الاثنين ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم وديع العبيدي

المنظور الاجتماعي في قصيدة الشاعر حسن البياتي

(1)

الشاعر الدكتور حسن البياتي من الجيل الثاني في قصيدة الحداثة العراقية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين- المنصرم-، وهو الجيل الذي عاصر التجربة وروادها، وكان جزء منها. غلب على شعره الطابع الوطني أو الشعر السياسي، وهذا يؤول الى طبيعة المرحلة السياسية التي اقترنت بها كتاباته الشعرية المبكرة. وهي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية على الصعيد الدولي، وما بعد انشاء اسرائيل، وقيام الحكم الجمهوري في مصر على الصعيد الاقليمي، وما بعد نهاية الانتداب البريطاني على العراق ودخوله مرحلة سياسية شائكة ومضطربة. مما دفع النظام الى عقد تحالف اقليمي مع جيران العراق في الشرق والشمال تارة، والمعروف بحلف بغداد، وتارة للدخول في الاتحاد الهاشمي بين النظامين العراقي والاردني. وقد اجتمعت كل خيوط الغليان والتوتر الداخلي وانفجرت في الانقلاب العسكري واعلان الجمهورية في العراق/(يوليو 1958م).
وقد كان موقف الشاعر حسن البياتي يومها مؤيدا للتيار الوطني التحرري والتحول الجمهوري، مسخرا كتاباته في هذا الاتجاه، والذي يطبع شعره في تيار الشعر السياسي العراقي خلال الخمسينيات والسنوات الاولى من الجمهورية، قبل سفره للدراسة في الاتحاد السوفيتي يومها.
وسوف تتراجع كتاباته الشعرية مع التحول الاكاديمي، لصالح التأليف الاكاديمي والترجمة عن الروسية. أما التغير الآخر المرافق للتحول الاكاديمي، كما يتضح لدى كثيرين في هذا المجال، هو تراجعه عن قصيدة التفعيلة الى قصيدة القريض التقليدية. فشعره المتأخر مع تقدمه في السن، هو في أغلبه من القريض المنظوم، ويتناول موضوعات حياتية وذاتية بالدرجة الاولى.

(2)

وفي هاته المعالجة، محاولة لقراءة قصيدته المؤرخة لمقتل شقيقه الصغير على أيدي قوات الاحتلال البريطانية في العراق. والمعروف تاريخيا، ان القوات البريطانية احتلت العراق مرتين خلال القرن العشرين، المرة الاولى خلال عمليات الحرب العالمية الأولى، والثانية خلال عمليات الحرب العالمية الثانية. وفي المرتين دخلت القوات المحتلة في المدن والقصبات واشتبكت مع الاهلين العزل والمدنيين، في المرة الاولى، بذريعة ملاحقة ثوار وانصار ثورة العشرين؛ وفي المرة الثانية، في ملاحقة الثوار والمؤيدين لحركة رشيد عالي الكيلاني لعام 1941م.
ونظرا لكون الشاعر – في قصيدته- شاهد عيان، يسجل مشاهداته ومعايشاته الحية كما يرد في النص، ولكونه من مواليد عام 1930م، فالظاهر انه لم يحضر الاحتلال الاول، ولكنه عايش الاحتلال الثاني في عام 1941م.

أهمية قصيدة (جنود الاحتلال) للشاعر حسن البياتي، تستند الى جملة نقاط، منها..
1- انها تنبع من خصوصية موضوعها، ممثلا بفقدان الاخ عامة، وكونه مات مقتولا، وفي سن الطفولة ايضا، مما يرفع درجة خصوصية الموضوع وندرته في فضاءات الشعرية والمرثيات الأدبية (مقتل طفل بأيدي الاحتلال).

2- المعالجة غير التقليدية للموضوع. فهي تنأى عن الخطابية المنبرية والحماسة البلاغية، لتلتقط اللحظة النفسية وانعكاسات الشعور الطبيعية والعفوية. وكما سيأتي، فأن خبر الموت لا يتحقق بالنقل أو السماع، وانما بالاكتشاف العياني المباشر، وهو يتفقد شقيقه ويبحث عنه.

3- تمثل القصيدة باكورة في مجالها، في تجربة شعر التفعيلة المبكرة يومذاك. ورغم ان المتعارف، ان المعالجات الشعرية لمسائل الوطنية والحرب والعسكرية، تميل للقريض والحماسة، فقد ارتأى الشاعر الاقلاع عن التقليد واختطاط الحداثة شكلا ومضمونا، اسلوبا وتقنية.

4- رغم معالجة الشاعر لموضوعة شخصية وعاطفية، وجودية ومأساوية،فهو لم ينغلق على ذاته، ولم يستسلم للسوداوية واتخاذ موقف متمرد أو ضدّي على الصعيد الوجودي او الاجتماعي العام. وبقي مركزا على الموضوع وانعكاساته النفسية والاجتماعية من منظور انساني. والتأكيد على وحدة النسيج/ الواقع والمصير، والتعاطف الشعبي من خلال اشتراك رفاقه في حملة البحث، ومشاركة النساء في تأبينه.

5- رغم التسجيل العاطفي والنفسي للحظة الحدث وتفاصيل الموضوع، فقد حرص الشاعر على تصوير الحملة العسكرية، ونقل صورة القوات والعنجهية المتوحشة لسلوكها، من غير مراعاة البشر والمدنيين والاطفال الابرياء الذين كانوا يلهون في الشارع.

6- هذا النص وأمثاله، يدخل في باب الدراسة والمقارنة، في مدى عمق وفعالية المساهمة الوطنية والاستجابة الانسانية في الظروف والمواجهات المختلفة. وقد تكرر مشهد الاحتلال ومضاعفاته الكارثية في غير بلد وزمن، كما تعرض العراق نفسه لحالات متكررة من الاحتلال والعنف المنظم خلال تاريخه الطويل، والمعاصر خاصة. مما يقتضي الوقوف على ردود الافعال المختلفة ازاء ذلك، ومن ضمنها، الموقف الادبي والثقافي وطريقة سلوكه ازاء ما يهدد الانسان والوطن.

من الممكن القول، ان مناوأة العنف عموما والحرب خصوصا، هو جزء حيوي بنيوي في خطاب الحداثة والانتصار للحياة والانسانية. وعندما يصدر العنف من طرف خارجي محتل ومتسلط، في بلد ليست له القدرة العسكرية على التصدي، فالحداثة هنا تكتسب هوية وطنية، وتتخذ موقفا واضحا وحاسما أمام الذات والعالم.

والواقع.. ان المدونة الشعرية العراقية والعربية، وفي فجر الحداثة، حفلت بتجارب واسهامات معتبرة على الصعيد الوطني والقومي والانساني، وفي مجال التصدي للعنف ورفض مبدأ الحرب والعدوان، لعل ابرزها قصيدة (الاسلحة والاطفال) لبدر شاكر السياب، و(أغنية حزن الى كركوك) لبلند الحيدري، وكثير غيرها.

وسوف تعود مأثرة السلم ونبذ الحرب والموقف الرافض للعنف، مرة اخرى، في قصيدة التسعينيات العراقية، بعد المعايشة الحية للحرب وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، محليا ودوليا. لكن السؤال الحقيقي، يبقى عن مدى تحول الموقف الادبي النخبوي من العنف والحرب، الى موقف شعبي وطني ينعكس على صعيد السلوك اليومي والقرار السياسي؟.. هذا ما يقتضي المراجعة في الحالة العراقية.

(3)

ولد الشاعر حسن مال الله البياتي في مدينة (قزلرباط)* المتوطنة بين كتف هضبة حمرين والضفة الشرقية لمجرى نهر ديالى/ الى الشمال من بغداد. وعاش فيها شطرا من طفولته، وأولى سنوات الدراسة، قبل ان تنتقل عائلته منها.

وقد كانت مسرحا عسكريا في الاحتلالين البريطانيين والاضطرابات السياسية والعسكرية التي شهدها العراق. وقد سجل الدكتور مصطفى جواد جوانب من مشاهداته عن تلك الاحداث في سيرته الذاتية.

فإلى جانب مرور طريق الحرير الدولي [من روما الى الصين] عبر معبر خانقين في ديالى، مما جعل للمنطقة اهمية سياسية استراتيجية، إذ يلجأ اليها الثوار والمعارضون والسياسيون في أوقات الاضطرابات، بغية التسلل الى ايران، كما حصل في الاحتلالين وعقب الانقلاب الجمهوري، وفي ظل الضربة الاميركية في عام 1991م، واستمرت معبرا بعد الاحتلال الاميركي عام 2003م.
الى جانب ذلك، فان الوزير المخضرم في العهد الملكي رشيد عالي الكيلاني، الذي اعتبر وراء حركة 1941م أ على راسها، و من اهالي قرية السادة القريبة من مركز مدينة بعقوبة، مركز محافظة ديالى. وقد نجح في التسلل الى ايران، ومنها الى المانيا، مع بعض مساعديه.
وفي القصيدة، يرد ذكر محطة القطار المار بالمدينة، والمحاذي للنهر. مما يشير الى استخدام القطار لنقل العجلات والامدادات العسكرية، لمواصلة حملات الملاحقة وتعقب الثوار. يذكر الدكتور مصطفى جواد، ان الثوار في ثورة العشرين، عمدوا الى تفجير سكك الحديد في بعقوبة، لمنع وصول الامدادات لجيش الاحتلال. ولكن هذا لم يحصل في الاحتلال الثاني، لسبب أو اخر. ويذكر، ان بعض المتسربين أو المتخلفين من الحاميات العسكرية البريطانية في العراق، ومنها مواقع حمرين وجلولاء، استوطنوا في تلك المدن واندمجوا في النسيج العراقي، وبعضهم من اصول اسيوية/ هندية، أو اوربية/ بولندية.

(4)

عنوان القصيدة..

من غير توطئة أو تزويق، يضع الشاعر قارئه في مركز الحدث/ الصورة.

دراما القصيدة لا تنمو بالتدريج بحسب القياس الارسطي، وانما تنطلق مباشرة من الذروة. وهي في هذا تنسجم مع طبيعة التغير الطارئ، الظهور المفاجئ لقوات عسكرية/ أجنبية في محطة المدينة.

يتكون العنوان من كلمتين، كل منهما على قدر متقارب من التوتر والافحام: جنود/ احتلال. الأول له انعكاس شخصي مباشر، والثاني ينعكس على صورة الوطن والانتماء، والصفة العامة/ الجمعية للتهديد.

ولا حاجة بنا للقول في هذا السياق، ان لفظة (جندي)/ [جن/ دي] لا توحي باي شعور ايجابي ولا تبعث على راحة/ طمأنينة، أو حالة عادية/ حياة طبيعية. ولذلك نأت حركات المعارضة والمقاومة عن تسويغ تلك اللفظة، واختارت لنفسها بدائل مثل: ثائر، مدافع، فدائي، مناضل.

فالذاكرة البشرية -تعبى- من آثار التاريخ السلبي لكل لفظة لها دالة على العنف المنظم أو السلطة العسكرية. ورغم ان مجال العسكر هو الحرب، والمحاربون يختارون – تقليديا- مكانا خاليا بعيدا الاستيطان البشري، لممارسة نشاطهم العسكري؛ فأن علاقة الجيش بالمدينة والناس، بحسب المدونة التاريخية، تتعلق بالنهب والقتل والاغتصاب والحرق.

صورة الجندي الملائكي التي حاولت الامبريالية الانجلو- اميركية تسويقها، وربطها بصورة (المنقذ/ المخلص) التوراتية/ الانجيلية، جزء من مشروع تزوير الحقائق وتفريغ اللغة والمصطلح من معانيها الانسانية الثقافية المتعارفة، مما يترتب عليه تهشيم أدوات الفكر والتعبير والذاكرة، والتي، بغيرها، ينتفي المعنى والقيمة والوجود. هذا التدمير الفكري اللغوي الثقافي، أشد خطورة وبشاعة من أي غزو أو احتلال عسكري مادي، ما يفتأ أن يذوب وينسحب مع الوقت. بينما تستمر آثار المسح والتشويه والتطهير اللغوي والثقافي حتى اللارجعة.

ولعل هذا يقود لكشف طبيعة الالية والتقنية الأميركية في سياساتها الخارجية، وتوجيه كل جهدها العسكري والامني خارج حدودها. فبعدما كان الفكر السياسي التقليدي يبرر الغزو الاجنبي باسباب اقتصادية تتعلق بالحاجة للمواد الخام أو الايدي العاملة الرخيصة، او الحاجة لفتح أسواق لتصريف منتجاتها أو حماية طرق التجارة، نجد غياب كل هاته المبررات – التقليدية- في مشاريع الغزو والهيمنة الأميركية. بينما نجد في نفس الوقت التأكيد الأميركي على تصدير الثقافة الامبريية والطراز الاميركي للمعيشة والسلوك خارج حدودها.

إذا كان الاستعمار القديم قد فشل كثيرا أو قليلا، لاهماله مجال الثقافة. فأن الهدف الأول ومجال التعويل المركزي في المشروع الاميركي هو الاختراق الثقافي وتفريغ اللغة والمنطق والقيم من مفاهيمها الاصلية، وصولا لتدمير اليات التفكير والتعبير والتواصل. وما عبارة (الحرب تدور في الاعلام) الا غبار المعنى الحقيقي لفكرة الحرب.

وعندما تنشر وسائل الاعلام صور وتقارير عن طائرات عسكرية اميركية تنقل المساعدات الغذائية والدوائية والبطاطين وهدايا عيد الميلاد للمدنيين في افغانستان او غيرها، الى جانب صور جنود اميركان يساعدون اطفال اسيا وافريقيا ويلعبون معهم الكرة، فالمغزى هو تدمير الذاكرة التراكمية والتواصلية المعرفية عند الشعوب، واعتبار الوجود العسكري الاميركي حول العالم، وجودا ملائكيا ولاغراض انسانية ممثلة في تحقيق الخلاص ونشر الدمقراطية ومساعدة الشعوب في تقرير المصير.

(5)

وفي حيثية [اللغة والذاكرة والحدث] تعمل التقنيات الشعرية في قصيدة حسن البياتي.
لنحاول الآن ترجمة القصيدة الى صور ونماذج بدل الكلمات والاصوات، وذلك كما يجري في المراحل الاولية لتعليم الاطفال. وبدل كلمة جندي نرسم صورة شخص يرتدي اليونيفورم ويحمل بندقية. ونقتطع الصورة من الورقة، لتسهيل تحريكها من مكان لاخر وبحسب القصة. وهكذا مع بقية الالفاظ والدوال الرئيسة في القصة.

سوف نكتشف محدودية عدد النماذج والمشخصات التي اعتمدت عليها القصيدة، كما نكتشف نسبة التكرار واتجاهات تغير الادوار والانعكاسات لكل رمز أو مشخص.

نستشف من ذلك، ان اللغة والية الفهم تعتمد على الذاكرة، وان اصل المفردة هي الصورة، وليس الصوت/ النطق الفيزياوي، وان المعنى بالتالي لا يوجد في النص، ولكنه يتكون داخل الذهن/ العقل/ الذاكرة/ الثقافة المتوارثة.

وظيفة النص هي استثارة الذاكرة، واستحثاث الدوال والسيميائيات المخزونة في (سوفت وير) العقل. وسوف يختلف المعنى باختلاف الثقافات التربوية والهويات القومية. فغمزة العين –مثلا- لها مدلول معين عند العرب، يختلف عنه في اوربا أو ثقافة اخرى. أي حركة/ صورة تختلف من ثقافة لغيرها ومن بلد وشخص لغيرهما، بحسب الموروث والاختبار الشخصي.

والان.. هل يمكن تفريغ المفاهيم والادوات المعرفية الاتصالية ومنحها معاني مختلفة، أو متحركة. وبدل صورة الجندي الذي يستخدم البندقية لقتل شخص ما، تظهر صورة جندي يقدم الطعام/ الحلوى لعدوّه، جندي يحمل الانجيل بيد وزهرة بيد أخرى، وعلى كتفه تقف حمامة بيضاء.
في البدء تتشوش الذاكرة، ويرك المرء عينيه عدة مرات، وربما يحتج ويرفض الاستمرار في متابعة الصور. ولكنه بعد التكرار ورؤية اشخاص اخرين استقبلوا الفكرة الجديدة، يتراجع ويذعن. هذه هي وظيفة الاعلام الجديدة. ليست نشر الحقيقة الكائنة والبينة المادية في الواقع، وانما تغيير طريقة الفهم وتاويل المعنى وتركيب مفاهيم محتلفة على صور والفاظ تقليدية. وعندما تقول انك رأيت فلانا يقتل فلانا بطعنه أو يختطفه في سيارة، يجيبك احدهم: لا.. لقد كان ينتزع السكية من يده ليمنعه من الانتحار، أو يتم قلب المعنى وتبديل الادوار، والشخص القتل كان يدافع عن نفسه ويحاول منع القتيل من ايذاء الاخرين؛ أو ان صورة الخطف العنيف، هي المساعدة لنقله للمستشفى لاصابته بجرح أو تدهور صحته.

لقد ساعدت تقنيات الكمبيوتر في نشر ثقافة جديدة لا تخضع لموروثاتها التقليدية أو المدرسية/ المعجمية. فالدالة ليست لها صلة شرطية بالمدلول، والمعنى لا يخضع لمركزية أو قطبية، غير قطبية صاحب القوة والنفوذ. فالقاضي وحده صاحب الحق الفعلي في تفسير وفهم ادوات الجريمة وقصتها، وحده يحق له رؤية ما يرى الاخرون. وكما ان القوي يكتب التاريخ، والنبي يفسر الرؤيا لوحده، فالسلطة، والسيد المتنفذ هو ما ينتج المعاني ويميز الخير من الشر.

(6)

القصيدة ليست بنت لحظتها، وانما هي استرجاعية من خلال الذاكرة.. فهي تبدأ بالقول..
ما زلت أذكر..

وقد ظهرت القصيدة في مجموعة شعرية تحمل نفس (عنوان القصيدة) في عام (1959م)، أي بعد ثمانية عشر عاما على الحدث (1941م). ورغم احتمالية كتابة القصيدة، في تاريخ سابق، فظهورها في كتاب، لابد له من مراجعة وتغيير. اضافة الى دور تطور الوعي وادوات التعبير والفهم النفسي والفكري، بين شخص في الحادية عشرة من عمره، وشخص في التاسعة والعشرين من عمره.

وقد هيمنت صيغة الزمن الماضي على اللغة، من خلال اقتران الجمل بالفعل الماضي الناقص [كانت، كان] الذي يؤكد ماضوية الحدث ومنبعه الذاكراتي.

وقد تكررت لفظة (جنود الاحتلال) ثلاث مرات، بنفس الصيغة اللغوية التركيية، داخل النص، الى جانب تصدرها العنوان، مما يجعل تكرارها يصل الى (اربع) مرات. وفي كل مرة، ترد فيها اللفظة، تتبعها كلمة (القتال) في صيغة الفعل..

[كانت جنود الاحتلالْ

كالسيل تزحف للقتال...]- 2

[ومضت إلى سوح القتال

عجلى...

وفوق ظهورها كانت جنود الاحتلال]- 1

والى جانب التصريح اللفظي، الجندي وعمله المباشر (القتال)، وردت اللفظة في صيغة الجمع الدال على الكثرة (جنود). ان الكثرة تفيد ايضا، الى جانب تضخيم الصورة ومضاعفة التوتير النفسي والعاطفي، فأنها توزع الجرم على الجمع المجهول، وليس شخص معين يمكن تحديده. فثمة قتي، جريمة قتل، مع تنكير القاتل. وبالتغاء المسؤولية الشخصية، تبهت صورة الاتهام.
وقد عمد الشاعر الى تجويز تأنيث فعل (كانت)، فاعله مذكر معرّف/ غير نكرة (جنود الاحتلال)، عاملا على تنكير الفاعل وتجهيله. فالتنكير والتجهيل والتأنيث والتعميم المعمى، مغزاه الاستنكار والرفض من خلال اللغة.

(7)

يشكل المكان، أرضية، مسرح، قماشة لوحة، تتضمن جماعات الشخوص، واتجاهات حركتهم. والمكان الرئيسي في القصيدة هو مكان عام، ومعلم بارز في المدينة الصغيرة، ويمكن تصنيفها في ثلاث مجموعات: الأزقة والدروب(2)، درب طويل(2)/ الشارع النائي(3)، قضبان القطار(1).
وفضلا عن هيمنة الفعل الماضي على لغة القصيدة، فقد تمثل الزمن بدالتين: ذلك اليوم الرهيب(2)، الضحى(1).

واستدل على الناس في ثلاث مجموعات: اثنتان هم الاهلون: بدء بالاطفال/ (كنا صغار)، حيث يضمن الشاعر نفسه هاته الفئة. والمجموعة من الاهلين هم النساء/ الامهات بقيادة ام الشاعر.. وهن يشكلن المقطع الاخير من القصيدة وخاتمة المشهد الدرامي في الذاكرة..

وعويل أمي...
والخدود الداميات
والأعين المتقرحات من النحيب
والباكيات الناعيات...
ونساء حارتنا يبعثرن الشعور
واللاطمات على الصدور...
في بيتنا الخرب العتيقْ
كانوا، جميعاً، ينحبون
ويندبون...

أخي (رفيقْ)!

وقياسا على خصائص القريض، تناوبت القافية اربعة أصوات، هي على التوالي:
 باء: الرهيب، الدروب، نحيب، حبيبي.
 راء: القطار، صغار، كثار، شجار، تسير، هدير، شعور، صدور.
 لام: طويل، ذهول، الاحتلال، القتال
 نون: جنون، عيون، ينحبون، يندبون.
 دال: بعيد، شديد، وعيد،
 قاف: عتيق، رفيق.
 تاء: داميات، متقرحات، باكيات، ناعيات.

كما وردت الهمزة الحرة (تنوء)، الكاف (هناك). وفي الغالب تنتهي أواخر الجمل بالسكون الموحي بالحزن والحيرة والتساؤل.

القصيدة ليست طويلة من حيث البناء، خضعت لتكرار المشاهد الرئيسة، على سبيل الرتم الموسيقي/ المارش، الذي يجدد كل مرة ايقاظ الالم والرعب، قبل أن يتخافت. ورغم مرور حوالي العقدين على الحادثة، فأن حرارة النص نجحت ان توحي بطزاجة الحدث. وتاتي الصرخة الأخيرة (أخي رفيق) في باب الاستعارة حيث تتحول من لغة المتكلم/ الشاعر، الى لغة الطرف الثالث/ النساء النائحات، وهو مشهد العزاء التقليدي الذي تنتهي اليه قصة الانسان/ الحرب، عادة.

(8)

كنا صغار
نلهو ونمرح في الأزقة والدروب
كنا صغار

تكررت عبارة (كنا صغار) غير مرة، وتكرر معنى (نلهو ونمرح) كذلك، لتأكيد عنصرين: اولهما: البراءة وعدم اقتراف ما يستوجب العقوبة، وثانيهما: وقوع فعل الهجوم/ الاعتداء العسكري على (أطفال صغار)، سواء بالمعنى المباشر/ البيولوجي، أو المعنى المجازي غير المباشر الدال على سكان المدينة الصغيرة في حياتهم اليومية البسيطة، وعدم شأنهم بالجيوش والصراعات الدولية.
ولابد من اشارة مركزة وهامة، الى ارتباط صورة الاحتلال بالقطار وقضبان الحديد. فالمواصلات الحديثة ممثلة بالقطار والعجلات والطائرات وصولا للتلفونات (المواصلات والاتصالات)، ما يعتبر من مظهر الحداثة العصرية، ووسائل تحديث البلدان والمجتمعات المتخلفة.. عموما، تظهر هنا، وكأنها مرسومة ومخصصة لآغراض استراتيجية بعيدة لخدمة السياسات الكولونيالية، أكثر من الترويج الاعلاني/ تطوير البلدان وتحسين حياة الناس.

وما أشبه شبكة خطوط السكك الدولية في أواخر القرن التاسع عشر، بشبكة الاتصالات الالكترونية/ الاثيرية مع بدايات القرن الحادي والعشرين، وفي خدمة نفس اغراض الهيمنة الغربية والسياسات الستراتيجية الدولية.

وقد تكرر وصف الشاعر لمحطة القطار بالنائي البعيد. وهي اشارة حقيقية مطابقة للواقع، حيث تقع محطة القطار خارج مدينة قزلرباط في منطقة رملية شبه مقفرة بعيدا على حدود المدينة، بينها وبين مجرى نهر ديالى، وقد اختفت تماما في خضم مياه بحيرة حمرين في أواسط السبعينيات.

على الجانب الاخر، تستوحي القصيدة، رغم غلالات الحزن الكثيفة المهيمنة، تقليدا حداثيا ضمن تسالى الاطفال يومذلك. وهو اتخاذ الاطفال والصبيان سكك الحديد/ قضبان القطار وبعض العربات المتروكة في المحطة، مكانا للهو واللعب، كالسير فوق سكة الحديد الواحدة في موازنة وبغير سقوط أو افلات القدم من السكة، أو التخفي بين العربات، والصعود من باب والنزول من غيرها في مطاردة ولعبة الاختفاء.

شخصيا.. أستذكر اساليب لهو الاطفال في محطة قطار (مفرق) جلولاء الواقعة وسط المدينة، وسيما السير على جسر السكك المعلق على وادي العوسج الفسيح، دون الشعور بالدوخة وتراجع تركيز النظر بين اخشاب دعامات السكك المتوازية والمتعقبة، والحذر من مجيء القطار فجأة.

وهنا يتضاعف التوتر الدرامي وحجم الشعور بلأسى، عندما يتحول مكان اللهو والذكريات الجميلة، الى مناسبة ومكان للموت والفقدان الابدي.

كانوا هنالك عند قضبان القطار
يرغون في صخب شديد...
أصواتهم تعلو وتنذر بالوعيد
وكأنما قد لفّهم ثوب الشجار!
فعدوت نحوهمو:
(لعل أخي هناك)!
لكنني...
يا هول ما قد أبصرت عيني هناك!
كانت جنود الاحتلالْ
كالسيل تزحف للقتال...
كانت، وأسراب المدافع في الطريقْ
عجلاتها قد مثّلت بأخي (رفيقْ)
تركَتْهُ أشلاء مبعثرة يلونها النجيعْ...
ومضت إلى سوح القتال
عجلى...
وفوق ظهورها كانت جنود الاحتلال
في نظرة شزراء تهزأ بالجموع!!

هنا يستحيل رمز الفرح والبراءة الى رمز للشؤم والمناحة. وها نحن نستعيد ونستحي حدثا مضت عليه لاثة اربابع القرن من خلل قصيدة جمعت بين الذات والموضوع، المباشر وغير المباشر، بين الاني الطارئ والمستمر الحدوث والتكرار، على غرار التكرار الذي طبع الرتم والمقاطع الدرامية في القصيدة.

نص قصيدة (جنـــــــود الاحتـــــــلال) للشاعر الدكتور حسن اليياتي..

ما زلت أذكر ذلك اليوم الرهيبْ
والشارع النائي، وقضبان القطار:
كنا صغار
نلهو ونمرح في الأزقة والدروب
كنا صغار
حين احتوانا - والضحى – درب طويلْ
في ذلك اليوم الرهيب
كنا نهرول في جنون
أقدامنا الرعناء تستبق العيون!
للشارع النائي البعيد...
وعيوننا البلهاء تنثر في ذهولْ
نظراتها بين الأزقة والدروب
حتى احتوانا الشارع النائي البعيدْ.
كانت جنود الاحتلالْ
كالسيل تزحف للقتال...
كانت، وأسراب المدافع إذ تسير
عجلاتها الحمقى تدمدم كالهدير!
والأرض، كانت تحتها، تعبَى تنوء
تعبى تنوء... ... ...
كنا حيارى ذاهلين... وفجأة بين الجموع
تلفتتْ عيناي، أبحث عن (رفيقْ)
أخي الصغير...
ومضيت أصرخ في جنون، والدموع
تجري وتجري فوق خدي:
(يا رفيقْ)!
أخي!...
حبيبي!...
أين أنت؟
أخي (رفيق)!
لكنني أبصرت قوماً من بعيد
قوماً كثار...
كانوا هنالك عند قضبان القطار
يرغون في صخب شديد...
أصواتهم تعلو وتنذر بالوعيد
وكأنما قد لفّهم ثوب الشجار!
فعدوت نحوهمو:
(لعل أخي هناك)!
لكنني...
يا هول ما قد أبصرت عيني هناك!
كانت جنود الاحتلالْ
كالسيل تزحف للقتال...
كانت، وأسراب المدافع في الطريقْ
عجلاتها قد مثّلت بأخي (رفيقْ)
تركَتْهُ أشلاء مبعثرة يلونها النجيعْ...
ومضت إلى سوح القتال
عجلى...
وفوق ظهورها كانت جنود الاحتلال
في نظرة شزراء تهزأ بالجموع!!
ما زلت أذكر ذلك اليوم الكئيب
وعويل أمي...
والخدود الداميات
والأعين المتقرحات من النحيب
والباكيات الناعيات...
ونساء حارتنا يبعثرن الشعور
واللاطمات على الصدور...
في بيتنا الخرب العتيقْ
كانوا، جميعاً، ينحبون
ويندبون...
أخي (رفيقْ)!

* الدكتور حسن نجم مال الله، ولد عام 1930م في محافظة ديالى/ ناحية السعدية (قزلرباط). حصل على الليسانس في الآداب من دار المعلمين العالية ببغداد بمرتبة الشرف 1955م، والدكتوراه في اللغة والأدب الروسي من جامعة موسكو 1965م. عمل مدرساً في التعليم الثانوي، ثم في كلية اللغات الشرقية في موسكو، ثم في جامعة البصرة. وأحيل إلى التقاعد 1982. ثم عاد للعمل بكلية التربية للبنات بجامعة الكوفة 1993م. سافر بعدها الى اليمن، وعلى أثر سقطة على رأسه هناك، فقد بصره، وهو يقيم في لندن، حيث منحته البلدية شقة في بادنغتون، وكان يرعاه ابنه الطبيب، ويساعده في تدوين كتاباته وابراقها للمواقع والناشرين . والبياتي عضو اتحاد الأدباء العراقيين، وجمعية المترجمين العراقيين. نشر الكثير من أبحاثه في مجال تخصصه في الدوريات الأكاديمية، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية العراقية والعالمية. كما نشر قصائده في الدوريات العراقية والعربية والعالمية. ممن كتب عنه: يوسف الشاروني، ناجي علوش، صفاء خلوصي، نازك الملائكة، صالح الطعمة، وداود سلوم.ومن دواوينه الشعرية: من شفاه الحياة/ 1956م، جنود الاحتلال/ 1959م، في ملكوت الظلام. ومن أعماله الإبداعية الأخرى: عدد من الروايات والقصص المترجمة من الروسية إلى العربية منها: أولئك الذين تحت/ 1986م، طيور الشمس/ 1989م، زبد الحديد/ 1989م، الحاجز/ 1991م ، اللغز المغلق/ 1992م. أما مؤلفاته النقدية فهي : الشعر العراقي الحديث، مواقف مناوئة للحرب في الشعر الجاهلي، الأدب الفليبيني.

* مدينة قزلرباط شمالي موقع منصورية جبل حمرين على الضفة الشرقية لنهر ديالى، تغير اسمها الى (ناحية السعدية) بعد 1958م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى