السبت ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم حسين أبو سعود

ويظل الغناء للمدينة مستمرا

يجلس بين الملل والرتابة، وبين الشوق والحنين، يبحث في جدران المنفى عن جدران بيته القديم، فلا يجد سوى الصمت والالم والمرارة، كان ينكر صلته بالنظم والقوافي الا انه كان يبكي شعرا عذبا، ومن اقواله وهو يكابد السهد والسهر الطويل:

من قال ان الماء هو الماء، وان الهواء هو الهواء، من قال ان التراب هو التراب وان التفاح هو التفاح، فتفاح بلدي احلى الانواع.

يتذكر الايام الخوالي ودفء الاسرة وحرارة اللقاءات ويذكر حتى المجانين في مدينته: المجنون شئ والهبيل شئ اخر، كان (جمعة) بائع الخضار يحبني، ويرتاح لصحبتي، وكان يشايع عليا في الخفاء، غير انه كان يُرمى بالجنون.

خرج الى العالم الارحب لعله يجد له مستقرا ويجد له عملا في الفنادق او في خطوط الطيران او في السفارات، في السفن او في الموانيء والمطارات، لقد كان يحب البهرجة والسفر غير انه وجد نفسه يتنقل في المقاهي والمطاعم والبارات يغسل الصحون وينظف الطاولات.

في ليل الغربة ينتابه بين الفينة والفينة شعور غريب، يخيل اليه انه جائع او يشتهي شايا او سيجارة او خمرا او حبة منومة ثم يكتشف الحقيقة بانه لا يريد سوى امراة ووطن او وطنا وامرأة.

لم تعد الصداقات العابرة تبهره معتقدا بان احلى الصداقات تولد في المستشفيات والسجون واقواها ما كانت منذ الطفولة، مضى على تغربه ربع قرن من الزمان، كبر بما فيه الكفاية ولم يشأ ان يقاتل ليسترد الوطن المسلوب، فالسالبون اهله والظالمون اهله وكان يقول رحم الله ايام الاستعمار.

وفي سؤال عن ما هو الوطن؟ اجاب: الوطن هو الغنى والاصدقاء والامان فالوطن ليس التراب.

يذكر كيف كان يتمنى ان تكون له دراجة يذهب بها كل يوم الى الحديقة ومعه ورقة وقلم وكتاب، ليبتعد عن العمارات السكنية والاوساخ، انه يعشق الحدائق.

يريد ان يكتب شعرا عن مدينته، ليس عنده وطن وليس عنده اصدقاء، يعشق الفنادق الكبرى، تقتله حركة الالوان فيها، بلغ الاربعين، غزا الشيب مفرقه، لم يعرف حلاوة الزفاف ويجهل رائحة الحناء وبريق خاتم الخطوبة، لايعرف ان الاطفال يمرضون، وان المراة تنتابها حالات خاصة اثناء الدورة الشهرية، انه لم يتزوج بعد، ويعجب كيف يتزوج الناس واين يجدون زوجاتهم.

كفر بكل الفلسفات وبكل الفلاسفة وصار لا يحب من يتعصب لدين او مذهب او من يروج لحزب او جماعة وصار يميل الى المتمردين فقط.

كان اذا سمع صوت طبل او مزمار واناس يرقصون يتكئ على حرمانه وينظر اليهم من النافذة بنهم ويتعجب: كيف يزف العريس؟ وكيف تتحلق حول العروس مئات النساء، كيف جمع العروسان كل هذا العدد من الاقارب ومن اين أتى بالاقارب؟

قلت له ماذا تقرأ غير الجرائد والمجلات، فنصحني ان لا أقرأ الكتب الثقيلة والتاريخية والدينية، وطلب مني ان اقرأ دواوين الشعر التي كتبتها النساء كي ترق النفس واتعلم كيف اكون طيبا وكلفني ان ابلغ هذه النصيحة للاخرين من كل الجنسيات.

كل المدن لها عشاق من ابنائها ومن غير ابنائها ولكل مدينة نكهة ولكل نكهة لذة ولكل لذة رعشة، رأيته بام عيني وهوينتفض وهو يذكر الكوفة والبصرة ويذكر حرارة الجو ويمسح عرقه البارد الذي بدا حول انفه كقطرات ندى او كحبات البلور.

وقبل ان ينهي غناءه وقبل ان ينفض مجلس البوح يمم شطر الوطن فحنّ كالراهب وشكا وأنّ له وبكى ثم سلمني قارورة من تراب.

معادلات: حياة – امرأة ووطن =عذاب

عذاب + فقر + خوف = موت

مات من مات وانا بانتظارك تمتد بي الاعمار وسكت كل مافي الليل البهيم، الا الحب الذي في داخلي فانه مازال يضحك ويبكي ويغني، ويظل الغناء للمدينة مستمرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى