بوعـزيز وكتابة تاريخنا الوطني
.. وكيف نتمكن من كتابة نزيهة لتاريخنا الوطني؟.. وما هي أنجح وأنجع السبل لتحقيق ذلك؟.. هل تكفي المجهودات المبذولة من طرف المؤرخين الجزائريين والجهات المعنية و المهتمة؟.. ومن عـساه يكتب صفحات تاريخ بلادنا بأمجاده وملاحمه إذا أهملنا المؤرخ أو همشناه أو فقدناه؟.. تساؤلات مشروعة صادفتني وصافحتني هذه الأيام، وأنا أتذكر مرور ثلاث سنوات كاملة على وفاة المؤرخ الدكتور يحيى بوعزيز الذي رحل عنا في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 2007 بعد تخليد الذكرى الثالثة والخمسين لاندلاع لهيب ثورتنا المجيدة.
لقد توفي المؤرخ الدكتور يحيى بوعزيز عن عمر يناهز 78 سنة، إثر مرض عضال ألزمه الفراش والعلاج أزيد من سنة، مخلفا وراءه حوالي أربعين كتابا في مختلف جوانب التاريخ الجزائري المعاصر، بالإضافة إلى أزيد من ألف مقالة نشرها، وألف محاضرة ألقاها في الندوات والملتقيات داخل وخارج الوطن، إلى جانب أعماله المخطوطة، ومن أبرزها مذكراته الشخصية بعنوان: فضاء في رحلة العمر، وستصدر في الأمد القريب، كما أخبرتنا زوجته الكريمة التي حدثتنا بحرقة عن الفترة العصيـبة التي مر بها طوال سنتين من المرض والعلاج، متنقلا ما بين الجزائر وفرنسا، حيث كانت ترعاه هناك إبنته العزيزة عائشة، بعيدا عن أي دعم مادي أو معنوي من أي جهة رسمية، وهو الذي أعطى لوطنه عصارة جهوده المتواصلة عبر نصف قرن، وأوصى كذلك كما علمت من أسرته الكريمة أن توهب مكتبته الخاصة العامرة إلى المكتبة الوطنية الجزائرية، تدعيما للبحث التاريخي والعلمي وتعميما للفائدة.
ظل الدكتور بوعزيز نموذج المثقف الوطني الذي لا يترك مناسبة تمر بدون أن يساهم بمقالة يكتبها أو محاضرة يلقيها، هكذا عهدته منذ أن ساهمنا معا إلى جانب الدكتور عبد المالك مرتاض والأديب المرحوم عمار بلحسن في تأسيس الفرع الجهوي لاتحاد الكتاب الجزائريين في 25 نوفمبر1975 بالإضافة إلى حضوره الفعال في مختلف النشاطات والملتقيات داخل وخارج الوطن.
وقد أتيحت لي فرصة محاورة أستاذنا المؤرخ عدة مرات، ففي شهر أوت 1989 أجريت معه حوارا هاما نشرته بصحيفة المجاهد الأسبوعية بمناسبة اليوم الوطني للمجاهد الذي يصادف 20 أوت، وسينشر كاملا ضمن الطبعة الثانية المنقحة من كتابي: الأدب الجزائري وملحمة الثورة، حيث يجيب عن سؤالي المتعلق بأنجع السبل لكتابة نزيهة لتاريخنا الوطني بقوله: إن أفضل أسلوب في هذه المرحلة، هو إعطاء الفرصة المواتية لكل من يريد أن يكتب عن هذه الثورة، وتوفير ما يمكن توفيره من وسائل الطباعة والنشر، حتى يتمكنوا من نشر ما كتبوا، فتحفزهم الهمم للتصدي بالكتابة والرد والتصحيح، وملء الفجوات، وبذلك تبرز إلى الوجود مجموعة كبيرة من الأحداث والوثائق، ويجد الباحثون المتخصصون مادة خصبة لأعمالهم وأبحاثهم الأكاديمية.
وقبل ذلك، سبق لي أن أجريت مع الأستاذ يحي بوعزيز حديثا نشر بنفس الصحيفة، وقد أجاب عن سؤالي المتعلق بمعاني ودلالات حرية التعبير لدى المثقف بوجه عام، حيث قال حرفيا: توزن حرية الرأي والتعبير بمدى انتشار الثقافة ووفرة التعليم، وكثرة دور النشر والكتب والمجلات، وتطور الأنظمة الدستورية، وشعبية القيادات الحاكمة المنبثقة عن الاستشارات الشعبية النزيهة . إن هذه السلسلة من الحلقات المترابطة فيما بينها، هي التي تسمح بالبحث في موضوع الإبداع، واستجلاء مجالاته الفكرية والأدبية والعلمية، باعتباره نتيجة أساسية لحرية الرأي والتعبير والعمل والتفكير.
ذلك أن الطبقات المفكرة التي تعيش في ظل الأنظمة المستبدة، كما أضاف يومئذ، لا يمكنها أن تبدع، لأن حريتها مقيدة، وأفكارها حبيسة في سجون الرقابة، ومسيجة بقيود الإرهاب والتخويف، والتهديدات اللامحدودة وسوء المصير.
رحل أستاذنا المؤرخ المرحوم منذ ثلاث سنوات، وبقيت كتبه وكتاباته خالدة، تنتظر من طلبته والمهتمين تجسيدها من خلال تحقيق أمنيته الغالية في إنشاء مؤسسة يحي بوعزيز للبحوث والدراسات التاريخية..