الثلاثاء ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم حفيظة مسلك

إشتـــــــــــــهاءات بطـــــعم الإنكســـــــــــــــارات

لحظة فجة لخرير الأحاسيس المتدفقة وهي تعلو مسام الذكرى الخالدة.. همسات خشنة ترقص في رمزية الأعوام الغابرة، تم إعادة تأهيلها في قرص
مدمج..سيكون للصوت المزعج المتجبر هبّة ريح، لغة هنجعية كشفت الحقائق في عالم الإشتهاءات الدنوية والإنكسارات المتتالية..صورة حية لدمعة إختلطت بحبات المطر.. هدير من البراءة السمراء،إخترقت أوردة نفسي..ثوران دمي.. إحتراق أنسجة مخيلتي..بخار كثيف يعج بالضبابية، صعب معرفة ملامحه وسبرأغواره في زمن التجديف وبلوغ التيارات..المتناطحة..المتلاكمة..

المتقاطعة..مشاعر نمت وسط معبر، يضج بالزعق وعويل الجراح.. رغم دلك بقي البساط ممددا في ارتياح، يمدح نفسه من شدة التوأمة، التي جمعتني بإنسانة كان لحضورها في حياتي وقع خاص، تستحق قصيدة معطرة بالأقحوان وخاطرة مشبعة بالأرجوان.

بعد يوم شاق،توجهت بحذر نحوغرفتي أتأمل أشيائي المتناثرة...فوضى تعم المكان..كتب..مجلات..أوراق.. نجحتْ في استعمار زوايا مملكتي الصغيرة، جالتْ بخاطري أمور كثيرة وبحنكة غير مسبوقة،عرهتُ نحو نافدتي أستنجد بإطارها مدعية الإنتماء الى مساحتها، تنفستُ قبالتها بعمق، لينتفض البخار المنبعث من دواخلي..خليط من الضباب والسراب.. شكل لوحة فنية زاخرة بالأسرار..رغبتي في إعادت المحاولة كان لها صدى..نفختُ على أناملي التي شبعتْ من الغرق يوميا جراء التنظيف وتآكلت أطرافها من كثرة المناطق الحساسة، إلتماعا وألما،مشكلة بذلك منحوتة شعرية، ومن حرارة نفسي إستدفأتْ أوصالي وحركتْ ينابيع شراييني..بحركة لا شعورية قمتُ بمسح الضباب المترامي الأطراف على نافدتي،لأطل على منظر أبكاني وأيقض جوارحي..شجرة متمايلة..أوراق صفراء.. تستنجد بشربة ماء..أغصان بلغت من العمر عتيا..منظر أثار الآلم في نفسي وبعثر دفاتر أيامي..ذكرياتي..أوراق مخيلتي..لحظة قاسية ليتجمد الصوت داخل جوفي..ما تزال تلك الإنسانة في قلبي، غطتني بعباءة من الحنان وأسرتني بسرب من نسائم الحب الخالص..ذكراها شهدٌ صافي، متأجج بين ضلوعي.. كيف لا وهي من أتقنت أجمل دور تختم به المرأة حياتها "الجدة" قلب إعتلى صهوة التحدي..ترتقي سلم البهجة المفعمة بنقاء السريرة ولحن القيثارة الشذية..مواقفها مزلزلة وملامحها مهما إعتلاها التوتر، تتخطى رعشة شقائق الحياة بكل مشاكلها لتجعل الضوضاء سمفونية،تحول الندوب المغتسلة بالوجع الى سكنى قواعدها الصبر والسلوى والإحتساب.
تطرق بابي بابتسامة تعلو وجهها الصبوح..حفيف خطواتها يجوب الفيافي، لتسكب في كأسي نواجد الملح، فيتحول الطعم المزهو، بالأوجاع الى طبق حلو المذاق..بين هوس الذكرى وقطار الواقع خط رفيع يدق غصات الفراق.

يومها تعمدتُ عدم الذهاب الى البيت العائلي..خوفي من فقدانها أثار الرهبة في نفسي..حدسي خبرني باقتراب لحظة الوداع....صمتٌ خيم على المكان ولعنة الشلل أصابت قدماي للتوجه الى زاوية الإحتضار..المكان ليس ببعيد ولكنه بالنسبة لي طوفان آت بلون السواد.. أطياف الكلام الشتوي ملأ شقوق قلبي..-أحدهم يناديني: رفيدة حضورك إجباري تعالي بسرعة ننتظرك...لا تتأخري
لا أريد الذهاب.. أدفع عمري ولا أراها في تلك الحالة..حملتُ نعش نفسي وتوجهت نحو قبري،لأشهد إرتماء كوكبي خارج الكون، وإعتصارأنفاسي خارج مجرة الفرح الأزلي،أعز إنسانة على مقربة من العالم الأخر..تلفظ أنفاسها الأخيرة..ممددة كعروس إبتهلت لها مزامير القوافي..نظرات عميقة ظامئة، لا يرويها إلا خالقها..حبر دمي انسكب عند رِؤيتها، حبل نجاتي أيقظ أيقونة الفزع.. لتنتحب المحيطات قفارها وجفاف مياهها،

إهتزتْ لغتي وتبعثرتْ حروفي، نظراتها الي نهبتْ حريتي وأسكنتني قرب وجعها..همستْ الي في حركة خفية برموشها، رسالة مجازية في حلول غروب شمس بعد طول نهار، في تيه الكيونة الزائلة،قمت بتشفير رسالتها نحو أشد مواطن نفسي حزنا وألما..إقتربتُ منها وحبر هجسي تزداد نيرانه..إنكسر الضوء بداخلي..أعضُّ بمقلتيَّ كل دمعة خفية يتم إعتقالها فور إنتحارها...لا أريدها أن تراني باكية أمامها..ليتني في فضاء اللامكان.. عمياء غير مبصرة..فولاذية القلب بلا معنى..فراديس إنكساري حافٍ عارٍ أمام سيدتي الغالية..رموش أوتاري جعلتني أشباه أقواس حانية،لمستْ يدي فاقشعر بدني..حاولتْ جاهدة ان تمنحني أخر لمسة دافئة، معلنة إكتمال زهوها ووعدها،أضاءت الأطلال بداخلي فأصبح لروحي إرثا سأحتفظ به في ثنايا صلصالي الرطب،رفعتها نحو صدري واحتضنتها فلم أجد الا طعم الشهادة..قوليها يا سيدتي قبل ان ترحلي...

أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

احسستُ بها وهي تتمتم بطلاسم لا أفهمها، فاطلقت إبتسامة ثم شهقت شهقة واحدة ليس بعدها شهقات أخرى وأسلمت روحها الى بارئها..يحضر الصمت وينتهي الكلام..تلك اشتهاءات بطعم الآلام وانكسارات بشتى الألوان.

*******

ضجيج الصــــــــــمت

إضـــــــــــــاءة

عذبات مارقة أبطالها أرواح بشرية، شاءت الأقدار أن تكون في حضرة المعتقلات الممتدة في ربوع وطننا العربي،تتسامر مع النيازك المنبعثة من أيادي الجلادين...تسيل الدماء بسخاء نحو مجرى اللاوعي، تَعِد بالكثير من الإختزال نحو مصير تتساقط أوراقه في ليالي بآهات مصلوبة،الحدر واجب واليقظة مطلوبة...دق الحدث أوتــــاد خيمته...همس مثير للفضول يهز الأفئدة هزًا مخيفاً، ألم يدك الأسوار دكا، ولحظة تعبث بمخيلة نائـل كوحش خبيث زاد من كربه وأضرم السوء والجبروت في سيرته، فأصبح للشر جناحان في قلب الجحيم... إشتهاءات تعودت على المضي قدما لسربلة ذاكرة مثقلة بالأشواك الجوناء.

مدخــــــــــل

نبضات ساعة حائطية متواصلة، ظلمة حالكة تحرك أهداب الغرفة في حركة أسطورية،صوت الزوايا تتهامس في خفاء مستتر تناجي الثرى، سرير منعكف مثل القرفصاء لا يعبر عن حميميته لصاحبه في ازدراء...ضوء الأباجورة في شيخوخة متناهية على مقربة من الضياع...نائل يشيح بنظره في اتجاه لا يخلو من الريبة، نظرة عميقة فيها من الغليان لأشعال غابة مورقة... فيغفو بجوار ذكرياته نحو الشفق القرمزي منصاعا لجراحه الدامية وهي تندثر كقطرات الندى على ورقة ذابلة..

أنت موقوف بتهمة المس بأمور الدولة... جملة ما تزال تلعب بفرائسه بعد طول سنين
تم تعصيب عينيه بشريط أسود يمنع مرور الضوء إليه..قيدت يداه بشدة.. تنطلق السيارة في عجالة من أمرها...أصوات وهمسات متقطعة تعبر عن حلاوة الصيد، تفرعات دموية سارت في جسد نائل...

فنطق في رعشة والعرق يتصبب من جبينه

 الى أين نـــــــحن ذاهبون؟

 فرد عليه صوت غليظ قريب منه: في اتجاه العالم الأخر... ويتبعها بقهقهات وضحكات صاخبة...نائل أصبح ساعتها ضمن حضيرة القطيع والنعاج الضالة، بؤس نزل بمظلة هابطة ولحظة سيخلدها التاريخ... غرفة باردة تلك التي كانت من نصيبه وصراخ المتواجدين بالقرب منه في زاوية مظلمة، تنكيل وضرب الى حد الهمجية...زنزانة تملؤها القذارة...شقوق وتجاويف أقيمت على أطرافها مختلف الحشرات الضارة...يجرونه كورقة خاوية فقدت سيطرتها...فيبدأ الجلاد في ممارسة طقوسه الشيطانية...يشحن جسده بالأسلاك الكهربائية فينطلق العواء... صراخ... صراخ...صراخ
تختلط الأشياء ببعضها البعض ويتحول العالم السرمدي الى صحراء قاحلة...جافة...حر شديد...إختناق أبدي...وفجأة تظهر ملامح واحة بها شجيرات عملاقة وبحيرة صغيرة، فتلطمه بمياه وسخة صفراء... طبعا حاشية الجلاد توقظه من غفوته قبيل إعادة فصل جديد من فصول التعذيب...مسيرة منقطعة النظير تلك الضربات المتتالية للجلادين، رفع كفيه نحو أذنيه ليمنع السمفونية وهي في حالة هيستيريا...تأتيه الصفعات من كل جهة فيحاول صدها بأسلحة بالية لا تتمتع بحق المناعة، يرفع مرفقيه نحو وجهه... بزغت نجمة في إتجاه وجهه لتطبع ضربة مدوية، ذوبان حتى أخمص رجليه وحركة جنونية منبهرة بايقاعات خفية...نبضات شعور آدمي بليغ...نار تشتعل...دخان متصاعد...ثورة ملؤها الغضب

وماذا بعــــــــد؟؟؟

تمنى الموت طوعا مرات كثيرة وجذب عنقه بهدوء...إرتماءة صاحبها ضجيج رأسه المصاب بمخطوطات تؤرخ عبودية الأثار التي خلفها العدو اللدود...لحية كثة تدغدغه ترجوه العودة الى واقعه...شعيرات بيضاء تفشت فوق صدغيه في هامة جندي مستسلم لعالمين متناقضين، أبى الموت أن يحرره من قيده،فما يزال صوته الأجش يعيد التفاصيل الدامية وضياع سنوات من عمره بسبب إعتقال خاطئ والعذر الأقبح هو تشابه في الأسماء...وبدون موعد سابق، تجده يلوح لجدران غرفته أنه الحاكم لقعلة أرخت إنجازه في عتمة حاكلة...غبطة غليظة الميثاق عندما يزوره الجلاد كل ليلة بفظاظته فيسبح في زاوية عامرة مستدقة، يلوح له بعصا حديدية تجعله مخلصا للأمسيات الصاخبة في إثارة غير مسبوقة، حتى الشمس إمتنعت عن الدخول لقلعته مخافة أن تفترسها عيونه الجاحظة...لحظة في بوتقة الذاكرة المتعبة...غاية من الصعب أن يدركها في عناء الأدوية وهي منتصبة بالقرب منه...وجوه مختلة تتلاعب بمخيلته وإصرار خفي لمحاصرة ماضيه بحاضره، أصبح كيانه من صفحتين...واحدة تهاجم والأخرى تفر، وقف شعر رأسه يبحث عن بوصلة تحدد الإتجاه الأزلي لمعاناته، تلك البقع السوداء تهرول صارخة في غيض كظيم... ينهض بسرعة من سريره...تداعبه الهمسات من كل جانب فيدور حول نفسه في تيار معاكس لوحش المكان... فيرتطم رأسه بالجدار ويفقد وعيه ليعانق عالمه الأعزل...وداعة قيلولة برمق اللاوعي وهدنة جاثمة وسط لعنة الكدر...يتوسل بلطف أن لا يعبث أحدهم بجسده المسجى فوق الأرض، أنين شق أنات قلبه المثقل بالهموم ليسافر في خلود الذكرى..لحظة هرمة إلتصقت بمخيلته...خطوات تتجه بالقرب منه وإحساس غريب يتوجس بين الإنعزال والتلبس الشيطاني الذي أحاط بنزق نوباته اليومية...يتطاير الزبد من جوفه ويصرخ كثور هائج.... آآآآآآآآآآآآآآآه

يفتح عينيه نحو الأعلى في شهقة ماردة معلنا فصلا جديدا، ليجد أسرته تحكم القبض على ثورته.....غمغماته ملأت المكان وحالة طوارئ بين الهمز واللمز أثارت عبق السجن الخارجي...هكذا أصبح نائل بعد خروجه من المعتقل... يتمدد بين الأشياء المتناقضة...جمرة الإنقسام جعلته يعيش في حالة من الفوضى...مرة يكون مثل الطفل الوديع ومرات أخرى كالثور الهائج...ضحكات يتبعها بنوبات من البكاء المستمر...يرفض الخوض في الكلام أو مقابلة أقرب الناس إليه...أصبحت مشاعره مرتبكة لا تقوى على التمييز...تتصارع الخطوط بداخله لترسم له الظل الأسود في حياته وهلوسة تنزاح من عرق التشهي لبقية عمر فانٍ وشاهد على قبره المحموم في أفق ديوان الأمس الثائر وغرابة الحاضر المبهم

خــــــــــــــروج

تلك هي تراتيل ملحمة لإنسان حوله الزمن الى ألوان قاتمة إمتزجت بموسيقى العازفات الجنائزية وأشباح ترسم خلفية مرعبة للأيام الباقية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى