الأربعاء ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم حسين أبو سعود

كركوك في الماضي

حكايات من الماضي الجميل (قراءة في كتاب)

الحنين للماضي شعور جميل يجعل الشخص يتمنى عودة الأيام الخوالي بذكرياتها واحداثها والحنين موجود بالفطرة ولكن تزداد نسبته من شخص لآخر وكم من غريب حنّ الى موطنه وأهله وقضى الليل ساهرا باكيا تبلل دموعه الوسادة ولا أحد يسمعه ويظل على حاله من المكابدة والشوق حتى يغلبه النوم.

قال مصطفى صادق الرافعي عن الشوق: هو حبل من الحنين التف حول القلب وكلما نبض القلب كلما اشتد حبل الحنين على القلب وضاق عليه فاذا التقى المشتاق بمن يروم رؤيته انفك حصار حبل الحنين عن القلب.
وقال الامام بن حزم: فالشوق قد يكون لخل او لأرض ترعرعت فيها او لجماد لا حراك فيه، الا ترى إنك تشتاق لبيتكم القديم عند رؤية اطلاله.

والله ما لمحت عيني منازلكم
الا توقد جمر الشوق في خلدي
ولا تذكرت مغناكم وارضكم
الا كان فؤادي طار من جسدي

وكل شعب له حكايات وتقاليد وتراث يجدر تذكرها وتخليدها بتوثيقها خوفا عليها من الاندثار بمرور الزمن، وقد تصدى المربي الكبير الأستاذ ييلماز شكر بك اوغلو لهذا الباب فخلد الكثير من الحكايات والامثال الشعبية الخاصة بتركمان العراق ولا سيما تركمان كركوك في كتابه الموسوم (حكايات من الماضي الجميل) المتكون من 460 صفحة من القطع المتوسط، وقد كتب مقدمة الكتاب الاديب المعروف محمد خورشيد قصاب اوغلو رئيس تحرير مجلة الفنار الشهرية حيث اسهب في الحديث عن الكتاب والكاتب بأسلوب شاف كاف وكان له دور كبير في اعداد وطباعة ونشر هذا الكتاب.

الكتاب بقلم فنان و مربي ومثقف وانسان وهو تركماني القومية ولكن بنفس وطني غير متعصب لقومية او لحزب او طائفة وكان مديرا لإعدادية كركوك وتخرج على يديه المئات بل الالاف من الطلبة العرب والكرد والتركمان والمسيحيين شغل بعضهم مناصب عليا في الدولة، وكما قلت فان الكاتب مسكون بالفن والثقافة والفلكلور وهو خريج اكاديمية الفنون الجميلة، وكان له نشاط بارز من خلال الاعمال الاذاعية والتلفزيونية في القسم التركماني، ويبدو من مواضيع الكتاب بان المؤلف غارق في حب المدينة حيث ابحر في تفاصيلها الزمكانية وضمنه صور الماضي حلوه ومره، ليله ونهاره ووجدته يحسن استخدام عنصر التشويق فيجعل القارئ يتوق الى ان يكمل الكتاب في يوم وليلة فهو يحدث القارئ عن فصول السنة فيشعر بالنشوة في الصيف وبالبرد في الشتاء.

الكتاب مؤلف من كلمات ولكن لهذه الكلمات قدرة على الاخذ بيد القارئ والتجول به في مناطق المدينة المختلفة ويوقفه امام المطاعم والسينمات والمساجد والمقابر والمحلات والحمامات والأسواق والمكتبات والمدارس وحتى صالونات الحلاقة وانه لم يغفل شيئا وإذا حدث فليس ذلك عن اهمال وانما دون قصد والعتب على الذاكرة، ذكر الاحياء والاموات، المقيم والمهاجر، ذكر أصحاب المناصب والشقاوات والفقراء وارباب المهن ولم ينس التقاليد والعادات في الأعياد والاعراس وايام محرم وليالي رمضان وحفلات الختان.

لقد ذكرني الكتاب بأمور كثيرة من الماضي انستني الأيام جلّها لقد ذكرني بجيراني واعادني للطفولة والشباب وللكاتب أسلوب جميل يتحدث فيه مع المناطق كما تحدث مع الصوب الكبير ص(458) فتعاتبه المنطقة الفلانية في حديث حزين فيرضيها الكاتب بالكتابة عن تفاصيل كثيرة عنها، أسواق ومناطق واشخاص ومناسبات وله قدرة عجيبة في حصر المصطلحات وشرح الحكايات بدقة وتفصيل ولم يترك جانبا الا وذكره، ذكر الأطعمة والمخابز و وسائط النقل والألعاب والاغاني والامثال والاهازيج وذكر أسماء بعض الأفلام السينمائية التي كانت مشهورة في تلك الأيام مثل أبو جاسملر وهرقل وطرزان وماشستي فضلا عن الأفلام الهندية، ومن الأطعمة ذكر : شروب ، علّوجة، كريم استيك،ازبري، ريواز، لوزينة، بيض اللقلق، شعر البنات، وذكر صباحات كركوك ومكونات الفطور مثل القيمر والجبن والحليب والباجة واللبن والكاهي والباقلاء واللبلبي وغيرها، وتحدث عن ليالي الصيف والنوم على السطوح والفنرات التي تربط بالطائرات الورقية وهي فوانيس مصنوعة من الورق الملون الخفيف توضع فيها شمعة صغيرة فتتحول السماء الى انوار طائرة جميلة تدخل البهجة الى النفوس.

وعرّج على سوق الهرج وهو سوق تاريخي يباع فيه كل شيء مثل الساعات والدراجات والراديوات والبراغي والدرنفيسات والأدوات المنزلية والملابس المستعملة ويرتاد هذا السوق شريحة كبيرة من الناس، ولم ينس الكاتب ظاهرة الشقاوات وقصص بطولاتهم التي تستهوي الجميع وقد قضى نظام البعث على هذه الظاهرة بعد المجيء الى السلطة سنة 1968، وذكر الكاتب عيد الجيش والفعاليات التي كانت تجري في كركوك من استعراض وتوزيع حلوى الجيش والصمون العسكري والتقاليد المصاحبة لسوق الشباب الى التجنيد الالزامي وكانت كركوك مقرا للفرقة الثانية وكان قائدها حينها اللواء الركن إبراهيم فيصل الانصاري رحمه الله.

وبقي ان نقول ان ما من مطبوعة الا وتحتوي على بعض الأخطاء النحوية والاملائية والمطبعية وهذا ما حدث مع الكتاب ولكن العتب كل العتب على المصحح اللغوي الذي ذكر اسمه في الصفحة الأولى وهو الأستاذ محمد علي نورالدين وكان المفروض ان لا يذكر اسمه لأنه لم يصحح شيئا البتة ولا اظنه قد بذل جهدا او اتعب نفسه في التصحيح.

وقد يؤاخذ الكاتب على تركه لبعض الامثال التركمانية على حالها بلا ترجمة مما يصعب على القارئ العربي معرفة المعنى رغم انه ترجم بعض الامثال ولكنه ترك البعض بلا ترجمة كما في ص (106)، ويتساءل الكاتب في بعض أماكن الكتاب عن العلاقات غير المنطقية بين الكلمة ومعناها باللغة التركمانية والحق بان بعض الاهازيج او الامثال قد تكون جميلة بلغتها الاصلية الا انها لا تعطي معنى عند الترجمة مثل اهازيج الأطفال ليلة العيد حيث يقولون:

يارن بيرامدي بير قاشوغ عيراندي أي غدا عيد ملعقة من اللبن فالعلاقة مفقودة بين ملعقة اللبن وليلة العيد، وكذلك (قيزلار يولداشي) ويقابلها بالعربية أبو بريص والترجمة الحرفية هي صديقة البنات وكيف يكون هذا الحيوان صديقا للبنات وهو مخيف ومرعب.

ويتضمن الكتاب عددا من الصور ذات العلاقة بالمواضيع المختلفة لكنها بالأبيض والأسود ونحن نعيش مرحلة متطورة في الطباعة الرقمية الملونة، وأتمنى لو يتلافى الكاتب هذا الامر وباقي الثغرات في الطبعات القادمة، واما عنوان الكتاب (حكايات من الماضي الجميل) كان يجب إضافة اسم كركوك عليه كي يستقيم المعنى لان الكتاب خاص بكركوك وأهالي كركوك ويكون العنوان حكايات كركوكلية او حكايات من ماضي كركوك وخيارات أخرى متاحة للكاتب، واما غلاف الكتاب فانه رغم جماله مزحوم بالصور وكانت صورة واحدة منها كافية لتوحي بالمعنى والحال في الغلاف الخلفي توحي بقلة خبرة من لدن المصمم.

وفي الختام أقول بان أكثر حكايات الكتاب تصلح لتكون مادة لفيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني لأهميتها، ويظل الحنين الى الماضي مستمرا والذي بقي في المدينة ولم يغادرها مثل الأستاذ الكاتب فان حبه لها يزداد يوما بعد يوم واما الذي غادر كركوك وغاب عنها عقودا طويلة فانه يزداد شوقا وحنينا اليها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى