في علم اجتماع الجيولوجيا..
(1)
يتكون سطح الكرة الأرضية من طبقات متراكمة يعود تاريخها إلى مليارات السّنين، يختلف سمك كل طبقة وطبيعتها عن الأخرى، كما يختلف معدل الضغط والحرارة من مكان لآخر. وفي العموم، فأن طبيعة الأرض/(اليابسة) ليست واحدة ولا متشابهة في العالم، وهذا ما ينعكس بدوره في اختلاف ظروف المناخ والمحيط الحيوي وتفاوته من مكان لآخر.
أما الأمر الآخر، فيما يخص سطح الكرة الأرضية، فهو أنه ليس قطعة/(كتلة) واحدة كاملة، ذي عمق وسمك واحد، وانما يتألف من عدة أجزاء/(كتل) متفاوتة في مساحتها وسمكها، يدعى كل جزء منها (plate). وبينما تتشكل قارة أوربا من قطعة (Europian plate) واحدة، تتشكل قارة أسيا الكبيرة نسبيا، من عدة قطع، وربما كانت قطعة كبيرة وتعرضت للتهشم والانقسام إلى أجزاء في زمن جيولوجي أو مناخي معين.
أما منطقة جنوبي غرب أسيا، التي تقع فيها العرابيا، فتشكل قطعة مستقلة بذاتها تدعى (Arabien Plate). وتبدأ هذه القطعة شمالا بخط عرضي تحت سلسلة جبال طوروس، التي تفصل تركيا عن الشام والعراق، وتنحرف قليلا لتنحدر مع سلسلة جبال زاكروس التي تشكل الحدود الجبلية شرقي حوض نهر دجلة.
وبينما تشكل أسيا الصغرى قطعة مستقلة بذاتها، تحادد القطعة التي تقع عليها ايران وتمتدّ في وسط أسيا. بينما يشترك العراق والشام وشبه جزيرة العرابيا في القطعة العربية. وهذا يجعل من بلاد المشرق العربي: [شبه جزيرة العرابيا وبلاد الشام والعراق]، بالمنظور الجيولوجي والتوبغرافي، منطقة جيوتوبغرافية ذات خصائص طبيعية متشابهة واحدة.
وفي كتاب المفصل لجواد علي، شرح مفصل لتوبوغرافيا شبه جزيرة العرب/(المشرق العربي)، -وليس العمق الجيولوجي وعلم طبقات الأرض-، سيما في جزئها الجنوبي السهوبي وتوزيع البوادي ومناطق النفود.
انصار النظرية الجيولوجية يعتبرون التضاريس والسلاسل الجبلية دالة تفاوت جيولوجي وعدم انسجام الكتل المكونة لطبقات سطح الأرض. وهناك حيث تلتقي أو تتزاحم وتتصادم كتلتان في تدافع وشدّ داخلي، يرتفع سطح التربة/ (طبقات الأرض) للأعلى.
مناطق التقاء كتلتين أو أكثر في جيولوجيا الأرض، هي مواضع ظهور البراكين والزلازل الأرضية، كلما بلغت درجة الحرارة نتيجة الضغط والتصادم، درجة خارج احتمال المحيط البيئي، تتنفس مندفعة للخارج. الملاحظة الجيولوجية الثالثة هي أن اتجاه الكتل الجيولوجية يتجه من الشمال، وتندفع ضاغظة بثقلها نحو الجنوب.
أي أن الكتل الجيوليوجية ليست ثابتة ومستقرة في مواضعها، وانما في حالة زحف وضغط وتدافع جنوبا، مما ينتج عنه ضغط جيولوجي عنيف على الكتل الوسطية والواقعة جنوبها. فالكتلة السلافية تضغط على الكتلة التركية، وكل من التركية والايرانية تضغطان على الكتلة العربية. وهذا يستدعي من الكتل الجنوبية قوة مضاعَفة للحفاظ على نفسها ومواقعها، ومقاومة فعل الضغط الشمالي. وفي النتيجة، تساعد المساحات المائية في امتصاص فائض الضغط الجيولوجي، بشكل أفضل من اليابسة التي تفتقد المرونة الكافية، أو مجالات التنفيس الجيولوجي.
(2)
ثمة ملاحظة طريفة ترد في رواية فؤاد التكرلي [1922- 2004م]: (خاتم الرمل)، فحيث يتجول بطل الرواية بسيارته ليلا في بغداد، يقوده فكره لملاحظة ارتفاع سطح الأرض في مكان ما عن معدل الارتفاع العادي، ويبدأ ذهنه في التساؤل مع نفسه، عن السبب الذي وراء هذا التوتر التوبغرافي. وهذا ينقلنا الى ما ندعوه علم الاجتماع الجيولوجي.
يقال ان الاسكندر المقدوني [356- 323 ق. م.] خلال إقامته في العراق [331- 323 ق. م.] واتخاذه بابل عاصمة له، لآخر ثمان سني حياته؛ لحظ اختلاف أهل العراق عن سواهم، وواجه صعوبة سياستهم. فكتب بذلك إلى معلمه الفيلسوف أرستوتل [384- 322 ق. م.]. وهذا علّل له الأمر: بطبيعة البيئة والتربة العراقية.
فتساءل الاسكندر، لو قيض له تبديل تربة العراق، هل سيستقيم أمر سكانه!.. فكانت مشورة والدته هنا، وهي زوجة الملك فيليب الثاني، التي تراءى لها قبل حملها بالاسكندر، أن نورا سماويا من الإله زيوس يخترقها؛ أنه لو قيض له تغيير التربة، فلن يقدر على تغيير الهواء الذي يتنفسه السكان، وهو جزء من محيط بيئتهم، فيتوارثون خصائصهم الجينية والنفسية.
ارتباط، ليس كيان الانسان وتكوينه الجسدي بالتربة فحسب، ولكن ارتباط طبيعته النفسية وخصائصه الجينية بخصائص الجيولوجيا والتوبوغرافيا وطبيعة المحيط الحيوي، أمر على قدر من الأهمية، سيما عندما يداهم الفكر العقلي قبل الميلاد.
بعض المعاصرين، حاول تفسير/ تأويل الطبيعية النفسجتماعية لأهل العراق، في ضوء الاجتماع الجيولوجي، وترجمة الضغط المزدوج للكتلتين التركية والايرانية، في منطقة المثلث على الجانب الشرقي، من الكتلة العربية المواجهة للعراق، في صورة التناقض والاضطراب، وعدم الانسجام في الشخصية العراقية، والتي لخّصها الدكتور علي الوردي [1909- 1973م] بعقدة (الازدواجية) في كتابه الرئيسي: (لمحات اجتماعية في المجتمع العراقي).
(الازدواجية): هي عقدة اجتماعية/(مثنوية البنية والأثر) تعاني منها الشخصية الغربية/(الأوربية والأمريكية)، تفاقمت وظهرت للسطح مع نموّ المجتمع والنظام الرأسمالي. وبحسب مدارس التحليل النفسي الغربية، فأن جذور مرض (الازدواجية) ليست اجتماعية، وانما نفسية عقليّة، تتصل بمرحلة اللاوعي التي كشف عنها سيجموند فرويد [1856- 1939م]، و بدايات الادراك العقلي في مرحلة الطفولة والنشوء، التي استكملها كارل يونغ [1875- 1961م] ومعاصروه، فيما يدعى (ما بعد الفرويدية): المدرسة الحديثة في التحليل النفسي ودراسة الشخصية.
ولم يتوقف هؤلاء عند حالة نقص الحبّ وعدم الاشباع العاطفي للطفل، وانما تناولوا غياب الحبّ والانسجام العاطفي عند الأبوين، والتي رسّخها النظام السيوسيوقتصادي للدولة الرأسمالية، لتأمين ديمومته، والغاء أسس أية محاولة للتمرّد، أو مخالفة الضوابط والاملاءات المجتمعية السياسية.
فمنظور الغرب للازدواجية، إذن، ذو تأويل وتوظيف نفسي، لخدمة الأمن الغربي السوسيورأسمالي. و نحن نبحث له عن جذور خارج ذات الانسان، وبشكل يستمرّ في اعتباره ضحية لعوامل ومؤثرات خارجية. وذلك حسب أيديولوجيا الشرق العتيدة، في تبرئة الانسان وتنزيهه عن الخطأ والشرّ، وانما يولد الشرّ من ابليس أو جهة خارجية.
الملاحظة الأخيرة، والتي يمكنها تفنيد، منظور الاجتماع الجيولوجي، هي أن الفعل الحضاري والوعي السياسي في الشرق، تخذ اتجاها معاكسا للزعم الجيولوجي. فالحضارة والتمدن والادراك البشري بدأ من جنوبي العالم: اتجاه من الجنوب نحو الشمال. والحضارات والمدنيات العراقية والفرعونية بدأت من جنوبي بلدانها زحفت نحو الشمال.
وبالمثل، بدأت الحضارة والمدنية من نقطة في حضرموت وعدن وعُمان الجنوبية، واتجهت نحو الحجاز والخليج نجد، والثورة الاسلامية الحجازية بدأت من الجنوب، واتجهت نحو العراق والشام وايران وتركيا. كما أن المدنية ومشروع النهضة الأوربية بدأ من أثينا وروما في جنوبي أوربا، واتجهت شمالا، لتعمّ بقية الشعوب والبلدان في الوسط والغرب والشمال.
فالفكر الجيولوجي، والاجتماع الجيولوجي، هنا، يخدمنا في تأكيد خاصة الوحدة الطبيعية والاجتماعية والسيادينية لمجتمع العرابيا الكبير/ (المشرق الكبير). وهذا ما يهمنا في هذا المبحث، ونسعى إلى تأصيله، من مختلف الجوانب والزوايا، وبشكل، يمهد لنقظة انطلاق جديدة، وعودة مرتقبة للذات والوعي.