلام للواقع حرفياً ، إذْ يعمد الشاعر لاستخدام عبارات متعددة ومختلفة عن المألوف والسائد؛ منها الرمز والتشبيه والاستعارة وغيرها.
القصيدة مفعمة بمشاعر اللوعة، وألم الفراق. وتبقى الذكرى ملح في جروح العاشقين، حيث من أحبّ في أرض الحجاز والشاعر مرتحل إلى نجد يحمل في قلبه جراحاً من الصعب أن تندمل. لكنه لم يفقد الأمل باللقاء، حيث يقول:
لا تيأسي، فلعلّ الدهرَ يجمعناونلتقي في روابي نجدَ ، فانتظري
القصيدة التي تلي ذلك بعنوان "أنا وهي ساعة الرحيل"، ويتضح من العنوان أنها قصيدة غزليّة تتحدث عن الفراق آلامه، يستهلها الشاعر بقوله:
لما تمكَّن منّا حبُّنا وغلاقال الزمان لقلبينا: أنا ابن جلا
هذا البيت هو توطئة جميلة تهيء القارئ ليعرف موضوع القصيدة؛ وهو أن الفراق كان حتميّاً بعد ما تمكن الحب من قلبين غضيّن كما حال قيس وليلى عندما كانا يرعيان البهم معاً، وقد قال قيس:
تعلقت ليلى وهي غرٌّ صغيـرةٌولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
القصيدة فيها معاني جميلة، وصور رائعة، فهي تحمل معاني العفة والأخلاق الحميدة، فالحب بين الحبيبين امتاز بالعذرية وجلله ثوب العفاف والخجل. ويبدو في هذه القصيدة تأثر الشاعر جليّاً بمطالعاته وثقافته من الشعر العربي القديم ، وقد سار على نهجه. والتّناص واضح في البيت السابق. لابد أن نقف عنده، لكن قبل ذلك سنورد معنى المصطلح بشكل سريع؛ التّناص هو كتابة نصٍّ على نص ، عبارة على عبارة أخرى، بيت شعر على بيت آخر ، أو بيت شعر على مطلع خطبة أو قول مأثور. والتّناص مصطلح نقدي انتشر في الأدب الغربي في أواخر الستينيات من القرن الماضي وتمّ توظيفه كآليّة نقدية في معالجة النصوص الأدبية ونقدها، وإيضاح تجاورها؛ إذْ يقتضي الأمر أحياناً لفهم نصّ ما بين أيدينا قراءة نصوص أخرى على تناص معه . و أول من تناوله الناقدة البلغارية (جوليا كرستيفا) في أواخر الستينيات من القرن الماضي، تأثراً بأستاذها (باختين) بأنه؛ "التفاعل النصي في نص بعينه" أو بتعبير أخر "امتصاص أو تشرب نص لنص أخر أو تحول عنه". والتناص الشعري أو الأدبي صفة محمودة ودليل ثقافة الكاتب وتأثره إيجابياً بنصوص أخرى، وقد ورد في كثير من قصائد الشعراء الجاهليين أو صدر الإسلام، أو الحداثيين، ولكي يدرك القارئ معنى التناص في الشعر نورد قول الشاعر الجاهلي أمرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلبسقط اللوى بين الدخول فحومل
أخذته الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في قصيدتها " لن أبكي"، حيث تقول:
على أبواب يافا يا أحبائيوفي فوضى حطام الدوربين الردم والشوكوقفت وقلت للعينين: يا عينينقفا نبك.
وقد كان للناقد جيرار جينت السبق في تصنيف التناص إلى أنواع معينة وصل بها إلى خمسة أنواع رئيسية، ليس هنا المقام لذكرها. لكن عند العودة لبيت الشاعر سعود اليوسف كمثال على ما قلناه، فهو تناص مقصود مع خطبة الحجّاج عندما قدم واليا على العراق، وقد دخل المسجد معتمَّاً بعمامة قد غطي بها أكثر وجهه، متقلداً سيفا، متنكباً قوسا، يؤم المنبر فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم! فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى الحجاج عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايامتى أضع العمامة تعرفوني
والبيت الذي ذكره الحجّاج للشاعر المخضرم سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الرِّيَاحِيُّ؛ الذي عاش أربعين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام. أظن القارئ الكريم لمس ما نريد قوله؛ إذْ القول الفصل في قصة الحبّ التي بين أيدينا للزمان، والذي قال لقلبيّ المحبين "أنا ابن جلا".
في القصيدة المذكورة تأثر الشاعر واضح بما قرأه من الشعر العربي القديم من خلال تراكيبه، وصوره:
سارت مع الركب، شاءت أن تودّعَنيفأودعَتْ جمر البين مشتعلاتخشى الرقيب وتخشى من موادعتيتبكي وداعاً وتبكي تارةً وجلاسارت لنجدَ فليتي كنت نجدَ؛ لكيأكونَ منزلها إن ركبها وصلا!
لكن من وجهة نظري هناك بيت في هذه القصيدة حمل صورة لا تتسق مع نسق القصيدة وصورها، حيث الصورة "حداثوية" في سياق قديم:
تمشي خطاها بظُهر البين مسرعةوراح يومي كأني كنت معتقلا
فإن كن الشاعر يريد "معتقلا" من الاعتقال – فمن وجهة نظري – يبدو التعبير لا يتواءم وفضاء القصيدة، وإن كان القصد من "العِقال" وهو ما تعقل به الإبل لإعاقتها عن الحركة فلا بأس.
لقصائد الحب والعشق نصيب الأسد في ديوان الشاعر الدكتور سعود اليوسف، ربما لأنه كتب هذا الديوان في يفاعته حيث تتقد جذوة الشباب والحيوية. فالقصيدة الرابعة في الديوان بعنوان "ركاب العشق"، تزدحم فيها العواطف وسوانح القلب؛ حيث يقول الشاعر:
فيها أنختُ ركاب العشق من وصبٍحتى أُريِّحَ ضميراً طالما عشِقا
الانزياح واضح في هذا البيت؛ فالشاعر "أناخ ركاب العشق..." حيث استخدمت هذه الصورة على غير ما هو مألوف في لغة العامة والتي تفتقر عادة إلى التناص.
قصيدة "ركاب العشق" لا تختلف عن سابقاتها من حيث التغزل بجمال خُلق الحبيبة، وحسن تربيتها؛ فهي خجولة خفرة، تتسربل بثوب الحياء والحشمة؛ حيث يقول الشاعر:
إني أتوق للقياها فيمنعنيمنها حياءُ عفافٍ طيَّب الخُلُقا
الغزل في قصائد الدكتور سعود اليوسف ينصبّ على نبل صفات الحبيبة، ووصفها وصفاً عاماً دون تفصيل صفاتها الجسدية كما فعل أمرؤ القيس وغيره من الشعراء، لكنه كنهج عنترة العبسي عبّر عن العواطف التي تجيش في نفسه ، مصوراً ما يكابده من آلام وأشواق، سببها الفراق والبين، أو انعدام الأمل في الزواج من الحبيبة. يقول في "ركاب العشق":
والليل أبصر هذا الشعر منسدلاًفاسودّ من غيرةٍ وارتدّ منطبقاوالبدر ساءلته عنها فقال هوىً:لولا ترقّبها مسراه ما اتسقاوالنجم أسأله عنها فيخبرنيعن حاله أنه من نورها برقا
نرى في الأبيات السابقة أن الشاعر صَوَّر الحبيبة تصويراً عامَّاً بعيدا عن الدخول في تفاصيل الجسد الحسيَّة.
في القصيدة التالية؛ "قيود حزن"، لا يختلف الحال عن القصائد التي سبقتها؛ يشكو الشاعر ألَم البعد وهمّ الفراق، ومكابدة الشوق والحرمان من الحبيبة. ويدلل البيت الأول من القصيدة على ما ذهبنا إليه؛ من تأثر الشاعر بقراءاته للأدب الجاهلي والأدب العربي القديم بشكل عام.
إلهي في الهوى لاتُبقِ حاليعلى ما كان من قيس وليلىتفارقْـــنا ولكنّا سئــــــمنانريد عن القرب هذا بديلا
الحبيبة في نظر سعود اليوسف اجتمع فيها حميد الصفات وجميلها؛ فهي في الطهر والنقاء كمريم العذراء، وفي جمالها كالريم، وهذه الصفة الجمالية مستمدة من بيئة الشاعر قديماً وحديثاً، حيث شبه الشعراء الجاهليون الحبيبة بالمهاة، والريم، والغزال، والظبي، والخِشف.
بعفَّة مريم وجمال ريمٍيؤوِّد جسمُها خصراً نحيلاولولا أنها سحرٌ عفيفلما قالت ليَ القول الجميلا
ومما يؤكد الرأي السابق بأن العلاقة بالحبيبة يغلفها الطهر والنقاء، فالرباط روحي مقدَّس، يسمو عن نزوات عاطفية تتوق لوصل جسدي. ففي القصيدة التالية؛ "هكذا أريدك.. حبيبتي" يقول الشاعر:
لا تهجريني أمهليني إننيلا أبتغي منك الهوى بحرامفصبابتي ليست لضمِّك لا، ولالثم الخدود وثغرك البسّامأبغيك قلباً بالمحبة طاهراًمتمثلاً أنَّى اتجهت أماميأبغيك زنبقةً يضوع عبيرهاوأريجها أبغيك كالأنسام
لم ينس الشاعر من سبقوه من الشعراء، الذين قاسوا مرارة البين و الصبابة، وعانوا حيف الفراق وقسوته، ومنهم قيس بن الملوَّح. حيث يقول سعود اليوسف في قصيدة "على أطلال قيس وليلى":
تحياتي لأطلالٍ مواثلْزبارتها تزيد بي التفاؤلألا يا بن الملوَّح لو ترانيبنجدٍ هائماً والجسم ناحل
كما ذكرنا آنفاً؛ فالشاعر لم ينعم بحلاوة الوصل، ونعيم اللقاء، فكابد الحسرة، وسهر الليالي مسهداً، أرقاً، دنفاً، حيث يقول:
وبي هم يهدّ الجسم ليلاًكأني منه مكسور المفاصلشربت العشق سماً من زعافٍبكأس مترعٍ بئس المناهل
كما رأينا لم يكن الحب برداً وسلاماً، بل هو سهاد وأرق، وشحوب ونحول جسد. لأن لا سبيل للقاء المحبوبة، وهي البعيدة كعين الشمس.
ولست بطائلٍ منها لقاءًفليس يطول عين الشمس طائل.
تتكرر في الديوان أسماء الأماكن؛ ففي القصائد الستّ الأولْ وردت كلمة "نجد" سبع مرات، وورد ذكر مكَّة عدة مرات، كما ورد ذكر الحجاز أيضاً. فهذه الأماكن التي ألهمت شعراء الماضي ووردت في قصائدهم، تلهم شاعراً تفصله عنهم دهورٌ وسنون طويلة.
الديوان بشكل عام لغته سلسلة سهلة، لم يتعمد الشاعر استخدام مفردات صعبة أو غريبة، فاستخدم تراكيب مثل؛
وأمحلت ذكريات الحب في خلديكما صحار عليها الغيث ما هطلا
ومثل قوله أيضاَ:
وليلٍ سرمديًّ مدلهمٍّوهمٍّ فيه صار لنا خليلا
سعود اليوسف يمتع القارئ بلغة رشيقة سهلة، يفهمها بسهولة من عاش في بيئة الشاعر أو بعيداً عن هذه البيئة. بقي أن نشير إلى أن التكثيف والغموض، واستخدام الرمز والأسطورة بشكل مبالغ به ليس من خواص الشعرية ((Poeticism ، فجوهر الشعر وما يميزه عن باقي الأجناس الأدبية هو الموسيقا والإيقاع بصفة عامة، لكن هذا ليس شرطاً وحيداً وكافياً.