السبت ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
"شريف حتاتة" في "النوافذ المفتوحة "..
بقلم أمل الجمل

يُعلن موت الفاصل الحاد بين الرواية والسيرة الذاتية.

لاشك أن تجربة الروائي " شريف حتاتة " في مذكراته " النوافذ المفتوحة " هي الأجرأ في تاريخ الأدب المصري, وربما كانت واحدة من أندر تجارب السير الذاتية في الأدب العربي الحديث التي جمعت بين جرأة الحكي, وبلاغة الأسلوب الفني, بين رقة الفنان وقسوة المنقب عن حقيقة الأشياء.

لم يجرؤ كثير من الكتّاب المصريين على تدوين سيرهم الذاتية، وإن فعلوا خرجت يكتنفها التردد والحذر والمواربة. لكن إعترافات صاحب "النوافذ المفتوحة ", صدرت عن دار ميريت فبراير 2006, جاءت تعبيراً دقيقاً ومطابقاً للعنوان. هى مكاشفة صريحة، وإضاءة لما هو معتم ومتوار وسِري في الحياة. كشف فيها " المؤلف " من أوراق حياته ما يخشاه كل عربي, ويسعى جاهداً لدفنه, وربما حرقه في محرقة النسيان. كتب " حتاتة " عن المُحرّم الجنسي مخترقاً حدوداً اجتماعية وسياسية وأخلاقية راسخة. حاول استعادة سنوات طفولته ضاعت قبل الآوان بسبب النزاع المستمر بين أمه وأبيه. حكى عن لحظات استكشف فيها العالم الحسي من حوله, عن علاقته بخالته وهبته الدفء وأشبعت إحتياجه إلى العاطفة واللمس, شجعته على التمرد وإختراق الحدود الصارمة, عن العقاب ناله طفلاً لأنه وبنات عمته حاولوا التعرف على أجزاء من أجسادهم لا تراها الشمس, عن حادث الإعتداء الجنسي تعرض له في طفولته, عن أول إمرأة في حياته, بعد أن إغتصبها دفنها في أعماقه وأكمل الطريق. كان مراهقاً وكانت هى خادمة في بيت جده, يعترف : " أنا أُدرك خطأ ما أُفكر فيه لكن الرغبات الهوجاء استولت عليّ يُشجعها وضعي في هذه الأسرة الكبيرة والحماية التي تجلبها إليّ, فمهما فعلت لن تنطق هذه الفتاة بكلمة, لأن كل كلمة لن تكون إلا وبالاً عليها."

لم يكن صاحب المذكرات يُدين نفسه بقدر ما يُدين مجتمع بأسره, فما حدث مع تلك الفلاحة الخادمة في الأربعينيات من القرن الماضي مازال يحدث مع معظم النساء في القرن الحادي والعشرين, وإن اختلفت آليات القهر والتحرش الجنسي من الزملاء والرؤساء في العمل.

إضاءة عتمة الذاكرة

فتح " شريف حتاتة " ملفاته السرية، وأخذ يمر على المناطق المعتمة داخل ذاكرته بكشاف قوي متجهاً إلى إضاءة الحياة النفسية والاجتماعية والفكرية والسياسية له, فكشف الفساد والظلم الضاربين في عمق المجتمع.. حاول القبض على بصمة المراحل الأولى من حياته في تشكيل شخصيته, على علاقة الخاص بالعام في فكره وتكوينه, في تصرفاته خارج السجن وداخله, في مواجهة الأزمات, في تحدي القهر.. حكي عن تأثير الهوة العميقة في أصوله, فوالدته إنجليزية مسيحية فقيرة, ووالده مصري إقطاعي مسلم, عن فقر وقهر النساء, عن إنسانية بنات الهوى, عن التأثير العميق للبيئة، والأسرة جعلته يُشارك في دفن جدته لأمه وهى مازالت على قيد الحياة, لأنها كانت فقيرة ومن أصل يهودي, يُضيف : "وعندما اعتنقت الأفكار الاشتراكية... كان أحد الأسلحة التي استخدمت للهجوم على الاشتراكية في مصر هو الزعم بأن الفكر الاشتراكي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصهيونية, لذلك أصبحت أخجل من كشف هذه الحقيقة."

لم يكتفي الروائي بسرد الأحداث والتفاصيل والتواريخ لكنه جنح, بقليل من اليقين وكثير من الشكوك, إلى طرح مزيد من التساؤلات, إلى التنقيب في الأعماق الدفينة, إلى التحليل الدقيق وإعادة رؤية الأشياء من منظور مختلف, فتمكن من فهم بعض الأمور, منها صدق أوزيف البطولة بين الذين يرتبطون بقضايا عامة, من تفسير سلوك شخصيات عجز عن فهمه سابقاً, ومنها تراجع بعض اليساريين عن مواقفهم, أو تحولهم إلى صفوف السلطة.. كان "حتاتة " كمن يُعيد إكتشاف نفسه والمجتمع من جديد.. بحث عن المرة الأولى التي اهتز فيها يقينه بأنه لا يوجد ما يستحق أن يهتم به خارج الإعداد لمهنة الطبيب. أدرك أسباب تحوله من طالب مجتهد, الأول على دفعته, إلى المشاركة في الحركة الوطنية ضد الإنجليز والملك, إلى إدراك أخطاء التنظيم الطلابي عام 1946, إلى العضوية في حركة يسارية أصبح فيها محترفاً سياسياً, إلى مسجوناً يهرب من سجنه ويسافر في قاع سفينة للشحن, ولاجئاً في "باريس " يقع في حب إمرأة زائرة جاءت من مصر.

نبض السعادة في السجن

" النوافذ المفتوحة " هى محاولة للتنقيب في أعماق البطل الحقيقي لفيلم " في بيتنا رجل", في أعماق "حتاتة " الإنسان, السياسي, والسجين, في الدوافع الظاهرة والخفية التي تحرك تصرفاته, ومنها مخاطرته بالعودة من منفاه إلى الوطن سراً ليستأنف نشاطه السياسي في قرى الوجه البحري إلى أن قُبض عليه مرة آخرى. صدر عليه حكماً بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات قضاها في السجن الحربي, وليمان طرة, وسجن مصر. واجه فيها مختلف الضغوط من الإهانة، والتعذيب التى يعشقها رجال المخابرات، والمباحث.. مرت عليه لحظات أوشك فيها على الإنهيار العصبي. مع ذلك يكشف النقاب عن سعادة السجن, لم يتحدث عنها أيُ من كتاب أدب السجون, فيقول : "من يظن أن السجن دائما عذاب مخطئ. السجين يعرف لحظات من السعادة الحادة لا يعرفها الذين يعيشون حياتهم فى سلام. السجن كالبحر الرمادى تتشابه فيه الأيام والأشياء، سأم لابد من التغلب عليه، مقاومة للاحتضار البطئ. ولكن فوق هذا السطح الباهت، المتشابه لحظات وامضة تنبض."

آفة الحركة اليسارية

أعاد الكاتب تقييم تجربته السياسية، فاعترف أن اليسار لعب دوراً مهماً في تحقيق قدر من التحرر وصل إليه, لكنه أيضاً فرض عليه قيوداً كثيرة, منها الجمود في الفكر والبعد عن الواقع. أكد أن "عبد الناصر", وزملاؤه كانوا أكثر إدراكاً, من اليسار، بالظروف الجديدة التي تواجه الاستعمار البريطاني، وأن قسوة الإجراءات القمعية والضربات التى كانت تكيلها السلطة إلى اليسار عموما وإلى " حدتو " بالتحديد كان لها ما يُبررها.

في مذكراته كشف المؤلف هنات الحركة اليسارية المصرية ومن بينها إهمال الفرد وعدم الإهتمام به, فيقول : " كان علي أن أتحمل تبعات المسئولية دون أن أتمتع بحق الرؤية، أو التحديد، أو المناقشة، أو إبداء الرأي في مسار الحركة التي أنتمي إليها.. كان أسلوباً شائعاً في التنظيم، بني على مفهوم للمركزية الديمقراطية يؤكد الطاعة، والتطبيق الدقيق للمهام، ويجرد الأعضاء من حقوقهم الديموقراطية، وهذا المفهوم كان إحدى آفات الحركة اليسارية، لعب دوراً في تعطيل النمو الطبيعي للأعضاء، وحال دون اتساع الرؤية السياسية، والثقافية، وساعد على استفحال الانقسامات والوصول بالخلافات إلى آخر مداها."

القفز فوق الزمن

تعلم " شريف حتاتة " اللغة العربية أثناء دراسته للطب, فظلت قدراته على التعبير بها محدودة. كان يتعثر عندما يتحدث بها أو يكتبها. كان نطقه بها يتميز بلكنة أجنبية.. مع ذلك فكتاباته الروائية والسياسة تتميز بلغة بسيطة, لكنها جميلة مؤثرة تنفذ إلى عقل القاريء ووجدانه.. يختار كلمات مرموزة تحمل صوراً تشي بكثافة دلالية.

اختار "حتاتة " في بنائه السردي " للنوافذ المفتوحة " أن يتحرك في الزمن بحرية شبه كاملة فاتبع سياسة تشكيلية درامية تسمح بالقطع والوصل والحركة الدائبة المتوترة بين الماضي والحاضر والمستقبل ـ ارتداداً وتقدماً وعودة ـ في دوائر متلاحقة ومتشابكة. وهو ما يتطلب قاريء غير سلبي يلعب دوراً إيجابياً في بناء مشاهد موازية في مخيلته لإعادة بناء وتشكيل النص.
تقنية المونتاج وتجزئة الزمن بالقفز به للوراء والعودة به للحاضر, وتضافر المشاهد بصورة غير متتابعة زمنياً هو أسلوب تشكيلي يتميز به الكاتب في جميع أعماله الروائية ومنها " الشبكة", " العين ذات الجفن المعدني" , " الرئيسة", " كريمة", " قصة حب عصرية ", " نبض الأشياء الضائعة ", "عمق البحر", " إبنة الكومندان ", "عطر البرتقال الأخضر".

الخيال في السيرة الذاتية

في " النوافذ المفتوحة " اهتم الكاتب بسرد تفاصيل دقيقة, برسم صور سينمائية تشي باختفاء الفاصل الحاد بين الرواية والسيرة الذاتية.. فعندما تغيب ملامح الطفولة أوالمراهقة من الذاكرة يُحاول أن يُغذيها بالخيال.. يقول : " المهم عندي أن تكون السيرة الذاتية مكتوبة بفن وبلغة فيها إبداع, فيها قدرة على الخيال وعلى الربط بين مختلف نواحي الحياة. أن تكون فيها تلك الشحنة التي تُحرك عقل القاريء, ووجدانه, وتجعله يتساءل عن أشياء لم يتساءل عنها من قبل.. هذا النوع من السيرة الذاتية يدخل في باب الأدب فهو رواية حياة, والحياة أكثر ثراءً من أي خيال."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى