نقد الرواية بين الاتجاه الاجتماعي والاتجاه البنيوي
نستطيع القول بأن معظم اتجاهات النقد المعاصر، قد نبعت من اتجاهين رئيسيين هما: النقد الاجتماعى، والنقد البنيوى. فالنقد الاجتماعى تيار كبير يشمل كافة الجهود النقدية التى بدأت بماركس وانجلز وتشيرنيشفسكى وبليخالوف، مرورا بلوكاتش وباختين وأدورنو، حتى جولدمان وايجيلتون وماشيرى وموكاروفسكى ..الخ. بل إن البعض يعتبر أن جوليا كريستيفا، تنتمى أيضا الى هذا التيار العريض.(1)
أما النقد البنيوى فهو, كذلك, تيار واسع، يستوعب كافة الجهود النظرية والنقدية، التى بدأت بفرديناند دوسوسير والشكلانيين الروس، وكلود ليفى شتراوس، وجريماس، وتودوروف، وجيرار جينيت، وجاكوبسون، ورولان بارت. حتى أن جاك ديريدا وجين أوستن اللذين يعدان ممثلين لما بعد البنيوية ويقومان على نقد البنيوية وينطلفان من القطيعة معها، يعتبران فى نظر البعض مطورين لعناصر كامنة فى البنيوية ذاتها.(2)
من هنا تتضح الاهمية الفائقة اللتى تمثلها دراسة هذين الاتجاهين، فهما يكادان معا يلخصان مجمل الاسهام النقدى الحديث والمعاصر .
غير أننى أود ان ألفت النظر الى خطورة دراستهما، تحت تصور أن كلا منهما, على حدة, يمثل كلا واحدا متسقا ومتماهيا. فالحقيقة أن كلا الاتجاهين يتضمن عناصر اختلاف وتناقض كثيرة، بما يمكن أن يقسم الاتجاه الواحد منهما الى عدة اتجاهات, تفصل بينها درجات من التباين والتنوع. فهناك على سبيل المثال خلاف كبير بين الاتجاه الذى تمثله مدرسة فرانكفورت (ماركيوز، بنيامين، أدونو، هوركهايمر) وبين الوجهة التى يمثلها جورج لوكاتش وكلاسيكيو النقد الماركسى. وهو نفس الاختلاف القائم بين كل من جارودى، وفيشر، وبريخت من ناحية ،ولوكاتش من الناحية الاخرى، وإن كان على ارض مغايرة عن الأرض التى يرتكز عليها الاختلاف بين لوكاتش وأصحاب مدرسة فرانكفورت.(3)
والأمر عينه يوجد داخل المدرسة البنيوية كذلك, حيث توجد اختلافات واضافات كثيرة بين بعض اتجاهاتها بين "بارت،وتودوروف" فى بعض القضايا الجزئية (سوف آتى على ذكر ذلك فى النقطتين الثانية والثالثة من هذه الدراسة. كما انه توجد اتجاهات بينية تقوم على توظيف بعض عناصر الاتجاهين معا،وتطرح شكلا هجينا جديدا.
ولعل أبرز الجهود فى ذلك المنحى تمثلها جهود "لوسيان جولدمان" فى نظريته "البنيوية التكوينية" وكذلك"امبرتو ايكو"،وربما ايضا "موكاروفيسكى" . كما أن "ميخائيل باختين" يعد ضمن هؤلاء المنظرين يقفون على تخوم أكثر من اتجاه فى الوقت نفسه.
فى حين يبقى فى النهاية عامل قوى وأساسى يوحد أفراد كل اتجاه ويحسم موقف هؤلاء "البينيين" وهو الذى يتيح لنا ان نجرى هذه الدراسه تحت هذا العنوان، ذلكم هو الموقف من قضية "الوعى" وعلاقته بالوجود. ومن ثم الموقف من "الأدب" فى علاقته بالواقع الاجتماعى، وذلك انطلاقا من مقولة كارل ماركس .."ليس وعى البشر هو الذى يحدد وجودهم، بل ان وجودهم الاجتماعى هو الذى يحدد وعيهم".(4)
حيث يقوم الاتجاه الاجتماعى برمته، فى تعامله مع الأدب، على أنه احد مكونات "البناء الفوقى" الذى يشتمل على مختلف مكونات الوعى من فن وأدب ....ألخ. ومن ثم فهو ناتج عن الوجود الاجتماعى التاريخى. وعلى هذا الضوء يتم فهم الأدب وتحليله .. يقول لوسيان جولدمان:
"كل سوسيولوجيا للفكر لابد ان تقبل بوجود تأثير للحياة الاجتماعية على الابداع الادبى، وبالنسبة للمادية الجدلية، فإنها تعتبر ذلك مسلمة أساسية، مع إلحاحها بصفة خاصة على أهمية العوامل الاقتصادية، والعلاقات بين الطبقات الاجتماعية".(5)
وفى معرض رده على أولئك الذين يعترضون على هذا التصور بدعوى أن ربط القيم الروحية بالعوارض الاجتماعية والاقتصادية، يؤدى إلى الحط من شأن تلك القيم، يؤكد جولدمان ان مصدر هذه القيم بالذات الواقع الاجتماعى المعاش وليس أى شىء آخر، فيقول:
"القيم الفكرية الحقيقية لا تنفصل عن الواقع الاقتصادى الاجتماعى ،بل هى قائمة بالذات على هذا الواقع.(6)
ومن المفيد الاشارة الى أن هذا الارتباط بين القيم الفكرية والواقع الاجتماعى – التاريخى, عند أصحاب الاتجاه الاجتماعى، ليس ميكانيكيا ولا مطلقا، بل متحرك على نحو جدلى متفاعل. وفى هذا يقول الدكتور/عبدالمنعم تليمة:
"إن البناء الثقافى رغم انه بصورة عامة انعكاس للبناء الأساسى المادى فى المجتمع، فإنه ليس انعكاسا آليا وليس تعبيرا سلبيا، فالعلاقة بين الاثنين علاقة تأثير وتأثير دائبة، قانونها التفاعل والتداخل". بل أكثر من ذلك، فإنه يرى: أن "من الممكن فى مرحلة من مراحل تطور المجتمع أن تسبق الثقافة الاساس المادى وتعمل على تغييره وتقودة نحو هذا التغيير".(7)
ولكن هل يعنى ذلك انفصال البناء الثقافى, الذى يحتوى على كافة أشكال الوعى، حسب التحديد السابق, فى هذه المرحلة التى يشير إليها الدكتور "تليمة"،عن الاساس المادى الاقتصادى؟ إن الاجابة عن ذلك تعتمد على منطق التفسير الذى يتعامل مع هذه الظاهره، فهو يرى ان التفسير المادى الميكانيكى الضيق الذى لا يستطيع أن يستوعب هذه الوضعية ولا قدرة له على تفسيرها،أما التفسير الجدلى الذى يتناول الظاهرة فى حركيتها الخاصة المرتبطة بالحركة العامة، فهو وحده القادر على فهمها.
فإذا كان الأصل ان الاساس المادى الاقتصادى للمجتمع هو المفسر لظواهره الثقافية، فإن حياة المجتمع من الخصوبة والغنى بحيث لا يمكن رد صورها الثقافية الى العامل الاقتصادى وحده ردا حرفيا جامدا .. "إذ يتضمن كل شكل من أشكال التعبير الثقافى جوانب فردية وعناصر ذاتية، ومبادرات انسانية خلاقة، تجعل منه ظاهرة مركبة معقدة، وتجعل تفسيرة بعامل واحد تبسيطا مجانبا للعلم".(8)
فكما أن للمجتمع قانون حركته العام، فإن للثقافة أيضا قانونها الذاتى النوعى والمستقل بصورة نسبية.
وهذه هى الفكرة التى بحثها "أنطونيو جرامشى", مؤكدا ان أية لحظة تاريخية اجتماعية معينة لا يمكنها أبدا ان تكون لحظة متجانسة، بل هى حتما مليئة بالتناقضات وهى تكتسب شخصيتها وتصبح "لحظة تطور" نتيجة .. "لسيطرة نشاط أساسى معين من نشاطات الحياة على بقية هذه النشاطات ،بحيث يمثل هذا النشاط قمة تاريخية".(9)
.وهو الأمر الذى يمكن أن نستنتج منه إمكانية تزامن عناصر متناقضة من الاتجاهات الثقافية والادبية التى ينتمى بعضها إلى الماضى، وبعضها الآخر إلى المستقبل، أو يشكل بتعبير لوكاتش: "خمائر المستقبل".
وتصبح من ثم مهمة الناقد الاجتماعى تفسير هذه العناصر المختلطة والمتناقضة فى ضوء فهمه للحركة التاريخية الاجتماعية فى تناقضاتها وتداخلاتها هى الأخرى.
وهو أمر يحتاج إلى وعى عميق وفهم جدلى مرهف، قادر على التغلب على ما سماه لينين بـ"خبث الواقع"، وأضيف أنا: خبث الظاهرة الثقافية، والأدب منها فى القلب.
إن الأدب عند الاتجاه الاجتماعى, إذن, إنما هو شكل من اشكال الانعكاس النوعى الذى ينظر إلى العمل الفنى بوصفه تدخلا فى صياغة العالم فنيا، على نحو أكمل وأشمل ،وليس مجرد إنعكاس بارد له، إنه انعكاس يطرح "الجوهر الكلى", بتعبير لوكاتش، لحركة هذا الواقع . فقد .. "يشبه العمل الفنى الكامل الحياة فى مراعاته للتتابع السببى، ولكنه لن يكون أكثر من سفر أخبار تعسفى إذا لم يكن هناك قلب لهذا الاتجاه".(10)
أى إذا لم يكن هناك تعمق واستبطان لحركة هذا العالم، لرؤية غير المرئى على سطحة المباشر، أو رؤية الجوهرى والكلى الفاعل فى الانسان والعالم.
واذا كان مفهوم الانعكاس يستحضر الى الذهن شكل المرآة، باعتباره نظيرا للادب على المستوى الفنى، فلا ريب أنها ليست مرآة من النوع المعهود، فهى "مرآة وضعت بزاوية معينة", كما يقول بيير ماشيرى .. "بحيث تكون معبرة فيما لا تعكسة بقدر ما هى معبرة فيما تعكسه".(11)
فى مواجهة هذه التصورات يقوم الاتجاه البنيوى على دراسة الظاهرة الأدبية ذاتها، دون التطرق الى تاريخها وعلاقاتها المتبادلة بخارجها، سواء أكان هذا الخارج المجتمع, أو حتى مؤلفها ذاته.(12)
فالشعرية أو "علم الادب" عند تودوروف على سبيل المثال لا تسعى إلى فهم المعنى الخاص بالعمل الأدبى المعين، بل تسعى إلى معرفة القوانين العامة التى تنظم "ولادة كل عمل", لكنها بخلاف باقى العلوم الإنسانية, كعلمى النفس والاجتماع، ..الخ, تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته وليس خارجه، يقول تودوروف:
"فالشعرية إذن مقاربة للأدب مجردة وباطنية فى الآن نفسه".(13)
وفى السياق نفسه يرى رولان بارت أنه لا أهمية للعلاقة بين الأدب والواقع الاجتماعى، وإنما ما يسميه "محاكاة اللغات", فيقول:
"إن ما يهم فى الأدب ليس كون الرواية تعكس واقعا اجتماعيا، إن ما يميز العمل الأدبى كالرواية على سبيل المثال هو كونه يقوم بما يمكن ان نطلق عليه محاكاة اللغات. مما يتولد عنه أن الأدب أو الرواية عندما تقدم نفسها ككتابة أدبية فإنها تنسخ الكتابة الأدبية السابقة عليها".(14)
ومفهوم "النسخ" هنا كما هو واضح لا يعنى: الالغاء، لكنه يعنى: النقل والمحاكاة. وليس المقصود ب"المحاكاة" مجرد التأثير أو إعادة التأويل أو حتى التعبير، بل هو, باختصار, مراوحة لا نهائية.
ومن هنا فالكتابة عند بارت تتم لذاتها وعلى نحو مجرد ومجانى تماما وليس لأى هدف آخر، وذلك لأن الكتابة ليست ممارسة تعبيرية هادفة على أى مستوى.. يقول:
"ليست الممارسة الأدبية ممارسة تعبيرية، ليست ممارسة تعبير أو انعكاس، وإنما ممارسة محاكاة واستنساخ لامتناه، لهذا فهو موضوع يتعذر تعريفه, ذلك لأنه موضوع لغوى".(15)
وتبدو هنا أشكالية فى فهم المغزى الحقيقى لكلام بارت، عندما يفرق بين الانعكاس الذى قد يعنى الرؤية المنطلقة من واقع محدد، وبين ما يدعوه ب"المحاكاة" و"الاستنساخ"، أى مجرد النقل الخالى من هدف .
فالانعكاس يختلف بالتأكيد عن مجرد المحاكاة، فهو عند لوكاتش، كما رأينا قبل قليل, طرح متعمق للواقع الموضوعى أكثر عمقا وشمولا مما هو موجود فى مظهر هذا الواقع ونثرياته اليومية، ولهذا "فالواقع الموضوعى" عنده يصبح أكثر اكتمالا عندما ينعكس فنيا .(16) وهو بذلك يخرج عن مفهوم المحاكاة الافلاطونى وحتى الأرسطى.(17) ومن ثم فهو أرقى واكثر فنية. بيد أن بارت ينحى الانعكاس الذى يحمل هذه المعانى ليقصر الممارسة الادبية على وظيفة المحاكاة التى شرحها هنا بعطفها على الاستنساخ وجعلها لا نهائية.
حيث تدور الممارسة الأدبية بذلك فى دائرة مفرغة من اعادة انتاج الكتابات السابقة نازعا أية إمكانية ابتكارية أو أى تجاوز فنى ممكن عنها. لذلك فهى, عنده, غير قابلة للتعريف، لأنها موضوع لغوى. وهذا أمر منطقى تماما، فكلمة "لغوى" هنا يقصد بها معنى الممارسة الأدبية. وإذا تم التعامل مع الأثر الادبى باعتباره موضوعا لغويا مجردا, فإننا بذلك ننزع عنه أية امكانية لتحقيق فاعليته الفنية.
إن بارت بذلك يرد الأثر الأدبى الى كيانات هيولية غير محددة قاضيا عليه من حيث كونه ابداعاً خاصاً.
إن معنى "الاستنساخ اللغوى" باعتباره تعريفا للأدب عند بارت، ينطلق من مفهومه "للتناص" الذى يعنى, بدوره, وضع اللغة والانتاج الخاص بها ضمن ممارسة لغوية لانهائية .. يقول:
"إن الكتابة تعنى ان نضع أنفسنا فيما يطلق على التناص ،أى أن نضع لغتنا وانتاجنا الخاص للغه ضمن لا نهائية اللغة".(18)
وهو عين ما تؤكدة جوليا كريستيفا من أن النص الأدبى (الرواية) ما هو الا ناتج عملية استنساخ "تناص" لعناصر سابقة، فتقول فى كتابها "علم النص":
"الرواية عملية نسخ لتواصل شفوى أكثر منه كتابة".(19)
إن هذا الفهم لابد أن يؤدى إلى انتفاء شخصية المؤلف أو إندراجه ضمن سلسلة مطلقة، فى تعددها من الناسخين. وهو ما يسميه بارت: "خلخلة الذات الفاعلة". أى اختفاء ذات الكاتب فى اللغه. ولهذا فإن الأدب النموذجى, عنده, إنما هو "نموذج فى الخلخلة", أى ممارسة تهدف إلى القضاء على الفاعل, ذاته, من خلال تحويله إلى مفعول أو وسيط فى سياق عملية الاستنساخ تلك، فالكتابة, كما يقول:
"هى دوما خلخلة أى ممارسة تهدف إلى زعزعة الذات الفاعلة وتقويضها وتشتيتها فى ذات الصفحة".(20)
ويواصل طرح المعنى ذاته فى سياق آخر, قائلا:
"فالكتابة لا تتوخى شيئا من ورائها فعل الكتابة فعل لازم وليس متعديا "(21)
إن زعزعة الذات الفاعلة وتقويضها وتشتيتها تعنى أن الكتابة لم تعد عنصر تحقق للذات الفاعلة، لأنها لا تنطلق من فاعلية محدودة، بل هى لم تعد فاعلة على أى مستوى، حسب هذا التفسير، من حيث هى مجرد ناسخ و ناقل. وهى بذلك لا تمتلك أى قدر من اليقين أو القدرة على معرفة أعماق الاشياء، ذلك أن اللغة نفسها لا تنطوى على عمق من نوع محدد. كما انها ناتجة, وهذا هو الأهم، عن كائن فاقد لأية ذاتية أو خصوصية، ومن ثم فاقد لأية قدرة إبداعية، لذلك فهى مجرد مفعول به، أو كما يقول بارت:
"ذلك هو دور النسخ، ما دامت اللغات تقلد بعضها البعض، وما دامت اللغة لا تنطوى على عمق أصيل وتلقائى، وما دام الانسان دوما ملتقى عدة قواعد لا يدرك أبدا عمقها، يكاد الأدب ان يكون هذه التجربة بالضبط".(22)
إن هذه الوجهة فى فهم الأدب ودور الانسان فى عملية انتاجه، هى ما أدى ببارت إلى إعلان "موت المؤلف", إلى فنائه واختفائه كنتيجة لزعزعة ذاته وتقويضها وتشتيتها كما تقدم. فإذا كان بلزاك قد قدم رواية "سارازين" فإن بارت يرى انه ليس بلزاك هو الذى تناول القلم وقام بهذا الفعل، لذلك فانه .. يواصل قائلا :
"لمن الأهمية بمكان أن نضع جسد الكاتب فى الكتابة".(23)
وما جسد الكاتب هنا إلا نقيض لذاته أى نقيض لوجوده.
إن موت المؤلف عند بارت يعد الشرط الأساسى لميلاد القارىء، من حيث إنه إذا كان المؤلف قائما، فإن النص الادبى يعتبر .. "سيرته الخاصة اللتى يبوح فيها بأسراره". ومن هنا فإن النص يتحول ليصبح نصا "لاهوتيا", وحيد المعنى. ومن ثم, يتحول المؤلف إلى "إله". حيث يرى بارت أن نسبة النص إلى مؤلف معين، تعنى إيقاف النص وحصر دلالته وإعطائها مدلولا نهائيا، لنصل إلى ما يسميه: "عملية إغلاق الكتابة". أما إذا احتجب المؤلف أو "مات" فإن الزعم بالتنقيب عن أسرار النص يصبح عملاً غير ذى معنى. وذلك لأن الكتابة المنسوخة أو المتعددة المصادر لا تتطلب, فى رأيه, إلا الفرز والتوضيح وليس فيها تنقيب عن الأسرار. وفضاء الكتابة, حينئذ, يمكن "مسحه لا إختراقه". وإذا كانت الكتابه لا تنى تولد المعنى، فإن ذلك لا يتم إلا بقصد القضاء عليها, أو "تبخيرها", بحسب تعبيره. وهى, بذلك, تحرر المعنى وتولد فعالية يصفها بارت بأنها ضد "اللاهوت"، وانها ثورية بالمعنى الحقيقى للكلمة.(24)
ومن هنا فإن مناط الأهمية يتحول إلى القارىء ولكن ليس من حيث كونه ذاتا تحمل سمات محددة، بل من حيث كونه انساناً لا تاريخ له ولا شخصية ولا يحيا عالما نفسيا، إنه ذلك الكائن المعنوى الذى تتجمع عنده كل التعددات التى يحتويها النص، ولهذا يرى بارت أن ميلاد القارىء رهين بموت المؤلف .(25)
إن الكتابة على هذا النحو إنما هى "لا كتابة أو ضد الكتابة". فهى تقوم باعتبارها موضوعا للغياب، غياب المؤلف وغياب المعنى. فقط, حضور القارىء المجرد ،الذى هو, حسبما تقدم, ليس حضورا حقيقيا. وهذه الكتابة حسب ذلك هى التى يسميها بارت ب"الكتابة البيضاء", أو "الكتابة فى درجة الصفر". إنها كتابة محايدة لانها لا تنتج عن ذات مشخصنة "إن صح التعبير" كما أنها لا تتوجه إلى ذات أخرى مشخصنة. إنها كتابة النفى غير محدد الهوية أو الاتجاه .. يقول بارت:
"ففى هذه الكتابة المحايدة التى نسميها هنا درجة الصفر للكتابة يمكن أن نميز بسهولة بين حركة نفى وبين العجز عن ذلك النفى داخل ديمومة ما".(26)
فعلى الكتابة منذ ذلك الحين ان توجد دون كاتب، كما على الكاتب أن يوجد دون كتابة، فيكون فى ذلك ما يعتبره بارت "إنقاذاً للكتابة" عن الاعتبارات الخارجية، ويضرب مثلا لذلك بأورفيوس اللذى لا يستطيع أن ينقذ من يحب إلا بالتخلى عنه. ومن هنا تتحول الكتابة إلى نوع من الصمت الناتج عن الحياد والتفتت. هكذا يدخل الأدب إلى ما يعتبره بارت "الأرض الموعودة", التى يشرحها بانها:
"عالم بدون أدب يكون فيه على الكتاب مع ذلك أن يقدموا شهادتهم عنه"(27)
هكذا يؤدى موت المعنى وموت المؤلف إلى موت الأدب ذاته.
وهكذا يتضح أمامنا حجم الفارق بين النظرة الاجتماعية والنظرة البنائية فيما يتعلق بالموقف من الظاهرة الأدبية. ومن الجلى ان التناقض بينهما, فى هذا المجال، إنما هو ناتج عن اختلاف نطرتيهما للإنسان وموقفه من العالم الذى تطرحه قضية العلاقة بين "الوجود" و"الوعى".
وسوف أحاول فيما يلى من صفحات دراسة تصورات كل من الاتجاهين فى نقد الرواية، مسترشدا بالدرجة الاولى بما كتب عن كلا الاتجاهين. أما مصادرى فقد تمثلت فى أعمال جورج لوكاتش المتاحة بالعربية وما تحصلت عليه منها باللغة المجرية ،وأعمال لوسيان جولدمان, وكتاب بيير زيما بعنوان: "النقد الاجتماعى", وكتاب ميخائيل باختين: "الخطاب الروائى", وبعض المقالات المتفرقة لبيير ماشيرى, ورينيه جيرار، وتيودور أدرونو.
أما فيما يختص بالاتجاه البنيوى فسأعتمد على أعمال رولان بارت وكتابى تزفيتان تودوروف "مدخل الى الأدب العجائبى" و"الشعرية". وكذلك دراستة بعنوان: "مقولات الحكاية الادبية", وكتاب جوليا كريستيفا: "علم النص". بالاضافة الى دراسة لجوناثان كوللر بعنوان: "شعرية الرواية".
حيث سأستخدم منهجا تحليليا مقارنا أقوم فيه بتحليل وربط تصورات كل اتجاه على حدة, محاولا الربط بين مكوناته, على نحو تكاملى، ومقارنة هذه التصورات فى اطارها المتكامل مع الإتجاه الآخر.
وذلك بهدف تحديد تصور كل منهما للعناصر البنائية المكونة للأدب الروائى. وذلك عن طريق تناول النقاط المنهجية الثلاث التالية:
. 1- مفهوم الرواية.
.2- الشخصية الروائية .
.3- أساليب السرد الروائى.
ويجدر بى ان اعترف بأن بحث هذه النقاط مجتمعة قد تضيق عنها مثل هذه العجالة، بل تحتاج فى دراستها إلى عدة كتب حتى يمكن ايفاؤها حقها .
لكن حسبى الإشارة وطرح الخطوط العامة ،التى يمكن تناولها بما تستحق من افاضة فى المستقبل.
-------------------------------------------------------------------
- مــفــهــوم الــروايـــة
ينطلق أصحاب الاتجاه الاجتماعى فى فهمهم للرواية من رؤيتهم للعلاقة الوطيدة بين العمل الأدبى والواقع الاجتماعى- التاريخى. ومن ثم, فالرواية عندهم ليست كيانا أدبيا مطلقا، ولا يوجد لذاته، وإنما يوجد تلبية لعدة تحولات جوهرية تتم فى الواقع الاجتماعى .
حيث يرى الفيلسوف المجرى "جورج لوكاتش"أن الرواية هى "التعبير المكافىء للملحمة فى العصر الحديث". فهى النوع الادبى الأكثر نموذجية بالنسبة للمجتمع البرجوازى، وعلى الرغم من وجود كتابات تنتمى إلى الشرق القديم"كألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة" ..إلخ، أو إلى العصر القديم أو الوسيط فى أوربا، تقوم على مفهوم الحكى الذى تقوم عليه الرواية باعتبارها جنسا أدبيا مستقلا, فان هذه الاستقلالية التى شكلت الملامح المعروفة للنوع الروائى لم تزهر إلا فى المجتمع البرجوازى.
لقد قامت الرواية بهذه الملامح المحددة على مهمة تصوير المشكلات والتناقضات الخاصة بهذا المجتمع بصورة متميزة عن باقى الأجناس الادبية السابقة عليها. ومن هنا يرى لوكاتش أن تناقضات المجتمع البرجوازى تمنحنا مفتاحا لفهم الرواية باعتبارها جنسا أدبيا.(28) فالفارق بين الرواية والملحمة يكمن فى طبيعة كلا المجتمعين اللذين عالجتهما. ومن ثم, تشكلتا على هذا النحو المختلف . فقد قامت الملحمة بحسبانها شكلا حكائيا لتصوير ما يسميه بالوحدة بـ"الوحدة البدائية للمجتمع العشائرى". وهذه الوحدة البدائية تتحدد على أساس غياب التناقضات بين الفرد والجماعة، وهو الامر الذى يوفر إمكانية واقعية وإبداعية لطرح "مفهوم البطولة".(29) بحيث يصبح هذا العصر هو عصر البطولات، الذى يقوم الشعر فيه، ليس مجرد شكل من النظم الفنى فقط، لكنه يمثل مضمونا, أيضا,ً ومنطقا إنسانيا فى الحركة والحياة. فأبطال هوميروس, حسبما يقول لوكاتش:
" يعيشون ويتصرفون فى عالم لا تزال تقوم فيه كل الظواهر بحماية شاعرية الحياة .."إنه عصر طفولة الإنسان" كما يقول ماركس".(30)
ومن هنا فإن لوكاتش يتبنى موقف هيجل الذى يتناول "النثر" باعتباره أحد سمات التطور البرجوازى الحديث, حيث تقف الفردية من جانب، فى مواجهة قوة مجردة. ومن جانب آخر, فإن الواقع اليومى للانسان يتميز بالسوقية والتفاهة، بدرجة تجعل أى سمو شعرى حقيقى للحياة وللانسان أمراً مفتعلا وغير واقعى. فهو يعتبر أن تقسيم العمل الرأسمالى هو الأساس المادى للنثر فى العصر البرجوازى.
بيد أن لوكاتش يضيف إلى هذا الرأى الهيجلى ما يراه ممثلا لتناقض جوهرى يعد الأساس المادى للنثر: ألا وهو التناقض بين "الانتاج الاجتماعى" و"الملكية الفردية" لوسائل الانتاج. فحسب لوكاتش: يتوقف هيجل عند وصف شكل ظهور التناقض بين الفرد والمجتمع فى صورته المجردة، بينما يرى هو (أى لوكاتش): أن ..
"ما يحدد مضمون الرواية أن هذا المضمون يرصد الحرب الدائرة داخل المجتمع".(31)
وهو ما يعنى أن الرواية تقوم على ابراز نوعية البشر فى ضوء وجودهم الاجتماعى الذى يقوم على انفصام العرى داخل الوحدة الاجتماعية بين الفرد والجماعة، من ناحية. وان الفرد قد كتب عليه أن يمارس معركته اليومية مع الجماعة /المؤسسة، بأشكالها القمعية والاستغلالية المتعينة، التى تحاول أن تقولبه وتسلبه جوهر حريته التى وعدته بها فى بواكير التحول البرجواوى، من ناحية اخرى.
ومن هنا تصبح الرواية قائمة على طرح "نثر" الحياة المتبدى فى "الفردية" و"السوقية" وانعدام الانسجام بين الانسان وعالمه. وذلك فى مواجهة الملحمة التى كانت تطرح "شعر"العالم والوجود.
ان النثرية هنا ترتبط بانتفاء مفهوم "الانسجام" باعتباره محددا لصفة "الجميل". بيد أن لوكاتش يتعامل مع هذا المفهوم على أرضية واقعية اجتماعية متعينة، مع العالم الخارجى/المجتمع. لهذا فإنه يرى أن الكتاب الكبار فقط هم الذين يبشرون بالشوق الانسانى إلى الانسجام، حيث يقولون على الدوام بأن انسجام الفرد يقتضى تعامله المنسجم مع العالم الخارجى وانسجامه مع المجتمع".(32)
إن مفهوم النثرية هذا الذى انبثقت منه الرواية، هو الذى يقف وراء تعريف لوسيان جولدمان للرواية بأنها:
"قصة بحث متفسخ عن قيم أصيلة بطريقة متفسخة فى مجتمع متفسخ"
وهو ما يؤدى إلى أن يصبح شكل الرواية, عنده, كما لو كان نقلا للحياة اليومية, التى تم خلقها عن طريق المجتمع الفردى, على المستوى الأدبى حيث يقرر:
أنه .."توجد مماثلة دقيقة بين الشكل الأدبى للرواية كما حددتها (الكلام لجولدمان) بمساعدة لوكاتش وجيرار، والعلاقة اليومية بين الرجل والسلعة بشكل عام. وبشكل أعم بين بشر وبشر آخرين فى مجتمع ينتج من أجل السوق". لذا فهو يرى أنه: "لا يوجد شىء عجيب فيما يتصل بإبداع الرواية, بوصفها نوعا أدبياً, وشكلها الذى بدا شديد التعقيد (فهو مرتبط) بحياة الناس كل يوم".(33)
تقوم الرواية إذن بمثابة استجابة للتحدى الذى طرحته التحولات البرجوازية على إنسان العصر الحديث. تلك التحولات التى "أدهشته وأربكته", فيما يقول محسن جاسم الموسوى:
"فممارسة الفعل الإعتيادى اليومى لا تعيد إليه الإنسجام فى العالم الخارجى، شأنه فى ذلك شأن الروائيين أنفسهم الذين انفرط عندهم الإحساس بالانسجام وأخذوا يبحثون مجدداً عن معنى وقيمة الوجود".(34)
ولعل هذه القطيعة بين الفرد والعالم هى التى "تعزز سيظرة النثر على البشرية", فيما يقول لوكاتش، حيث يبرز النثر هنا باعتباره استجابة نوعية لواقع يتعذر فيه الانسجام.
إن الرواية, بذلك, تمثل طرحاً لنوع من أنواع العلاقة بين الانسان و"التاريخ"، أو هى نوع من أنواع الوعى ب"التاريخ". بحسبان أنها تطرح انواعا من الاستجابة للتحديات التى تلقيها التحولات الاجتماعية المستجدة فى الزمان على الأفراد. ومن ثم, تصبح الوضعية التى تتعامل معها الرواية انما هى وضعية "تاريخية", أى مرتبطة بالتحولات الاجتماعية التى تتم فى الزمان والمكان المحددين. بل انها, عند محمود أمين العالم, تعد جنسا تاريخيا بالمقام الأول حين يقول:
"فالرواية بحق هى البنية الأدبية الزمنية الابداعية، المعبرة بلغتها السردية, عن الوعى التاريخى المعرفى الوجدانى القيمى بهذه المراحل التاريخية الجديدة, بكل ما يتسم به هذا الوعى التاريخى من إتساع وعمق وتراكم والتباس واشكالية ،وتأزم وتطلع ومواقف ودلالات مختلفة".(35)
واذا كان العالم يعتبر أن الاسطورة تشتبك, كذلك, بالتاريخ. أو تحاول تأريخ عالمها, حسب الوعى البدائى الأولى الذى يتميز به انسان تلك المرحلة السحيقة, يقول : "فالاسطورة ليست إلا المراحل الأولى للمعرفة التاريخية". وهو ما يتسق بقوة مع الصفة التاريخية للملحمة والسيرة الشعبية، سواء أكانت الإلياذة, أو الأوديسة أو سيرة الزير سالم والسيرة الهلالية ..إلخ. باعتبارهما مرتبطين على نحو مباشر بالوعى الأسطورى الذى بقى سائدا الى عهد قريب .. وإذا إعتبرنا ان الرواية هى ملحمة العصر البرجوازى, حسب مفهوم لوكاتش الذى تقدم، فإن محمود العالم يؤسس على ذلك ان الرواية هى الأخرى تتميز بطابع تاريخى, لكنه تاريخ نوعى. فكما انفصل العلم وتمايز عن الفلسفة، وكذلك انفصل التاريخ عن الاسطورة والملحمة وأصبح قريباً من العلم المستقل، فقد تمخض هذا الاستقلال عن ظهور الرواية باعتبارها وريثة للملحمة فى العصر الحديث .. يقول:
"فأصبح للحكاية بنيتها الزمنية الخاصة التى تتمثل فى الرواية الحديثة، وأصبح للتاريخ موضوعيته المعرفية التى تسعى لأن تكون علما".
إلا ان هذا الانفصال والتمايز بين الرواية والتاريخ لم يؤد إلى نزع الرواية بالكامل عن المعرفة التاريخية، بل .. (يواصل العالم):
"على العكس من ذلك تماما ،فقد ضاعف وعمق وأفسح هذه الطبيعة الزمنية والتاريخية, بل كانت الرؤية المعرفية التاريخية الجديدة عاملا أساسيا من عوامل إبداع البنية الروائية الجديدة نفسها"(36)
إن الرواية تعد بذلك نوعاً يمكن تسميته بأنه تاريخ ما لا يذكره التاريخ، إنها تاريخ الأشخاص فى فرديتهم, وهى تاريخ الوعى الأخلاقى والاستجابات الفردية تجاه التحولات الاجتماعية والانسانية العامة. ومن ثم فإن العلاقة بين الانسان والتاريخ هى التى يمكن أن تمثل مفاتيح فهم الرواية. خاصة عندما يؤكد فريدريك إنجلز أنه قد تعلم من روايات بلزاك اكثر مما تعلم .."من جميع كتب المؤرخين والاقتصاديين المهنيين جميعا فى عصره".(37) وأتصور أنه يقصد تعلمه فاعلية التاريخ الحقيقية وغير المرئية من خلال تبديه على نفوس الأفراد وجوانب حياتهم الداخلية والخارجية، وصراعاتهم بشأن تحديد مصائرهم فى خضم تحولاته.
وبدهى أن هذا النوع من القضايا الباطنية لا يمكن أن يعالجها المؤرخون والاقتصاديون. وهو الأمر الذى يؤكده بلزاك نفسه فى مقدمة طبعته لسلسة "الكوميديا الإنسانية" عام 1842, قائلاً:
انه قد .. "أضاف إلى عمل المؤرخين فصلا منسياً هو تاريخ العادات والتقاليد".(38)
وعلى هذا فإننا نستطيع ان نقول أن الرواية عند ممثلى الاتجاه الاجتماعى تقوم على تجلى التحولات الاجتماعية التاريخية فى جدلها مع الانسان الفرد. إنها محاولة تمثيل وضع الانسان إزاء تحولات التاريخ.
ومن الطريف أن العلاقة بين الرواية والتاريخ تمثل كذلك مناط فهم البنيويين لها، بيد أنه فهم مختلف جذرياً عن فهم الاجتماعيين،فهى ليست انعكاساً نوعياً لحركة التحولات التاريخية الاجتماعية، لكنها كما يقول بارت:
"مستودع لكثافة الوجود وليس لدلالته".(39).
فالقضية عند البنيويين ليست قائمة على محاولة فهم الدلالة اللامرئية للحركة التاريخية فى انعكاسها النوعى على الافراد كما رأينا آنفاً، بل محاولة فهم طقوسية اللغة الأدبية من حيث كونها خارج الزمن، ومن حيث كونها معبرة عن نظام, من نوع ما. لهذا فإن الرواية عندهم، وإن كانت لها علاقة وطيدة بالتاريخ, كما يقول بارت, الا ان دور التاريخ هنا والذى يلخصه فى مقولة "الماضى البسيط", هو:
"أن يعود بالحقيقة إلى نقطة معينة، ثم يستخلص من كثرة الازمنة المعيشية والمتداخلة فعلاً لفظياً خالصا منفلتاً من جذور التجربة الوجودية، ومتوجهاً نحو صلة منطقية مع أفعال أخرى وصيرورات ثانية ومع حركة عامة للعالم.(40)
والمقصود بحركة عامة للعالم هنا ليس ما وجدناه عند الاجتماعيين من أنه العالم التاريخى المعاش، بل انه العالم الخاص الذى يتم تشييده عبر ما يسمية بارت "بالزمن الاصطناعى".
إن الرواية بذلك فى صلتها بالتاريخ تقوم بخلق "زمن اصطناعى"، أى متخيل وغير واقعى بالضرورة، من أجل تحرير الحدث والفعل من دلالته الواقعية المعاشة لتحويله إلى فعل لفظى مستقل بالكامل عن التجربة الانسانية المتعلقة بخبرته الحياتية والوجودية، لخلق بناء آخر بديل ومنفصل ومختزل. أو كما يقول بارت:
"الى خطوط دالة ،وليس عالما ملقى مبسوطا مهدى".(41)
ومعنى هذه الخطوط الدالة ليس القيام بتفسير من نوع ما، للحركة التاريخية المحددة، لكنه التعبير عن نظام أو عن تراتبية بنيوية متداخلة ومستقلة بذاتها عن أى وجود خارجى. وهى بذلك تصبح نقيضاً للعالم التاريخى "الجاهز"،و"الملقى المبسوط المهدى", بل هى نفى له وقضاء عليه. فالرواية تملك وتحتوى داخلها جهاز بناء وتحطيم فى اللحظة نفسها، تحطيم ما يسميه بارت "بالديمومة", ويقصد به الصلة غير المرئية التى تربط عناصر الوجود، وتقوم فى اللحظة ذاتها ببناء النظام .. تحطيم كثافة الحياة المعطاة بصورة جاهزة والتى تمثل حالة معقدة ودهليزية، والتى لا تملك عنده أية دلالة, وذلك من أجل اختزال هذه الكثافة وإقامة تلك الخطوط الدالة المستخلصة منها.
من هنا فقد اضحت الرواية نقيض الواقع المعاش، أو هى استحالة هذا الواقع من الناحية الأدبية، يقول بارت :
"ان الحداثة تبدأ مع البحث عن أدب مستحيل".(42)
اى أدب نقيض للممكن الواقعى، نقيض للمواضعات الممكنة. ولهذا فإن الرواية عنده تساوى "الموت".(43) لأنها, وان كانت تمتلك صلة ما بالتاريخ, فإن ما يربطها به هو "تمويه الأحداث". وتتميز الرواية بذلك بأنها تقوم بعملية تحويل الكينونة الملتبسة والكثيفة لهذه الاحداث الى دوال ترسم حقل احتمال يمكنه ان يكشف الممكن وفى الوقت نفسه يقدمه على أنه ممكن مغلوط أو ممكن مستحيل. ولعل هذا يمثل ما تسميه جوليا كرستيفا بـ"الدال الاعتباطى".(44)
ان كريستيفا وبارت ينطلقان معاً من أن الرواية(من حيث كونها كتابة أدبية) إنما هى نسخ ومحاكاة للتواصل الشفوىٍ (كما تقدم فى صدر هذه الورقة), لهذا فهما يصلان معاً الى النتيجة نفسها . بيد ان الوسائل التى توصلت بها كريستيفا تختلف قليلا، كما أنها أكثر تفصيلا منها عند بارت .
فالرواية عند كريستيفا, من حيث كونها نصاً, انما هى "ممارسة سيميائية", يمكن ان نقرأ فيها مسارات مركبة لعدة ملفوظات. وتحليل هذه الملفوظات, فى تسلسلها النظامى, هو الذى يقودها (أى كريستيفا) الى التعامل التحليلى مع الرواية. فتؤدى وظيفة التداخل النصى فى الرواية الى تحديد "اديولوجيم" الرواية (وهو مصطلح أخذته عن باختين) حيث تتصور أن كل عمل ادبى ينتمى الى الممارسة يقوم باعتبارة "ايدولوجيما"منتهياً ومغلقا، ومن ثم "ملتبساً". ومن هنا فإن الرواية تمثل مظهرا مميزا لهذه "الايدولوجيم" الملتبس، والذى تقسمه عبر قراءتها لرواية دولاساك "جيهان دوسانترى" الى عناصر ثلاثة:
1-انغلاق
2-لا انفصال (تلاحم)
3-انزياحات متناغمة.
ويتبدى "الانغلاق" فى الاكتمال البنائى للرواية. حتى انه اذا انتهى النص الروائى نهاية صريحة او غامضة او مفترضة, فان غياب النهايات لا يزيد الاكتمال البنائى للنص الا تأكيدا . الا ان الاكتمال البنائى من زاوية اخرى يقوم على ابراز الصورة الاساسية للنص من حيث هى عبارة عن ثنائيات متعارضة ذات علاقة وثيقة بالنسق الكامل للبنية الروائية اللامنفصلة (أو المتلاحمة) . كم يتبدى مفهوم "اللاانفصال" (الذى أترجمه أنا بالتلاحم) , فى ان الثنائيات المتعارضة لا يمكنها أن تكون خطابا روائيا اذا كان هذا التعارض لا نهائيا لكن ذلك لا يتم (أى تكوين الخطاب الروائى ) الا اذا تم تحويل هذا الانقسام الثنائى الى كلية ايقاعية فالانفصال أو (التلاحم ) ,كحركة سالبة مزدوجة يختزل اختلاف الاطراف من انفصال مطلق الى انفصال قابل لتبادل الطرفيين لمكانيهما, أو كما تقول جوليا كريستيفا :
"الى فضاء فارغ يدور حوله هذان الطرفان اللذان ينمحيان كوحدات ويتحولان الى ايقاع متناوب .وبدون تلك الحركة يغدو النفى غير كامل" (45).
أما "الانزيحات المتناغمة", فهى تتتمثل فى الوصف والشواهد النصية الخارجية عن الحدث . وهو الامر الذى يؤكد, عندها, أن الرواية ما هى الا عملية نسخ لتواصل شفهى, اكثر منه كتابة, أو (ابداع بكر). وهو ما ترتب عليه أن ما ينقل الى الورقة انما هو "دال اعتباطى", كما سبق القول . حيث تنتهى بذلك الى النتيجة التى وصل اليها رولان بارت . فبما أن الملفوظ (الصوتى)مكتوب على الورق. وبما ان النص الغريب (الشاهد) منسوخ, فإن الاثنين معا يشكلان نصا مكتوبا يكون فيه فعل الكتابة نفسه مجرد خلفية. ويقدم نفسه, فى كليته, كفعل ثانوى. كما لو كان الامر لا يعدو كونه رسالة او تقريرا(46). او نسخا لغويا "ميتا", كما قال بارت.
وتلك هى الفكرة نفسها التى ينتهى اليها تودوروف, أيضا. فعلى الرغم من أنه يؤكد أن معنى الأثر الأدبى لا يمكن أن يتحدد فى ضوء معرفته فى ذاته بل يتحدد فقط عند دمجه فى "نظام أرقى", الا أن مفهوم "النظام الارقى" هذا لا يخرج عما يسميه: "الكون الادبى" ,ذلك الذى تعمره النصوص السابقة عليه. ولا يتطور تودوروف بهذا الفهم, ابدا, الى مجال خارج هذا الكون الادبى. أن معنى الاثر الادبى عند تودوروف انما هو وظيفته او فاعليته النصية والدلالية المحددة, التى تتأكد من خلال امكانية تعالقه او تناصه مع عناصر اخرى. وهى فكرة النسخ, نفسها, التى وردت قبل قليل عند كل من بارت وكريستيفا.
واذا أصبح من المستعصى حدوث هذا التعالق والتناص فإن هذا الاثر يصبح عند تودورف بلا معنى , يقول:
"واهم كل من يعتقد أن للاثر وجودا مستقلا, ذلك أن الأثر, أى أثر, يبرز ضمن كون أدبى تعمره النصوص السابقة له. وهنا بالذات يتجلى اندماجه. لان كل اثر فنى يقيم علاقات متشعبة مع الآثار السابقة عليه والتى تمثل حسب العصور مراتب ودرجات مختلفة".(47).
ويفرق بذلك بين معنى الأثر الأدبى والتأويلات المتعددة لهذا الأثر .حيث تدخل عندئذ ايديولوجيا الناقد لتحيل هذا الاثر الى دلالة من نوع ما. أما الاثر فى ذاته فإنه لا يعدو كونه صدى او نتيجة للعلاقات القائمة بينه والآثار الأخرى .
وهكذا تتمخض العلاقة بين الرواية والتاريخ التى طرحها بارت الى أن تصبح نفيا كاملا لتجربة الانسان التاريخية وانفصالا تاما بين العمل الروائى وخارجه. بل هو تحديدا نفى لهذا الخارج. وهو عند كريستيفا يمثل دلالة اعتباطية مغلقة. اما عند تودوروف فهو لا يعدو كونه ترجيعا متعالقا مع اعمال سابقة. وذلك على اختلاف تام مع ما وجدناه عند الاجتماعيين من حيث كونه طرحا للتوتر بين الفرد والجماعة وبحثا عن الانسجام غير القائم فى الواقع .
الشخصية الروائية
لقد احتل مفهوم الانسان مكانا محوريا عند اصحاب الاتجاه الاجتماعى كما هو واضح فى النقطة السابقة ,بل إن لوكاتش يرى ان الانسان هو المحور الاصيل الذى بدونه يستحيل وجود وأدب ,فيقول فى كتابه ((معنى الواقعية المعاصرة)) : ((ليس هناك مضمون الا وكان الانسان بذاته نقطته البؤروية)).لذلك فإن القضية الاساسية بالنسبة للادب هى البحث عن معنى الانسان وقضيته الوجودية ,فمهما تنوعت اتجاهات الادب ,سوا كان طرحا لتجربة ابداعية او حتى ابتغاء لهدف تعليمى .. ((فالسؤال الاساسى هو – وسيظل – ما هو الانسان)) (48).
ان لوكاتش بذلك يعتبر أن الطرح الابداعى لقضية الانسان يمثل نقطة فاصلة بين ما هو أدب حقيقى واخر زائف ,أو ليس بادب على الاطلاق .ومن اجل بحث معنى الانسان على نحو يتسق مع معطياته الاجتماعية السالفة الذكر فإن لوكاتش ينطلق من مقولة ارسطو (التى توصل اليها عن طريق اعتبارات مغايرة للاعتبارات الجمالية المحض ) ((الانسان حيوان اجتماعى)) ,حيث يرى ان هذه المقولة تنطبق على كل ما يسميه ((الادب الواقعى العظيم )) , لتشكل نماذج شخصياته الروائية الخالدة من أخيلوس ,وفارتر ,وأوديب .وتوم جونز وانتيجونا ,وانا كارنينا .. إلخ.حيث يرى ان العظمة الفنية التى تجسدها هذه الشخصيات
,باعتبارها نماذج انسانية ,((أن وجودهم الفردى او نظرتهم الى الحياة (...) أو كينونتهم الانطولوجية لا يمكن تمييزه عن بيئتهم الاجتماعية والتاريخية ,ولا يمكن الفصل بين مغزاهم الانسانى وتفردهم الخاص وبين الاطار الذى خلقوا فيه ))(49). فالانسان على هذا الاساس انما هو كائن تاريخى (كما ان الرواية تمثل بنية فنية ذات طابع تاريخى كما تقدم فى النقطة السابقة ) , اى ان مصيره وعوال التأثير فيه لا ينحصرات داخل حدود تجربته الخاصة ,بل فى العلاقة بين هذه التجربة الذاتية والواقع الموضوعى العام , اى أنه يمتلك تاريخه الشخصى , ويتطور هذا التاريخ من خلال اتصاله بالعالم , فهو يشكله كما يتشكل به , ويؤثر فيه يتأثر به .
والانسان حسب ذلك يمثل نقيضا مباشرا لنظيره فى اعمال الطليعيين الذين وجه لهم لوكاتش نقدا مريرا . فهو عندهم – فيما يرى – كائن غير اجتماعى , منعزل, وعزلته ليست مجرد حالة فردية, ولكنها وضع انسانى عام ومطلق, منحصر داخل حدود تجربته الخاصة . فهو لذلك كائن لا تاريخى. والتطور الوحيد الذى يحدثه الادب فى هذه الحالة فيما يرى لوكاتش – هو الكشف التدريجى عن هذا الوضع الجامد واللانهائى : "فالانسان هو ما كان عليه على الدوام وما سيكون عليه على الدوام", حسب منظورهم. وهو ما يؤدى الى طرح ملمح فى غاية الاهمية يدلل به لوكاتش على عقم النزعة الطليعية (او ما يسميه فى مكان اخر بالنزعة الحديثة ) حيث يرى ان الروائى او الذات الفاحصة يصبح فى هذه الحالة .. "فى حالة حركة , والواقع المختبر فى حالة جمود"(50).
ان هذا يعنى ان الحركة الطليعية تجمد الوضع الانسانى عند حالة روحية واحدة , ولا ترى فيه ما هو ابعد من ذلك , ومن ثم تتصل حركية الابداع بحركية الوجود لتطرح نماذج وكيانات روائية متجددة باستمرار وليس نسخا مكررة من الضجر والغربة والانزواء كما تفعل الحركة الطليعية.
ويفرق لوكاتش فى هذا المجال بين نوعين من الامكانات التى تحكم حركة الشخصية الروائية حسب المناظير المختلفة : "الامكانيات المجردة" , و "الامكانيات المحددة" . فالامكانات المجردة تنتمى كليا الى عالم الذات وهى بالتأكيد اكثرا ثراء من الحياة الفعلية المعاشة. ومن الممكن ان تتخيل احتمالات لا حصر لها لتطور الانسان, حسب هذه الامكانات, ولا تتحقق منها الا نسبة ضئيلة للغاية. والذاتية الطليعية اذ تخلط بين هذه الامكانيات المتخلية وبين التعقيد الفعلى فى الحياة فانها تتأرجح بين السوداوية والانبهار. وعندما يرفض العالم هذه الامكانيات تأخذه هذه السوداوية الى "صيغة الازدراء" .
اما الامكانيات المحددة فهى التى تتعلق بالعلاقة الجدلية بين الذات الفردية والواقع الموضوعى , ولهذا فإن العرض الادبى للامكانية المحددة( الجدلية )لابد ان يتضمن وصف الاشخاص وهم يعيشون فى عالم محسوس يمكن التعرف عليه. فى هذه الوضعية فقط (التى تمثل عملية تفاعل الشخصية مع البيئة )
يمكن تبيين الامكانيات المحددة (بمعنى الفعلية هنا) لشخص معين ,مما يؤدى الى امكانية فصلها عن ما يسميه لوكاتش بـ((اللانهائية الرديئة)) للاكانية المجردة الخالصة .وهو ما يبرز أن هذهالامكانيات المحددة هى التى تتحكم فى هذا الفرد بالذات وفى هذه المرحلة, بالذات, من مراحل تطوره .وهذا المبدأ وحده هو الذى يتيح للفنان التمييز بين انواع متباينة من الشخصيات , فكما يقول لوكاتش : ((هناك من المواقف ما يحدث ويواجه الانسان باختيار ما ,وفى عملية الاختيار قد تكشف شخصية الانسان عن نفسها فى ضوء قد يدهشه هو نفسه (51). فليس هناك من سبيل لتمييز هذه الامكانيات الاخيرة , بصورة مسبقة ,عن الامكانيات العديدة التى تعيش فى عقل الشخصية طالما ظلت امكانية ذاتيه فى هذا العقل ولم تخض غمار التجربة الفعلية . بل ان هذه الامكانية الفعلية قد تكون دفينة تماما لدرجة انها يمكن الا تخطر على بال هذه الشخصية , حتى كإمكانية مجردة ,قبل لحظة الاختيار .وقد تكون ذات الواعية غير مدركة لدوافعها ذاتها بعد ان تصل لقرارها . ومن هنا لا يمكن عزل الامكانية المحددة عن الامكانيات المجردة العديدة , والقرار الفعلى فقط هو الذى يكشف عن الاختلاف بينهما .وعلى هذا فإن لوكاتش يرى ان الادب الواقعى الذى يهدف الى تصوير الواقع تصويرا صادقا لابد ان يبين كلا من الامكانيات ((المجردة)) و((المحددة)) لمخلوقات بشرية فى مواقف متطرفة..)) واذا ما تكشفت الامكانية المحددة للشخصية .فسوف تبدو امكانيتها المجردة غير صحيحة من اساسها )) (52) .وذلك على العكس تماما مما نجده عند اصحاب النزعة الطليعية حيث يتم تصوير الانسان ككائن منفرد غير قادر على اقامة العلاقات ذات الدلالات ,ولهذا فان التمييز بين الامكانية المجردة والامكانية المحددة للشخصية يصبح باطل المفعول وتميل التقسيمات بينهما الى التداخل .
ولهذا فإن لوكاتش يحصر الفارق بين هاتين النظرتين فى اطار كونه مشكلة عقائدية بالدرجة الاساسية من حيث موقف الكاتب من الواقع .فهل من الممكن من الناحية المبدئية فهم هذا الواقع ومن ثم تفسير تحولاته .ام انه يستعصى على الفهم ومن ثم فلا جدوى من محاولة تفسيره .فإذا أصبحت استحالة فهم الواقع هى منطقة الكتابة ,فضلا عن الاحتفاء المبالغ فيه الذات ,(وهما مرتبطان عند لوكاتش) ,فلابد للشخصية أن ((تتحلل)) بالضرورة ,لانها تصبح حينئذ قائمة على عالمها الذاتى الخالص الملئ بالامكانيات المجردة التى لا تسفر الا عن الوهم ,كما ان الاعلاء عن اهمية هذه بالذات – يقول لوكاتش- ((على حساب الواقع الموضوعى لبيئته ,يفقر ذاتية الانسان نفسها)) (53).كما ان طرح الوجود الذاتى بدون صفات انما هو امر مكمل لمفهوم انكار الوقع الخارجى ,وهنا تصبح ((صنعة كافكا الحقيقة )) , حسب ما يرى موجهة نحو احلال رؤيته القلقة للعالم محل الحقيقة الوضوعية ,اما تفاصيل الواقعى عنده فهو ليس الا تعبيرا عن الوهم الطيفى عن عالم من اطغاث الاحلام , الذى من شأنه أن يثير القلق لا ان يعين على فه العالم والانسان .
وهكذا يصل لوكاتش الا ان .. ((التقليل من شان الواقع وتحلل الشخصية يعتمدان احدهما على الاخر , وكلما ازدادت قوة الواحد منهما ازدادت قوة الاخر ,وتحت الاثنين معا يكمن الافتقار الى نظرة ثابتة للطبيعة البشرية . فالانسان يختزل الى متتالية من الجزئيات التجربية غير المترابطة .وهو يدق على التفسير بالنسبة للاخرين كما يدق على التفسير للشخص نفسه )) (54). هكذا فتحلل الشخصية . اى خواؤها وانقسامها وانهيارها كنموذج انسانى ,انما هو فى الاصل نتيجة لا واعية للمطابقة بين الامكانية المجردة والامكانية المحددة , او اعتبار الامكانية المجردة او الذاتية هى للمطابقة بين الامكانية المجردة والامكانية المحددة . او اعتبار الامكانية المجردة او الذاتية هى الامكانية الوحيدة ومن ثم تحل محل الامكانية المحددة والواقعية .ان هذا الخلل يرتفع –حسب لوكاتش – لدى هؤلاء الطليعيين وفى وعيهم الى المستوى ((المبدأ المقصود)) حيث يقول : ((ليست مجرد مصادفة أن يطلق ((جوتفريدبن)) على احدى كراساته النظرية ((حياة مزدوجة)) , فقد اتخذ تحلل الشخصية هذا بالنسبة ل((بن )) شكل الانقسام الفصامى وليس هناك – لرأيه- اى نسق متماسك للدوافع والسلوك فى شخصية الانسان (56). ولوكاتش يربط بين هذا المبدأ المقصود،الذى أقر به "بن" وأدى الى الطرح المتحلل للشخصية الانسانية ،وبين انتشار فلسفة كيركجارد الذى أنكر الوحدة بين العالم الداخلى والعالم الخارجى .
فالانسان بالنسبة له يوجد داخل "شخصية متنكرة"مغبشة لا يمكن النفاذ إليها.
وهو ما يجعل لوكاتش يرى فى ذلك دليلاً على انه حتى أكثر النظريات إبهاماً قد تعكس الواقع الاجتماعى ،حيث لقيت هذه الفلسفة رواجاً ملحوظاً بعد الحرب الثانية.
كما لا ينسى لوكاتش أن يربط بين هذه الافكار التى تقول بأن "أفعال الانسان الخارجية ليست دليلا على دوافعه "وبين اصحابها (مارتن هيدجر،جوتفريدبن،كارل شمث ،وآخرون) شاركوا فى دعم النازية.
أى انهم وصلوا بسلوكهم الى نفس تحليل الشخصية الذى نجده فى أدب الطيليعيين.(57)
يمكننا اذن ان نفرق بين نوعين من التعارض بين الشخصية وعالمها:التعارض القائم من خلال وحدة جدلية بين الانسان وعالمه،كما تقدم ،وهذا الذى يفضى الى خلق شخصيات روائية على قدر من العمق والتماسك والدلالة الانسانية القوية.
أما التعارض الاخر فهو الذى يقوم على تحطيم نسيج العمق والتماسك والدلالة الانسانية القوية .
أما التعارض الاخر فهو الذى يقوم على تحطيم نسيج العلاقات المعقدة بين الانسان وبيئته ويصبح قائما،بدلا من الوحدة الجدلية،على انفصال مطلق بين الذات والعالم وهو ما يؤدى الى تحلل الشخصية.
إن الانفصال بين الذات والعالم يعنى أن هذه الشخصية لا تمتلك ما يسميه لوكاتش بـ"النظرة الى العالم" وهذه "النظرة الى العال" عنده هى الشكل الأرقى للوعى وهى نتاج التجربة الشخصية العميقة التى يعيشها الفرد ، بل هى "أرقى تعبير يميز ماهيته الداخلية ،وهى تعكس بذات الوقت مسائل العصر المهمة عكساً بليغاً".(58)
ولهذا يستنتج لوكاتش ان اى وصف لا يشتمل على نظرة شخصيات العمل الروائى الى العالم لا يمكن ان يكون تاماً،وهو فى ذلك يطابق بين مفهوم النظرة الى العالم،وبين مفهوم آخر استخدمه فى كتاب"دراسات فى الواقعية" أطلق عليه "السيماء الفكرية للشخصية"
ان هذه السيماء الفكرية للشخصية الروائية ليس من الضرورى ان تكون صحيحة تماماً من الناحية الموضوعية،أو ان تعكس الواقع عكساً صادقاً.
ولكنها فى أى وضع من اوضاعها ينبغى أن تمتلك السيماء الفكرية أو النظرة الى العالم لا تشترط بالضرورة كيفية فكرية مجردة، بل تشترط بالدرجة الاولى جذوراً سلوكية يمكن رؤيتهافى نوازع الاشخاص وفى ارتباطها العميقبكامل جوانب حياتهم .
ويربط لوكاتش مفهوم النظرة الى العالم او السيماء الفكرية لدى الشخصية بالمفهوم الجوهرى لجهده النظرى الأساسى،ألا وهو الانعكاس الفنى للواقع الموضوعى بكل غناه وتعدده وعنقه .
وهذا الغنى والتعدد والعمق ينشأون فى الواقع من الفعل المتبادل والمتنوع والملىء بالصراعات بين النوازع الانسانية المتضادة،وهذا ناتج تحديداً عن ان "أناس الواقع لا يعملون جنباً الى جنب بل من أجل بعضهم بعضاً وضد بعضهم بعضاً.
وهذا الكفاح "الصراع" هو الذى يؤلف أساس وجود وتفتح الفردية الانسانسة"(59)
اذن فهذه الوضعية المعقدة هى التى تغنى الحدث وتوتره،كملتقى لصراع الأفعال والنظرات المتبدلة عيانيا فى تشابكها وتعقدها فى الممارسة الانسانية .
كما ان التوازى والتضاد الذين يمكن ان نلمسهما فى سلوك الشخصيات إزاء بعضها البعض،وكشكلين لتجلى الاتجاهات البشرية يعكسان فى جوهرهما الأشكال الاساسية الأعم والاعمق والأكثر جوهرية للحياة الانسانية ذاتها.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط وانما يكتمل عند لوكاتش بان تصبح الظواهر العامة النموذجية فى نفس الآن تصرفات خاصة.
أو ان تتجلى هذه التصرفات الخاصة وتصبح نوازع شخصية لأناس محددين ،وهنا يكمن ما يراه لوكاتش سر النهوض بالفردية الى مستوى نموذجى ،دون ان تسلب منها القسمات الفردية بل التشديد على هذه القسمات بالذات،حيث يؤدى امتداداها الى استقامتها وتبيان مجاليها المختلفة الى اكتشاف النوازع والقدرات الخفية للانسان والتى لا يمتلكها فى الحياة ذاتها الا على نحو مشوه،والتى لا تتعدى فيه نطاق الرغبة والإمكان".(60)
وهو ما يعد على نحو من الأنحاء اجابة من زاوية معينة على السؤال الذى يرى لوكاتش أنه يمثل جوهر الأدب الجيد . ألا وهو "ما هو الانسان", كما سبقت الاشارة.
ومن هنا يصبح مفهوم الانعكاس فى مجال الادب الروائى مرتكزاً على أن ما يرتقى الى واقع مصاغ عن طريق الأدب، ما هو الا ما ينطوى عليه الانسان باعتباره إمكانية وليس باعتباره مجرد واقع بارد مباشر، وهو ما نفهمه من عبارة لوكاتش:"ان التخطى الأدبى يقوم على اعطاء هذه الامكانيات الغافية فى الانسان تفتحاً كاملاً".(61)
وهذا الأمر نقيض لما تفصح عنه عمليات طرح نظرة الشخصيات للعالم دون ان ترتبط بممارسة حدثية مباشرة ،ودون ان ترتبط بالامكانيات المحددة والملموسة للانسان من خلال الممارسة ،أو أن لا تبرز من خلال الصراع الحسى للنوازع والمآرب البشرية ،كأن تظل فى نطاق التصريحات الفكرية المجردة.
فالشخصية الروائية لا تصبح مهمة ونموذجية الا إذا عاشت أشد قضايا العصر تجريدأ وكأنها قضاياها الخاصة "وكانها مسألة حياة أو موت" كما يقول لوكاتش .
بينما ينحط هذا التعميم الى تجريد فارغ حيث تنقطع الصلة بين الفكرة المجردة والمعاناة الشخصية ،وحين لا تتعايش هذه الفكرة مع صميم الخصوصية الفردية للشخصية الروائية.(62)
إن الشخصية الفنية على هذا النحو هى ذاتها التجسيد المباشر لمفهوم "النمط" الذى تحدث عنه لوكاتش فى كتاب"دراسات فى الواقعية الأوربية". حيث يعتبره المعيار الرئيسى والمقولة الرئيسية للأدب الواقعى ويصفه بأنه"ذلك المركب الغريب الذى يربط الخاص والعام معاً بطريقة عضوية فى كل الشخصيات والمواقف وما يعطى للنمط جوهره ليس كونه مثلاً للوسط الحسابى للنوع الذى ينتمى إليه ،وليس مجرد وجوده الفردى ،مهما كان تصوره عميقاً،لكنها تلك التحديات الاساسية،والانسانية،والإجتماعيةالتى نجدها متمثلة فى أوج تطورها وارتقائها،فى أقصى تفتح للامكانيات الكامنة فيها،فى ذروة عرضها لاطرافها البعيدة ،مجسدة بذلك قمم وحدود البشر والمراحل التاريخية.
وهكذا فإن الواقيعة العظيمة كما يراها لوكاتش تقوم على تصوير الانسان بإعتباره كياناً كلياً.
وعلى العكس من ذلك ،فإن الاتجاهات التى تقوم على الاستبطان المطلق ،أو التجريد الذاتى الذى يهمل شأن الواقع الموضوعى أو يقوم على زعم استحالة فهمه كما هو عند الطليعيين،وكذلك الذى يقوم على التبسيط المطلق أو تستطيح الشخصية لصالح طرح الواقع الموضوعى حرفياً،كما هو عند الطبيعيين ،تتساوى فى أنها تجدب الواقع والانسان وتشوههما من خلال اختزالهما فى نقطة أحادية من وجودهما دون أن يكتملا ككايانين كاملين وحقيقيين".(63)
20
إن طرح الشخصية الروائية على هذا النحو الجدلى ينطلق من كونها شخصية إشكالية بالمقام الاول بما يعنى انها شخصية غير بطولية ،كما قد نجد فى الملحمة.
كما أنها ليست شخصية أحادية الجانب كأن تعيش عالمها الداخلى فقط أو الخارجى فقط،بل هى شخصية متعددة الأبعاد ،متناقضة الرؤى والنوازع،تنتابها حالة صراعية كاملة،سواء داخلها او خارجها،أو بينها أو معها،وفى كل ذلك تنطلق من نظرة معينة للعالم.
إن مفهوم النظرة الى العالم الذى رأيناه عند لوكاتش يتطور عند لوسيان جولدمان ليشمل كل نتاجات الأدب والفلسفة ولا يقتصر على الشخصية الفنية وحدها،كما انه يمدده بحيث يصبح "ليس وقائع شخصية بل وقائع اجتماعية", وهذا الأمر ليس متناقضاً بأى حال فى جوهره مع طرح لوكاتش, فهو (أى مفهوم النظرة الى العالم) يمثل عند جولدمان"طريقة للنظر والاحساس بكون ملموس مشتمل على كائنات واشياء ".(64)
وتصبح النقطة الجوهرية فى هذا المقام هى العلاقة بين العمل الأدبى وبين نظرات للعالم "رؤيات العالم" التى تقابل شريحة أو طبقة أو عدة شرائح وطبقات اجتماعية معينة. وهى تلك التى تطرح الدلالة الموضوعية للعمل الأدبى، بحيث يمكن بعد ذلك اقامة علاقة بينهما وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر .
فعلى الرغم من ان العمل هو بالتأكيد من انتاج صاحبه، الا ان جولدمان يؤكد أنه, الى جانب ذلك, متوفر على منطقه الخاص، وأنه ليس ابداعاً تعسفياً، بل هناك التحام داخلى لمنظومته المفهومية، كما أن هناك التحاماً لمجموعة المكونات الحية داخله، وهذا الالتحام يجعل تلك المفاهيم والكائنات تؤلف"كليات"يمكن لاجزائها أن تٌفهم انطلاقاً من بعضها البعض, وأن يفهم الجزئى انطلاقاً من بنية الكلى .
غير أن هذا لا ينفصل بأى حال، فى رأيى ،عن مفهوم الشخصية الروائية أيضاً- تلك التى لا يمكن الفصل بين محيطها الاجتماعى التاريخى الذى طرحت فى اطاره وبين خصوصيتها وتفردها الناجمين عن خصوصية وتفرد كاتبها ذاته رغم تاريخيته .. يقول جولدمان: "لا شك أنه من المستحيل ان نفهم (فاوست)و(باندورا)بدون إيلاء الاعتبار للثورة الفرنسية أو لنابليون. لكن عندما تظهر العلاقة الرابطة بين هذه الاعمال وبين الاحداث التاريخية المعاصرة لها،فإنه يبقى علينا كذلك أن نتسائل عن الكيفية التى امتزجت بها الأحداث فى وعى جوته ومع تجاربه الشخصية لينتهى الى تلك الروائع التى كتبها تعبيراً عنه".(65)
.وكما ان وعى جوته لا يمكن فصله عن محاولتنا لفهم شخصيتى فاوست وباندورا الا أنهما (أقصد الشخصيتين) يمتلكان استقلالية من نوعٍ خاص داخل العمل الأدبى، ولذلك فهما أيضا يمتلكان نوعاً من الوعى الذى يحكم حركتهما الفنية وأختياراتهما المصيرية الخاصة ..بيد أن هذا الوعى ليس منفصلاً عن وجودهما الاجتماعى المحدد .. يقول جولدمان: "ان الوعى ذاته عنصر من عناصر الواقع الاجتماعى،ووجوده نفسه يسهم فى جعل مضمونه ملائماً أو غير ملائم".(66)
ففاوست وبانورا،لذلك لا يمتلكان توترهما الخاص الذى يجعل منهما شخصيات فنية حية.
ينقسم هذا الوعى عند جولدمان الى نوعين:"وعى قائم"،وهو الوعى الذى تضافرت فى تشكيله الخبرة التاريخية الاجتماعية المكتسبة.و"وعى ممكن"، وهو الحد الأدنى للتلاؤم الذى يمكن أن تدركه الجماعة "الشخصية الفنية" دون أن تغير من طبيعتها .(67)
ويمكن فهم العلاقة بين هذين النوعين من الوعى بالنظر إلى الفرضية الأساسية التى تقوم عليها البنيوية التكوينية. حيث ترى كل سلوك أنسانى إنما هو محاولة لتقديم جواب دال على وضعية مطروحة، وهو من خلال ذلك محاولة لخلق توازن بين الذات الفاعلة والموضوع الذى مورس عليه الفعل. وهو المعنى عينه الذى يردنا مرة أخرى الى مفهوم الانسجام الذى تعرفنا عليه عند لوكاتش .
وهذه الفرضية لا يطرحها جولدمان بإعتبارها فرضية مطلقة بل هى نسبية على نحو خالص. ومن هنا تصبح العلاقة بين الوعى القائم والوعى الممكن متمثلة فى عناصر السلوك التى تنتجها الذات الفنية "الاجتماعية" لتحقيق التلاؤم – الانسجام بين الذات والموضوع، وبين الانسان والعالم .
وهو الأمر الذى يمكن أن نتصور انه عملية انتاج للإيدولوجيا، هذا البناء الفكرى الذى يصوغ رؤوية الانسان وعالمه وتصوره لدوره الممكن خلاله. لذلك فإن سلوك البطل الروائى لا يمكن فصله عن رؤيته الأيدولوجية بل هو مبرر دائماً من خلال هذه الايدولوجية.
يواصل ميخائيل باختين هذا الخط قائلا: "إن فعل البطل الروائى مبرر دائما من طرف ايدولوجيته ويتصرف داخل عالمه الايدولجى الخاص به ..وله مفهومه الخاص به للعالم مجسدا فى كلامه وأفعاله "(68)
إن هذا الأمر مبنى عند باختين على أساس ان خطاب المتكلم فى الرواية ليس مجرد خطاب منسوخ أو معاد إنتاجه كما رأينا عند البنيويين (بارت، وكريستيفا، وتودوروف) بل هو بالذات مشخص بطريقة فنية "، وهو يقول هذا رغم إقراره بأن "المتكلم" أساساً إنما هو "فرد إجتماعى ملموس ومحدد تاريخياً"،وخطابه لغة أجتماعية..وليس لهجة فردية "وذلك لأن كلام الشخصيات ينزع دوماً نحو دلالة وأنتشار اجتماعيين معينين،فهو لغة إفتراضية أو لغة بالقوة ،لو إستخدمنا التعبير الفلسفى (الأرسطى).
ومن هنا فهى ليست نسخاً أو محاكاة للخطاب الإجتماعى عبر أيدولوجيا المتكلم او الشخصية الروائية على حدٍ سواء .
ولهذا فإن المتكلم فى الرواية عند باختين إنما هو منتج أيدولوجياً..وكلماته هى دائماً"عينة أيدولوجية"أو "أيديولوجيم" كما يسميها.(69)
.هكذا يتضح أن الشخصية الروائية لدى الاتجاه الإجتماعى تنطلق من مفهوم الانسان بإعتباره كائناً إجتماعياً بالدرجة الأولى . ومن ثم فهى تمثل النموذج الإنسانى الإشكالى الذى يتجاذبه طرفا التوتر الجدلى، المتمثلين فى مقولتى "الذات "و "الموضوع" .. "الأنا" و"الآخر" .. "الخاص" و"العام" .
وهو فى ذلك يكتسب وعياً محدداً كما أنه ينتج وعيا جديداً، أى يحمل أيدولوجياً وينتج أيدولوجيا، باحثاً عن الانسجام والتلاؤم مع عالم يتحدى إنسانيته وينفيها.
الشخصية الروائية عند أصحاب الاتجاه البنيوى.
لعل هذا المنحى يتناقض تناقضاً جوهرياً مع نظرة الاتجاه البنيوي للشخصية الروائية, فهذه النظرة البنيوية تجردها من أهميتها الجوهرية في الرواية على العكس تماماً مما رأينا لدى أصحاب الاتجاه الاجتماعي, فالشخصية هي العنصر الرئيسي في الرواية الذي أولته البنيوية أقل اهتمام, كما يقول "جوناثان كوللر", وربما كانت كذلك أقل المباحث البنيوية حظاً من التوفيق, وقد تعامل البنيوين مع الشخصية باعتبارها عنصراً أيديولوجياً لا يستحق الاهتمام أكثر منه كحقيقة أدبية, وأسباب ذلك يمكن اكتشافها لو استعدنا المنطلقة النظري الذي تقوم عليه البنيوية, فهو يسير في اتجاه مخالف تماماً لمفهوم الشخصية باعتبارها كلية مستقلة تتميز بعوالمها الداخلية والخارجية, وبدلاً من ذلك تركز البنيوية على الأنساق التي تتجاوز الفرد وتجعل منه مجرد عنصر يمكن إدراجه ضمن جملة الوقائع والقوى أكثر منه جوهراً فرداً, فيما يقول كوللر.(70)
لذلك لم يكتب البنيويون الكثير عن النماذج المعروفة للشخصية الروائية, بل انشغلوا بتهذيب وتطوير نظرية فلاديمير بروب عن "الأدوار" أو الوظائف التي يمكن أن تضطلع بها الشخصيات, وذلك بوصفها "مشاركاً" أكثر من "كائناً". ويذكر تودوروف أن توماشيفسكي قد أنكر على الشخصية أية أهمية سردية, باعتبار أن القصة ليست إلا نظاماً من الوظائف Motifs, يقول توماشيفسكيم: "إن البطل غير ضروري للقصة, إن القصة باعتبارها نظاماً من الوظائف, بإمكانها أن تستغنى تماماً عن البطل وعن قسماته الخاصة". وغير أن تودوروف يرى أن هذا القطع ينطبق أكثر على قصص عصر النهضة الغرائبية, أكثر مما ينطبق على الأدب الحديث, حيث يمارس البطل, حسب رأيه, دوراً أساسياً, إذ تنتظم عناصر الرواية كلها انطلاقاً منه.
بيد أنه عندما حلل رواية "علاقات خطرة" لألان روب جرييه, (وهي رواية نفسية) فإنه لم ينطلق من الشخصيات, لكن من ثلاث علاقات كبرى يمكن للشخصيات أن تكون فاعلة فيها, وقد سمى هذه العلاقات بـ"المستندات" أو الأخبار السياسية Les predicates de pase, تلك هي: الرغبة, والتبادل, والمشاركة. ويقر بأنه اختار هذا المدخل لأن هذه المستندات تسمح بالتحليل التصنيفي. (71) الذي أتصوره الشغل الشاغل لمنظري البنيوية.
ومن الواضح أن تحليل تودوروف هذا يبرز بوضوح التعامل مع الشخصية باعتبارها عنصراً "مشاركاً" أكثر منها باعتبارها "كائناً". بل أكثر من ذلك فإن البنيويين (وتودوروف من أهمهم) ينكرون استخدام مفهوم "الشخصية" ذاته, فيرى الأستاذ الدكتور/ صلاح فضل في كتابه "النظرية البنائية في النقد الأدبي" أن مصطلحات النقد الأدبي التي كانت تعتمد على معيار المضمون من الوجهة النفسية, كانت تسمى العنصر الفاعل في القصة بأسماء تطابق هذه الرؤية مثل الشخصية والنموذج. ومن ثم فهو يرى – تبعاً لنقاد ومنظري البنيوية – أن فكرة الشخصية بهذا المعنى, فكرة خطيرة نجمت عن نوع من الكسل العقلي الذي يتسم به القراء والنقاد معاً, وأصبحت طريقة للإشارة تحجب من وراءها "الميكانيزم" الحقيقي للعمليات القصصية. (72)
ولهذا فإن البنيوية تجرد هذا العنصر من طابعة ذاك وتطلق عليه تسميات جديدة, اعتماداً على وظيفته البنائية ومدى اشتراكه في العمل, وهو ما فعلته المدرسة الشكلية حين أخذت في وصف الفاعلين حسب الأفعال التي تعزي إليهم في العمل الأدبي, وجاءت البنائية لتنص على أن هذا المستوى الوصفي ضروري, انطلاقاً من أنه لا توجد حكاية دون "ذوات" تقوم بالفعل أو يجري عليها الحدث, لكن هذه الذوات لا ينبغي تقديمها على أنها أشخاص, حيث تتفادى البنيوية وصف الشخصيات بالمفهوم النفسي والتاريخي, كما تقدم, وتبحث عن وسائل أخرى للرصد والحديث عن مشتركين أو فاعلين, وقد تلجأ إلى استخدام مقولات سيمولوجية مثل المرسل والمرسل إليه, والمساعد والمعارض, والمنتفع والعائق..الخ, وتحلل مراتبهم وأدوارهم في بنية القصة وتقيس حجمها وأهميتها وعلاقتها بغيرها. (73), ولهذا فقد حول بروب الشخصيات إلى نماذج لا تتأسس على علم النفس, أو علم الاجتماع, ولكن على وحدة الأفعال التي تهبها القصة للشخصيات. (74)
إن الشخصية تشكل بذلك عنصراً ضرورياً للوصف, من حيث إن الأفعال المروية لا يمكن إدراكها بدون إسنادها إلى شخصية, غير أنه في الوقت الذي يؤكد فيه بارت أنه لا توجد قصة واحدة في العالم بدون شخصيات, أو على الأقل ما يسميه "فواعل", فإنه يرى أن هذه الفواعل في تعددها لا يمكن وصفها أو تصنيفها بمصطلحات الشخصيات, تلك التي تم النظر إليها من زاوية تاريخية, وذلك من الاتساع في الطرح المصطلحي, بحيث يشكل كل القصص سواء الحكايات الشعبية أو الروايات المعاصرة. ومن ثم فهو يطرح – كالآخرين – جانباً مفهوم "الشخصية" ليستخدم بدلاً منه مفهوم "الفاعل", وذلك ترتيباً على أن التحليل البنيوي "قد عرف الشخصية بوصفها مشاركاً" أكثر من كونها "كائناً". (75)
وقد سبق جريماس في استخدام مفهوم الفاعل Actant على اعتبار أنه أكثر تجريدية من مفهوم الشخصية لدى بروب. فالفاعل عند جريماس يمكن ان يكون فرداً أو جماعة أو قوى طبيعية, أو ذاتاً إنسانية أو شيئاً يتم تعريفه في ضوء الوظيفة التي يؤديها في مقطع سردي معين. (76). ومن هنا فإن جريماس يصف ويصنف شخصيات القصة, ليس بحسب ما هم عليه, لكن بحسب ما يفعلون (ومن هنا جاءت تسميتهم كفواعل). وذلك لأنهم يشاركون في ثلاثة محاور دلالية كبرى هي عنده (حسب ترجمة منذر العياشي).. "الاتصال, والرغبة أو التطلع, والامتحان". وبما أن هذه المشاركة تندرج على هيئة ثنائيات, فإن العالم اللامتناهي للشخصيات (الفواعل) يخضع بدوره لبنية ثنائية مماثلة (المسند/ المسند إليه, المعطي/ المتلقي, المساعد/ المعارض) حيث يتم إسقاطها على طول القصة. (77).
ولقد قدم بروب بتحديد سبعة أدوار يمكن أن تقوم بها الشخصيات في الحكاية الشعبية (الوغد, المساعد, واهب الأدوات السحرية, الفتاة التي يتم البحث عنها وأبوها, المرسل أو الباعث الذي يحث البطل على الفعل, البطل, البطل الزائف). ولا يفترض بروب أية عمومية لهذه الأدوار, غير أن جريماس نظر إليها بوصفها "شاهداً على أن عدداً صغيراً من مصطلحات الفاعلية يكفي لتبرير نظام عالم أكبر". ويقوم جريماس – الذي تصدى بتقديم مجموعة من الفواعل – بعمل تصور استقرائي حول بنية الجملة لكي ينتج نموذجاً للفاعل يشكل, كما يتصور أساس أي مشهد دلالي, سواء كان جملة أم قصة, حيث يدعي أنه لا شيء يمكن أن يكون كلا دالا, إلا إذا أمكن استيعابه كبيئة للفاعل. (78)
ويتألف نموذج جريماس من مقولات ست تم وضعها في علاقة تركيبية موضوعاتية بالنسبة لبعضها كالشكل التالي:
مرسل ـــــ موضوع ـــــ مرسل إليه
مساعد ـــــ ذات ـــــ معارض
ويركز هذا النموذج على الموضوع المرغوب فيه من قبل الذات والذي يقع بين المرسل والمرسل إليه وتسقط الذات رغبتها على المساعد والمعارض.
وعندما تصب أدوار بروب في هذا الشكل ونحصل على النموذج التالي:
المرسل ـــــ الشخص موضوع البحث ــــ البطل
الوهاب البطل الوغد
ـــــ ــــــ
المساعد البطل الزائف
وفي إطار التعامل مع هذا النموذج, يؤكد كل من تودوروف وبارت أن المشكلات التي تطرحها دراسة البطل والشخصية الروائية في مجال التنظير البنيوي لو تحل بعد. (79) بل أكثر من ذلك فإن بارت يرى أن نموذج جريماس السالف إنما هو نموذج قاصر ولا ينطبق على عدد كبير من القصص, كما أن قيمته في هذا الشكل أقل مما هي عليه في باقي العناصر التي يستجيب لها. كما أنه يعطي, حسب بارت – "بيانات سيئاً عن تعددية المشاركات عندما يتصدى للتصنيف. (80)
ويتفق في هذا الرأي حول نموذج جريماس جوناثان كوللر الذي يطرح اعتراضاته بشيء من التفصيل, من حيث إن العلاقة بين المرسل والمرسل إليه, باعتبارهما يمتلكان طبيعة جوهرية واحدة, حسب جريماس, تحتاج إلى تفسير وتبرير, وهو ما لم يقم به جريماس. كما أن جريماس يعجز عند هذه النقطة بالذات عن استخلاص سند تجريبي من بروب الذي اعتمد عليه بصورة رئيسية في طرح نموذجه, ولا تتجاوب أي من وظائف بروب الذي اعتمد عليه بصورة رئيسية في طرح نموذجه, ولا تتجاوب أي من وظائف بروب السبع مع وظيفة المرسل إليه, مما يضطر جريماس إلى القول إن الحكاية الشعبية لها خصوصيتها. (81) حيث يكون البطل ذاتا ومرسلاً إليه في الوقت نفسه, إلا أن ذلك يتناقض مع فهم أن المرسل هو الباعث (المحرض) فلا يقوم المرسل عموماً بإعطاء البطل أي شيء, إن هذا هو دور المساعد أو والد الشخص الذي يتم السعي إليه والذي يمكن أن يمنح البطل موضوع بحثه في النهاية.
ومثلما نقد تودوروف جريماس كذلك لم يسلم هو نفسه من النقد وجهة إليه كل من رولان بارت وجونا ثان كوللر, فيري بارت أن الاختصار الذي طرحه تودوروف (الذي أشرنا إليه قبل قليل9 رغم أنه يتجنب المشكلات التي يثيرها نموذج جريماس, إلا أنه لا ينطبق إلا على رواية احدة. (82) (وهي رواية علاقات خطرة التي درسها تودوروف), وكالعادة يقدم كوللر نقداً أكثر تفصيلاً, فيرى أنه إذا كان تودوروف قد حاول في هذه الرواية أن يستخدم نموذج جريماس (الرغبة – الاتصال – المشاركة) كمحاور ثلاثة لنموذج الفواعل, وباعتذارها العلاقات الأساسية بين الشخصيات, ومضى في صياغة قواعد معينة للفعل تحكم هذه العلاقات الأساسية بين الشخصيات, ومضى في صياغة قواعد معينة للفعل تحكم هذه العلاقات في الرواية, فإنه من ناحية أخرى يرفض صراحة في كتابه "نحو الديكاميرون" Grammaire du decameron, تصنيف جريماس الخاص بالفواعل. ويحاول أن يتخذ من الجملة نموذجاً له لكي يثبت أن "الفاعل النحوي يخلو دائماً من خواص داخلية يمكن لها أن تنتج فقط ارتباطها المؤقت بمحمول". ويقترح, من ثم, معاملة الشخصيات باعتبارها أسماء أعلام تلحق بها صفات معينة أثناء المسار السدي, وليست الشخصيات أبطالاً أو أوغاداً أو مساعدين, أنها ببساطة فواعل لمجموعة من المحمولات التي يقوم القارئ بإضافتها أثناء القراءة. وهنا لا يقدم تودوروف دليلاً يعزز به هذا الرأي على أية صورة.(83)
هكذا نصل إلى الخلاصة التي وصل إليها بارت من أن "القضايا التي أثارها تصنيف شخصيات القصة لم تحل بع". (84) وهو يقصد طبعاً ما يتعلق بالجهود النظرية البنيوية, وهي نفس النتيجة التي وصل إليها تودوروف كذلك قائلاً: "إن دراسة البطل تطرح عدة إشكاليات لم يتم حلها إلى الآن" (85) وذلك في تصوري ناتج عن أن هذه الدراسة لا تتم ف سياق ربط العمل بالعالم الذي أنتجه, ومن ثم التعامل مع الشخصية الروائية باعتبارها شخصية إنسانية, بل يتم التعامل معها في إطار وجودها الشكلي المجرد الخالص.
مثلما يفتقر الاتجاه البنيوي إلى نظرية مستقرة حول الشخصية الروائية, كذلك فإن أصحاب النقد الاجتماعي يفتقرون إلى نظرية متكاملة حول مفهوم السرد وأساليبه, إن مفهوم السرد Narration , بمعناه المعاصر من حيث كونه تقنية للحكي, لم يحظ بمعالجات كافية سواء من كلاسيكييهم أو حتى المعاصرين منهم, بيد أنهم تناولوا شيئاً قريباً من ذلك ألا وهو مشكلة الصياغة الفنية للرواية والفارق في الطرح السردي بين كل من الرواية الطليعية والرواية الطبيعية والواقعية والنقدية والرواية الواقعية الاشتراكية.
ففي كتابة "دراسات في الواقعية". يتحدث لوكاتش عن الحدث كمتلقي للأفعال المتبادلة والمتشابكة في ممارسة الإنسان, حيث يقوم الصراع عنده كشكل أساسي لهذه الأفعال المتبادل المليئة بالتناقض, وذلك عبر مقولتي "التوازي" و "التضاد" اللتين تشكلان اتجاه الحدث , وكشكلين تمارس فيهما النوازع البشرية فعلها تآزرا أو تنازعاً, ويخلص من ذلك إلى أن هذه المبادئ الأساسية للتأليف الروائي.."إنما تعكس في تركيز إنشائي الأشكال الأساسية الأعم والأعمق بضرورة الحياة الإنسانية ذاتها". لكن الأمر عنده لا يتعلق بهذه الأشكال في ذاتها, بل ينبغي أن تقوم على تحويل الظواهر العامة النموذجية إلى تصرفات خاصة في نفس الآن, بل ينبغي أن تقوم على تحويل الظواهر العامة النموذجية إلى تصرفات خاصة, في نفس الآن, إلى نوازع شخصية لأناس معينين.
وهذه المهمة تقوم على عاتق الفنان الذي يقوم بخلق أوضاع ووسائل تعبير يمكن بواسطتها أن يظهر حسياً. كيف تتجاوز هذه النوازع الفردية أطر العالم الفردي المحض. (86) ويتم ذلك عبر ما يسميه "بالتجريد" الذي يمكن أن يكون مرادفاً للتكثيف. فليس هناك فن روائي بدون تجريد وإلا لما تمكن هذا الفن من خلق "النموذجي". غير أن لعملية التجريد تلك, مثل كل تقنية, اتجاها, وهذا الاتجاه هو ما يهم لوكاتش بصورة أساسية. فكل كاتب كبير يعالج – بوسائل التجريد تلك – مادة عمله لكي ينفذ إلى السمات الجوهرية للواقع الموضوعي وإلى علاقاته الخفية غير المدركة بصورة مباشرة والتي لا يمكن لمسها إلا عبر وسائط. حيث إن هذه العلاقات متداخلة وغير متساوية في أهميتها أو آثارها ولا تقوم إلا في هيئة توجهات محتملة , فضلاً عن أنها ليست منظورة على السطح المباشر فإن الكاتب يقع عليه عبء مزدوج:
فعليه أن يتناول الجانب الفني كما يتناول جانب نظرته إلى العالم عبر هذه التلافيف, يقول لو كاتش: "فهو يقوم أولا, على مهمة الكشف الفكري والصياغة الفنية لهذه الترابطات, وثانياً يقوم – وهذا لا ينفصل عنه الأولى – على التغطية الفنية للترابطات التي تعالج مجردة – أي على رفع التجريد". وهو يقصد برفع التجريد رؤية علاقات الواقع في تجسدها وتداخلها تمهيداً لطرحها من خلال منظوره في تجريدها النموذجي. وهو ما يؤدي إلى طرح صياغي فني جديد للواقع, أو كما يقول: "سطح للحياة مصنوع فنياً". غير أنه رغم ذلك عليه أن يبدو كسطح شامل للحياة بكل تعيناته الجوهرية, لا كلحظة مدركة ذاتها أو معزولة عن مجمل هذا الترابط الكلي. (87) إن القضية عند لوكاتش, إذن, تتحد في قدرة الكاتب على إبراز التركيب الجوهري للعالم من خلال تعمق بنيته وعدم الوقوع في شراك "خبثه" أو مكره الذي تحدث عنه لينين, وطرح ذلك من خلال صياغة فنية فنيه قادر على إبراز منظور الكاتب لهذا العالم, إن المقصود "بالجوهري" هنا هو العناصر والقوى الحقيقية, وليست الزائفة أو السطحية, المحركة لصيرورات الوقائع والبشر.
والكاتب يرى هذا الجوهري في حركية هذه الوقائع وتعقدها وتداخلها كما سبق, غير أن هذا الجوهري إلى جانب ذلك متعلق بما يمكن أن يبدو, في حدوثه, مصادفة بينما هو في الحقيقة مرتب على نحو يحكمه قانون الحركة المعقد الذي ينبغي على الكاتب أن يكشف عنه, يقول لوكاتش: "ومشكلة الجوهري وغير الجوهري تمثل وجهاً آخر لمشكلة المصادفة, فكل صفة في أي إنسان هي من وجهة نظر الكاتب أن يكشف عنه, يقول لوكاتش: "ومشكلة الجوهري وغير الجوهري تمثل وجها آخر لمشكلة المصادفة, فكل صفة في أي إنسان هي من وجهة نظر الكاتب شيء عرضي, كل هدف هو أداة من أدوات المسرح, حتى تتم بينها التفاعلات الحاسمة وتعبر عن نفسها بشكل شعري من خلال بعض الأحداث". (88) ومن هنا يصل الكاتب, من خلال ما يبدو عرضياً, إلى الجوهر الحقيقي الذي يحكم نزوع الشخصية ويحكم حركة أحداث الرواية.
إن ما يلعب الدور الحاسم في هذه في هذه المسألة هو ما يسميه لوكاتش, "بالمنظور" Prespective, وهو يعد مصطلحاً بالغ الأهمية في الطرح الجمالي عند لوكاتش "يحدد الاتجاه" والمحتوي بالنسبة للرواية ويجمع خيوط السرد ويمكن الفنان من أن يختار بين المهم والسطحي, بين القطاع البات والحدسي, فالاتجاه الذي تتطور فيه الشخصيات يحدده المنظور, فتوصف فقط تلك الملامح المهمة في تطورها (أي تطور الشخصيات). وكلما كان المنظور صافيا (..) كان الاختيار مقتصداً ولافتا للنظر". (89) إنه إذن مبدأ الاختيار والمعيار الذي يختار به الكاتب تفصيلات عمله, ومن ثم يتجنب منزلقات الثرثرة أو الحركة في اتجاه لا يخدم رؤيته الفنية والموضوعية. والتعامل مع ما هو جوهري وطرح ما دون ذلك, ولعل هذا هو ما يحدد مفهوم الصياغة الفنية الصائبة عن لوكاتش خاصة عندما يقول "الفن هو اختيار ما هو جوهري وطرح ما هو غير جوهري". (90)
إن هذا الموقف يطرح – حسب ذلك – مفهوم المنظور أو الرؤية الفنية للعالم باعتبارها إحدى قضايا الصياغة الفنية في العمل الروائي أو باعتبارها شكلاً فنياً, وهو الأمر الذي يؤكده لوكاتش منذ كتابه المبكر "تاريخ تطور الدراما الحديثة" A modern dramafejlodesenek tortenete قائلاً: "إن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب". (91) وقول لوكاتش هذا من الضروري فهمه في إطار مفهوم الوحدة الجدلية بين الشكل والمضمون أو بين الصياغة والمحتوى, وهو ما يؤدي إلى أن يصبح الشكل عنصراً اجتماعياً من حيث كونه يحمل طابعاً أيديولوجياً, أو أنه يحمل منظوراً أو عنصراً اختيار محدد كصياغة فنية لرؤية محددة للعالم, تختار ما هو جوهري وتطرح ما هو غير جوهري.
وانطلاقاً من هذا المفهوم (المنظور) وباستخدامه يحدد لوكاتش أساليب الصياغة الفنية (يمكن أن نطلق عليها أساليب السرد) في أربعة اتجاهات رئيسية: الأول: الاتجاه الطليعي الذي وإن حاول تصوير الواقع بشكل أو بآخر, إلا أنه يستخدم منظورا يقوم على الغربة المطلقة للإنسان, وأن عذابه الوجودي سرمدي وكائن في طبيعة الحياة نفسها وغير معلل بأي عوامل متحركة خارج الفرد, وذلك من خلال تثبيت المشهد الإنساني واعتبار القلق والاضطراب والقهر والعدمية عناصر قدرية لا فكاك منها, ومن هنا يولى هذا الاتجاه جهده للتجريب الشكلي بعد أن أصبح تصوره للإنسان ولمصيره أمرا مفروغا منه.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الطبيعي, ذلك الذي يقف على الطرف النقيض من الاتجاه السابق من حيث إنه يركز على العوامل البيئية والبيولوجية المحركة للإنسان عن حركته ذاته وعن نوازعه وفاعليته كعنصر مشارك في العملية الاجتماعية, فيبدو الإنسان في الاتجاه كفأر التجارب الذي تمارس عليه صنوف التحولات, ولا لا يملك إلا أن يكون مفعولا به.
أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه الواقعية النقدية, ذلك الذي يقوم على منظور الإيمان بحركية التاريخ والواقع وتطورهما وبحث الإنسان الدائم في إطار عن وضع أفضل باعتباره كائنا اجتماعيا مؤثرا ومتأثرا بما يحيط به, إن هذا المنظور يتيح – حسب لوكاتش – تعرية اللحزة المعاشة وسبر أغوارها من خلال تعمق الداخلي الغني للإنسان ومن هنا فإن ما يشغل منظور الواقعية النقدية ويشكل مادتها, هو تعمق الصراعات التي تتزايد حدتها بتعقد الأوضاع المجتمعية وتعقد الاستجابات الإنسانية تجاهها, فهذا المنظور – حسب لوكاتش – يقوم على تحديد المواضع .. (التي تصل فيها هذه الصراعات إلا أكثف درجات شدتها وأكثرها نمطية, وأن يعبر عنها تعبيرا ملائما, وغالبا ما يتضمن التفصيل الواقعي الجيد حكما على هذه الصراعات) (92) وذلك ارتكازا على مصطلحين مرتبطين يقترحهما لوكاتش هما: (المعيار) و (التشويه) حيث على الكاتب لكي يصف (التشويه) الحادث في المجتمع والمنصب على الإنسان الذي يحياه فإن عليه أن يستخدم (معيارا معينا لقياسه عليه, ورغم أن لوكاتش لا يفصل القول في هذا الشأن ووقد مر عليه مرورا سريعا إلا أنني استطيع أن استنتج أن هذا المعيار إنما هو اليوتوبيا البديلة التي يمكن أن تتثمل في الاشتراكية حسبما يراها لوكاتش, وهو يركد ذلك في موضع آخر قائلاً:
(إن رفض الاشتراكية كظاهرة ممكنة الحدوث يعني أن يغمض المرء عينيه عن المستقبل, وعندئذ يقبل الفرد القلق والفوضى كوضع دائم) (93) ومن هنا فإن منظور الواعقية النقدية لا يقوم على مجرد تصوير الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يبرزها المجتمع المعاصر, لكن أيضا تصويرها في إطار الكل المجتمعي كظاهرة تمتلك أسبابها الكامنة في المرحلة التاريخية المحددة, وفي الوضع الاجتامعي المحدد, وإن كان هذا المنظور لا يعالج بصورة مباشرة الحالة اليوتيوبية البديلة, ولعل فيما قاله (ابسن) و (تشيكوف) وأورده لوكاتش موافقا عليه, ما يؤكد ذلك, يقول إبسن: (إن مهمتي أن أضع الأسئلة لا أن أقدم الإجابات) وأعلن تشيكوف أنه (لابد أن يكون السؤال (فقط) الذي يضعه الكاتب معقولا, والإجابات في حالة كثيرة حتى عند تولستوي ليست معقولة, لكن هذا لا يبطل العمل طالما أنه على سؤال معقول) (94).
أما الاتجاه الرابع الذي يورده لوكاتش فهو ما يمكن أن يشكل تطويرا وامتدادا للاتجاه الواقعي النقدي, أو قل إجابة عن أسئلته (المعقولة) وذلك هو اتجاه الواقعية الاشتراكية الذي لا يكتفي بمجرد طرح أسئلة تشيكوف بل ينشغل بعوامل التغيير الاجتماعي ذاتها, حيث يقوم على ماد يسميه لوكاتش (بالوصف من الداخل) أي طرح واكتشاف عوامل التغيير الكامنة داخل الأفراد والمجتمعات, وذلك في مقابل ما تكتفي به الواقعية النقدية من التعامل مع هذه العوامل دون التوقف عندها, وهو ما يعني الوصف من الخارج, وعن طريق هذا الوصف من الخارج يصل الكاتب إلى طرح نماذج الأفراد وصراعاتهم الشخصية, محاولا الوصول إلى دلالة اجتماعية أوسع, أما الوصف من الداخل, يقول لوكاتش: (فإنه يقوم على اكتشاف نقطة التفجير في التناقضات الاجتماعية القائمة, ثم يقيم بناءه الفني في علاقاته بهذه النقطة) (95) ويدخل في هذا الإطار وصف دخائل الأفراد الذين يعملون لهذا المستقبل من خلال التركيز على العناصر (الجوهرية) الحاملة لإمكانية التغيير فيهم وفي مجتمعهم.
وانطلاقاً من مفهوم (الجوهري) هذا يصل (تيودور أدورنو) إلى نتائج مغايرة حيث يطرح ما يتصوره مأزقا للرواية الحديثة ويتمثل هذا المأزق في أن تدفق المعلومات والتقدم العلمي وبخاصة على النفس والتاريخ.. الخ قد حرم الرواية من إمكانيات تصويرية وتعبيرية هائلة, تماما مثلما فعل اختراع آلة التصوير بالنسبة لفن الرسم, ومن هنا يدعو إلى أن تنقطع الرواية عن كل هذه الموضوعات التقليدية التي غطتها العلوم الجديدة, وأن .. (تكرس نفسها لتشخيص الجوهري وما ليس جوهريا) (96) حيث إن تحولات المجتمع تزداد كثافة وتلاحقا وتداخلا وهو ما يؤدي إلى خفاء الحقيقة المجتمعية والإنسانية واستتارها خلف حجة كثيفة.
ومن هنا تأتي أهمية الرواية التي تستطيع أن تغوص إلى ما خلف هذه الأستار والتعقيدات لا أن تعيد إنتاج ما هو سطحي لأنها في هذه الحالة ستكون (متواطئة مع الكذب) ومن هنا فإنه يرى ضرورة أن تتخلى الرواية عن صيغة الفعل الماضي (هكذا كان) وإذا كان لوكاتش قد تساءل عن احتمال أن تكون روايات ديستويفسكي حجر الأساس لملاحك المستقبل, فإن أدورنو يرى أن الرواية المعاصرة التي تتحول فيها الذاتية العارمة إلى نفي للذاتية نفسها, نتيجة لمشكلتها الخاصة إزاء مجتمع يلفظها, هي بذاتها تشبه الملاحم لكنها – كما يقول – (ملاحم سالبة) حيث إنها تشهد على حالة يصفى فيها الفرد نفسه بنفسه, ويلتقي عبر ذلك بما هو سابق عن الفردي الذي كان يبدو قديما ضمانة لوجود عالم مليء بالمعنى, إن ما يجعلها كذلك إنما هو ذلك الموقف الملتبس المتمثل في التساؤل حول ما إذا كان الاتجاه التاريخي الذي تتعامل معه يمثل عودة إلى البربرية أن يتجه نحو تحقيق الإنسانية.
بيد أن بعض هذه الروايات في رأيه يستعذب أو يفضل حسم هذا الأمر بوضع تلك الرحلة برمتها داخل إطار البربرية, ومن هنا فعلى العكس من لوكاتش, يعتبر أدورنو أنه لا يوجد عمل فني له بعض القيمة لا يتجه نحو النشاز أو الخروج الفني على السائد من تقاليد تشكيلية لأن هذه الأعمال بذلك إنما تخدم قضية الحرية بشهادتها على ما يتحمله الفرد مرغما في العصر الحديث أو (العصر الليبرالي) حسب تسميته, وإذا كان لوكاتش قد هاجم أدب الطليعة لأنه يؤدي في رأيه إلى إجداب الواقع وإمحال الحقيقة الإنسانية ويؤدي إلى تحلل الشخصية وتفسخ الشكل الفني (كما سبق), فإن أدورنو يرى أن إدخال التغريب الجمالي والاستسلام أمام الواقع المعاصر العاتي, إنما هو أمر يفرضه الاتجاه الخاص بطبيعة الشكل الروائي ذاته, فيقول: (إن إدخال المسافة الاستطيقية إلى الرواية الحديثة, وفي الوقت نفسه استسلامها أمام الواقع البالغ القوة الذي لا يمكن, بعد, تغييره إلا بطريقة ملموسة وليس عن طريق نقله إلى الصورة, هو مقتضى يفرضه الاتجاه الخاص بالشكل الروائي ذاته) (97) ولا يبرهن أدورنو على صحة زعمه هذا, كما أنه لا يربط هذا الاستنتاج الأخير بدعوته السابق إيرادها حول ضرورة أن يكرس الفن الروائي نفسه لاكتشاف (ما هو جوهري وما هو غير جوهري).
غير أن ما يجمع أدورنو ولوكاتش, رغم ذلك, هو حصرهما مشكلة الشكل السردي الروائي في كونها مشكلة صياغة للرؤية الفنية للعالم, ومن هذه الرؤية بتنوعها, تتنوع أساليب السرد أو الصياغة الفنية, ومن هنا يوجد أسلوب السرد الطليعي الذي هاجمه لوكاتش وبرره أدورنو, والأسلوب الطبيعي الذي يعتبره لوكاتش النقيض الملتحم (رغم ذلك) بالأسلوب الطليعي, والأسلوب الواقعي النقدي الذي يعتبر عند لوكاتش الأسلوب الأمثل لطرح رؤية أكثر عمقاً ونفاذا وغنى للإنسان والعالم, وأخيرا الأسلوب الواقعي الاشتراكي الذي ينطلق من منظور الواقعية النقدية محاولا ولوج مستقبل هذا الواقع وهذا الإنسان بطرح إمكانيات وعوامل التغيير الكامنة داخلهما.
على نحو مغاير تماما تأتي معالجة البنيويين لقضية السرد الروائي, فمنذ أبحاث (فلاديمير بروب) الذي درس عددا كبيرا من الحكايات الخيالية الروسية (التي جمعها فيسيلوفسكي) أصبح من الواضح أن الأساس الدلالي للنص يحدد بنيته السردية, وهذا يعني عمليا أن اختيار بعض الأضداد الدلالية مثل كبير – صغير, طيب – شرير, حقيقة – كذب ,... الخ, يحدد توزيع الأدوار الفاعلة في القص مما يؤدي – في رأي زيما – إلى أن تصبح (هذه العملية لا تعدو كونها تعريفا وظيفيا (للبطل) في مواجهة (البطل الضد) و(المساعد) بالمقارنة مع المعارض .. الخ) (98) إن هذا الاستنتاج يحدد ما يطلق عليه البنيويون (مستوى الوظائف) و(مستوى الأفعال) وهما المستويان اللذان لا يمكن أن يكتمل أثرهما إلا في إطار ما يسميه بارت (مستوى السرد) وهو وصفي كسابقيه, حيث يقوم على مهمة تحديد موقع السارد مداخل الرواية, ومنه نصل إلى أنماط السرد المختلفة.
فكما أن (أنا) و (أنت) في التواصل اللساني يفترض كل منهما الآخر, فإن الرواية حسب بارت لا يمكن أن تكون بدون راو أو سارد, كما أنه لا يمكن أن نتخيلها بدون قارئ أو سامع, وهو أمر وإن بدا بديهيا إلا أنه قد استثمر – حسب بارت - استثمارا سيئا, من حيث إنه قد استقطب الاهتمام لدراسة المؤلف ونسج الأساطير حوله, بينما تم إهمال الطرف الآخر, حيث يرى بارت أنه لا أهمية لدراسة دوافع المؤلف ولا في الآثار التي يمكن أن يتركها النص في القارئ, وإنما الأهمية الحقيقية تكمن في وصف النظام الذي يكون فيه للراوي والقارئ معنى على طول القصة (99) فالعلاقات الدالة على السارد تبدو مرئية وواضحة أكثر من العلامات المتجهة نحو القارئ التي هي علامات أكثر مراوغة, بيد أنها تقوم بوظيفة مهمة في تحقيق التواصل القائم على الاتفاق المضمر الذذي يعقده النص مع القارئ, وهي تلك الوظيفة التي يسميها (جاكو بسون) الوظيفة الغيبوية للإيصال) (100) وسوف أركز فيما يلي على علامات السارد باعتبار أنها علاقة أوثق بموضوع البحث في هذه النقطة.
حتى ندخل إلى عالم التحليل البنيوي للسرد ينبغي علينا ألا نخلط بين الكاتب والسارد.. فالسارد ليس أبداً بالكاتب.. لكنه دور مخلوق ومتبنى من طرف الكاتب". أو أن "السارد شخصية من خيال مسخ فيها الكاتب". (1.1) فهو شخصية متخيلة أو "كائن من ورق". كما يقول بارت, شأنه في ذلك شأن باقي الشخصيات الروائية الأخرى, يتوصل بها المؤلف ويؤسس عالمه الحكائي لتنوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابة الأيديولوجي, وأيضاً ممارسة لعبة الإيهام بواقعية ما يروى, ومن هنا فإن الخطاب السردي يأتي على هذا النموذج الذي وضعه . هامون وأورده "بوطيب عبد العالى"
في دراسته المشار إليها:
السارد = شخصية رقم (1)
شخصية رقم (2), مرسلة عارفة – موضوع – معرفة – شخصية رقم (3) متلقية غير عارفة
شخصية رقم (4) مسرود لها
حيث أن السارد هو شخصية فاعلة في الرواية حتى وإن لم ينص المتن على ذلك, مثله في ذلك مثل المسرود له أو المتلقي الذي هو قائم جوهرياً, لأنه هو الذي يمنح السرد (من حيث كونه خطاباً) مشروعيته التي تتطلب بالضرورة وجود مخاطب, وإذا كانت العلاقة بين السارد والمسرود له يحكمها المتن الحكائي أو الموضوع – المعرفة, حسب النموذج السابق, فقد استولى هذا المتن على اهتمام البنيويين باعتباره حجر الزاوية في العملية الحكائي, جنباً إلى جنب مع الطرفين الآخرين, على حساب الشخصية الرابعة (المسرود له) التي لم تجد الاهتمام المناسب لها حتى الآن, حسب بارت.
إن المتن الحكائي باعتباره خطاباً أيديولوجياً أو "أيديولوجيم" . بتعبير جوليا كريستيفا – لابد أن يحتوي على "وجهة نظر" Point Vew وهو مصطلح طرحه الروائي والناقد الإنجليزي هنري جيمس في أواخر القرن التاسع عشر. (1.2) حيث لعب هذا المفهوم دوراً كبيراً في النظرية الأدبية وتطبيقاتها, على السواء. من ناحية أنه يستلزم من الروائي أن يعرض الأشياء من وجهة نظر معينة, وهو ما يفصل أو يحدد الشخصية التي توجه – برؤيتها – المنظور السردي . ومن ثم, تحديد كينونة السارد أو "الذي يرى" وعلاقته بمن "يتكلم" كما يقول جينيت.
وأتصور أن هذا المصطلح, بهذا المعنى, له علاقة على النحو ما بمصطلحى "المنظور" و "رؤية العالم" اللذين قابلناهما عند كل من لوكاتش وجولدمان (على القرابة الكائنة بينهما). غير أن استخدام هذا المصطلح عند البنيونيين (كما تقول أنجل بطرس سمعان) "دلالات متعددة منها:
إنه قد يعني فلسفة الروائي أو موقفة الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك.
وقد يعني – في ابسط صورة – في مجال النقد الروائي, العلاقة بين المؤلف والرواي وموضوع الرواية". (103)
وقد تجلت هذه الميوعة, في معنى المصطلح, في تعدد نماذج السردية التي طرحها جيرار
جنيت في كتابه "وجوه 3" Figures III , بدءاً مما طرحه الناقدان كلينيث بروكس وروبرت بن وارين عام 1943, فيما أسمياه ببؤرة السرد Focus of Narration كمقابل لهذا المصطلح "وجهة النظر". وكذلك جهود الناقد الألماني ف.ك, ستانزل التي طرحها عام 1955 ونظيرة نورمان فريدمان في العام نفسه, حتى نصل إلى أحداث هذه الجهود في هذا الصدد فيما طرحه جون بويون في كتابه "زمن الرواية" Le temps du roman" وتزفيتان تودوروف تصور بويون الذي يتمثل في طرح نظام لمظاهر النص, وهو الذي اعتمده تودوروف مع تغييرات بسيطة, ويتفرغ تصور بويون إلى ثلاثة أنواع محددة:
1- الرؤية من الخلف
وهي التي تستخدم غالباً في الأعمال الكلاسيكية, حيث تكون معرفة السارد أكثر من معرفة البطل, دون أن يهتم هذا السارد بإعلامنا بالطريقة التي حصل بواسطتها على هذه المعلومات, فهو كمن يبصر من خلال جدران المنازل بنفس القدر الذي يعرف ما يجول في خواطر أبطاله, ولا يوجد سرد إلا ويعرفه, إن هذا الشكل يظهر بالطبع بدرجات مختلفة ومناح متعددة, لكنها بصفة عامة تبرز قدرة الساردة على معرفة كل شيء, سواء الرغبات الكامنة لدى بطله والتي قد لا يعرفها البطل نفسه, أو معرفته بأفكار وخواطر أبطال عديدين في الوقت ذاته, أو في النهاية قدرته على رواية الأحداث التي لا يمكن أن يحيط بها بطل واحد.
2- الرؤية المصاحبة
وهذا الشكل منتشر بكثرة في الأدب في العصر الحديث, بصفة خاصة, حيث لا يعرف الراوي أكثر مما يعرفه الأبطال, ولا يستطيع أن يقدم لنا تفسيراً للأحداث قبل أن يفسرها الأبطال أنفسهم, ومن هنا تبرز سمات مهمة حيث يمكن أن تروى الرواية التي جاءت على هذا المنوال بضمير المتكلم أو بضمير الغائب, سواء بسواء, ولكن في كل الأحوال تروى حسب الرؤية التي يملكها شخص واحد للأحداث (والنتيجة بالطبع لا يمكن أن تكون واحدة من الناحية الدلالية, غير أنه من المفيد أن أشير إلى أن فرانزكافكا, قد كتب روايته "القصر" بضمير المتكلم ثم حولها بعد فترة إلى ضمير الغائب ولم يغير هذا الأمر شيئاًُ من بقائها في مجال الرؤية المصاحبة, وتمكن هذه الرؤية السارد من أن يتابع بطلاً واحداً أو أبطالا عديدين في نفس الآن, كما أنها تتيح إمكانية تشريح عمليات التخيل والنوازع الداخلية للأبطال في حالة استخدام ضمير المتكلم مثلما الحال بالنسبة لقطاع كبير من روايات وليام فولكنر.
3-الرؤية من الخارج
وهى الوضعية الثالثة حيث يعرف فيها السارد أقل من جميع أبطاله (وبالطبع هذه الرؤية لا علاقة لها بمصطلح متشابه استخدمه لوكاتش في تناوله للواقعية النقدية وأوردته فيما سبق). عن السارد في هذه الرؤية لا يفعل أكثر من أن يصف لنا ما نراه أو نسمعه تماماً مثل الكاميرا السينمائية, فهو عاجز عن النفاذ إلى أي من ضمائر أبطاله. إن الاستعمال الفعلي لهذه النقطة لم يظهر إلا في القرن العشرين. وهي تعبير عن تنازل السارد عن وضعية الإله العليم ببواطن الأمور الذي رأيناه في الرؤية الأولى (الرؤية من الخلف) إلى أدنى درجة ممكنة, وذلك تحت وطأة ما أسفر عنه العصر التكنولوجي من نواتج قبلت الكثير من أشكال اليقين, مما أدى إلى استحالة الانحياز أو القطع الكامل بصحة أو خطأ شيء أو أحد.
فالسارد هنا شاهد لا يعلم شيئاً ولا يزيد أن يعلم, لذلك فإن تودوروف يرى أن هذه الوضعية, وإن كانت تحول إيهامنا بأنها تنحو نحو الموضعية, إلا أ، موضوعيتها لا يمكن أن تكون مطلقة مهما حاول صاحبها ذلك. وهو الأمر الذي يؤكده بارت راصداً, "أن هناك انقلاباً مهما نشأ عن شعور الجمهور القارئ بأن أحداً لم يعد يكتب الرواية". ويقوم هذا الانقلاب على تصور انتقال القصة من نظام تأكيدي محض إلى نظام أدائي يكون بموجبه معنى الكلام هو فعل النطق به نفسه, وقد أشرت إلى ذلك في صدر هذا البحث, ولهذا فإنه يرى: "أن جزءاً من الأدب الروائي المعاصر لم يعد وصفياً ولكن متعدياً ويحاول أن يستكمل في الكلام حاضراً نقياً, بحيث يطابق الخطاب كله مع الفعل الذي يحرره, وما كان ذلك إلا لان الفعل الأول (لوجوس) كله ينسحب أو يمتد على المعجم". (104).
ومن هنا فالرؤية من الخارج عند بارت لا تعدو كونها استبدال الرواية بالفعل, والسرد بالكتابة أو النطق, دون أية محاولة للادعاء بمعرفة باطنية أو حقيقية مطلقة للأشياء والبشر.
يضيف تودوروف إلى هذه الأساليب الثلاثة أسلوباً رابعاً يسميه "بالرؤية التجسيدية" Steroscopique وهي متطورة عن النوع الثاني (الرؤية المصاحبة) التي لا يعلم فيها السارد أكثر مما يعلم الأبطال, وقد ذكر أن السارد يمكنه أن يتنقل بين أبطال عديدين, فإذا كان هؤلاء الأبطال يروون حادثة واحدة, فإن الأثر المتولد هو تجسيد هذه الحادثة من زوايا متعددة حسب تصوراتهم المتعددة التي تعطينا رؤية مركبة للحادث الموصوف.
إن تكرار وصف الحادث الواحد يمكن, فيما يرى تودوروف – من تركيز الاهتمام على المتلقي, لأننا على علم بخفايا الحكاية, وهذه هي الطريقة الفنية التي يفضلها فولكنر, كما نجدها عند نجيب محفوظ في رواية "ميرامار" حيث يتم التعامل مع وضعية واحدة من قبل عدة شخصيات مختلفة, كما يتم سرد الرواية نفسها مرات عديدة ولكن من وجهات نظر أشخاص مختلفين, ومن هنا فإن الحادث يكتسب أبعاداً أكثر غنى وعمقاً مما لو تمت روايته على لسان شخصية واحدة. ويرى تودوروف, في هذا الصدد إنه إذا كانت العصور القديمة تقوم على إيمان من نوع ما, بحقيقة مطلقة كلية, فإن العصور الحديثة تكتفي بروايات متعددة دون أن تدعي الوصول إلى زاوية واحدة, تعتبرها الصادقة عن ما عداها. (105) ومن هنا يأتي المعنى الذي تقوم عليه النهايات المفتوحة التي يمكن أن تقبل تأويلات متعددة.
وقد أورد رولان بارت نفس هذه الرؤى السردية في كتابة "مدخل التحليل البنيوي للقصة". حيث يدمج الرؤية الثالثة (الرؤية من الخارج) من الرؤية التجسيدية التي أضافها تودوروف, معاً, في رؤية واحدة, يطلق عليها "المفهوم الثالث". غير أنه يعلق على كل ذلك بقوله: "إنهما مفاهيم مزعجة". وذلك لأنها تبدو, وكأنها ترى في الراوي – السارد والفواعل شخصيات واقعية (حية) وأن مصداقية القصة تتحدد على أساس مرجعيتها الواقعية, وهو يختلف مع ذلك استناداً إلى تصوره عن الشخصيات بأنها "كائنات ورقية" (وقد أشرت إلى ذلك فيما سبق).
ومن هنا فإن بارت يقرر (متابعاً لبنفينست), أنه لا يعرف, في مجال الرواية إلا نظامين من نظم الأشارات, مثلما في ذلك مثل اللغة: شخصي وغير شخصي, ولا يتعلق هذان النظامان بالضمير (أنا) أو (هو) اللذين قد يستخدمان في السرد, فهناك قصص تستخدم الضمير الثالث (هو) يمكن قلبها بسهولة إلى الضمير الأول (أنا) (وقد أوردت قبل مثال كافكا الذي ذكره تودورف). ولذلك فإن بارت يعلق نجاح هذه العملية على كونها لا تؤدي إلى هدم الخطاب, باستثناء أنها تغير الضمائر الرئيسية المستخدمة, فإذا تم ذلك فإن الخطاب يبقى في نفس النظام الشخصي القائم عليه. أما إذا دخلت الأفعال المحايدة مثل "بدا" "ظهر".... إلخ, فإننا ننطلق إلى النظام اللاشخصي, وهوالدرجو التقليدية في القصة, (106)
غير أن تودوروف يحتفظ بكلا الطرفين ويربطهما على نحو أكثر تفصيلاً وتحديداً, فإذا كانت رؤى السرد, حسبما تقدم, تتأسس على الطريقة التي وقع بها تصور الحكاية من قبل السارد, فإنها تستدعي الوقوف على تصنيف آخر ألا وهو يطلق عليه "صيغ الحكاية" Modes du recit من زاوية اهتمامها بالطريقة التي يعرضها بها السارد. حيث تنقسم هذه الصيغ إلى نوعين: الأول يقوم على مقولة إن الكاتب "يبرز" أو يقدم لنا الأشياء, أما الثاني فإنه يقوم على أن الكاتب يكتفي بقوله. ومن ثم, فالصيغة الأولى هي صيغة التقديم أو التمثيل La representation, أما الصيغة الثانية فهي صيغة السرد La narration, وهما تتصلان ضمنياً بمبدأي: "الخطاب" و"الحكاية" حيث يفترض تودوروف في هذا المجال, أن هاتين الصيغتين الموجودتين في القصة المعاصرة تقودان إلى أصلين مختلفين "السيرة" La chronique , و"المأساة" La drama .
فالسيرة أو التاريخ – حسبما يعتقد – سرد صرف يكون الكاتب فيه مجرد شاهد ينقل الأحداث, أما الأشخاص فإنهم لا ينطلقون. وبالتالي فإن قواعد هذا النوع هي قواعد هذا النوع هي قواعد النوع التاريخي نفسه. أما في المأساة, فإنه على العكس لا تنقل الحكاية أو تسرد, وإنما تعرض أمام أعيننا, فيتم تضمين الحكاية في ردود الأشخاص.
إن هذه الحالة تستدعي التفرقة بين كلام الشخصيات وكلام الراوي, كما تستدعي الحديث عن الموضوعية والذاتية في الكلام. فإذا كان "السرد" يرتبط بكلام الراوي, و"التقديم" أو التمثيل يرتبط بكلام الشخصيات, فإن مظهرى الكلام هذين يحددان الذاتي والموضوعي, أو الشخصي وغير الشخصي, ومن حيث صيغ الخطاب, تصبح الصيغة إما تقريرية constative (موضوعية) , وإما إنجازيه performative (ذاتية). ويضرب تودوروف مثلاً على ذلك بجملة "خرج السيد من منزله في الساعة العاشرة من يوم الثامن عشر من شهر مارس". فهذه الجملة تكتس صيغة موضوعية واضحة, وهي لا تقدم أية معلومات عن السارد (أو المتلافظ كما يطلق عليه المترجم), باستثناء الإشارة إلى أن الحديث قد وقع بعد الزمن المذكور في الجملة, وعلى العكس من ذلك, فإن لبعض الجمل الأخرى دلالة تكاد تتعلق بالسارد (المتلفظ) فحسب, كأن يقول أحد الأشخاص "أنت جميلة" فهذه الجملة تدل على فعل قام به السارد, وهو فعل المجاملة, حتى وإن احتفظت الجملة نفسها بقيمة موضوعية تحت أي ظرف واقعي.
ومن هنا فالإطار العام للملفوظ هو الذي يحدد – في نهاية الأمر – درجة الذاتية بالنسبة إلى كل جملة, غير أن تودوروف يورد – استدراكاً لذلك – أن الذاتية قد تراجع في الكلام إلى المستوى الاصطلاحي, فالمعلومة ترد إلينا وكأنها صادرة عن البطل لا عن الراوي – السارد, في الوقت الذي لا نعلم فيه شيئاً عن هذا البطل, حيث يمكن هنا أن تنسحب على الكلام الراوي السارد ذي الصفة السردية التاريخية (الموضوعية)’ أما إذا تم استخدام الصور البلاغية أو صيغ التأمل, فإن السارد يتحول حينئذ إلى كائن واضح القسمات والمعالم, وبذلك يقترب من الشخصيات في ذاتيته.(107).
فإذا انتقلنا إلى جيرار جينيث, فإننا نجده يستبعد مصطلحي "الرؤية". و"وجهة النظر" لما لهما. في اعتقاده. من طابع بصري Visuael ويستبدلهما بمصطلح التبئير la facalization الذي استلهمه من مصطلح بؤرة السرد Focus of narration للناقدين بروكس ووارين. ولذلك فإن جينيت يطلق تسمية محكي غير مبوأر recit non focalise, أو تبئير في درجة الصفر Cofalization Zero . كمقابل لمصطلحى بويون وتودوروف: الرؤية من الخلف, والسارد الشخصية. بينما يسمى الرؤية المرافقة التي يكون فيها السارد مساوياً للشخصية من حيث المعرفة. "بالمحكى ذي التبئير الداخلي" le recite a focalization interne وهو يقسمه – من ثم – إلى ثلاثة أنواع:-
محكي ذو تبئير داخلي ثابت recit a focalization intene fixe والنموذج المثالي الذي بجسده هو رواية السفراء les ambassadeurs لهنري جيمس التي يقول عنها لويوك: "إن جيمس في السفراء لا يخبرنا بقصة عقل ستريزر, إنه يجعل هذا العقل يتحدث عن نفسه, انه يمسرحه". (108) لأنه يعرض كل شيء من خلال شخصية واحدة, وهو الأمر الذي يحصر مجال الرؤية في الشخصية الرئيسية التي يقع عليها التبئير, في مقابل تسطيح باقي الشخصيات.
محكي ذو تبئير داخلي متنوع Recita Focalization interne muliible, والنموذج المجسد لهذا النوع هو رواية مدام بوفاري Madame Bovary لفلوبير G.Fluber, حيث يبدأ السرد مبوأراً على شخصية شارل Cahrles ثم ينتقل بعدها إلى شخصية إما Emma قبل أن يعود من جديد ليركز على شخصية شارل.
محكي ذو تبئير داخلي متعدد recita focalization interne multible, وهو ما نجده في روايات الرسائل حيث يتم عرض الحدث الواحد مرات عديدة ومن وجهات نظر شخصيات مختلفة. كما هو الشأن في رواية علاقات خطرة Dangeruses les liaisons
أما حالة "الرؤية من الخارج", حيث السارد أقل معرفة من الشخصية فيسميها جينيت بـ "المحكي ذي التبئير الخارجي" les resit a focalization externe كبعض روايات هيمنجواي (رواية "القاتلة" (على سبيل المثال), حيث نتابع حياة وسلوك الشخصيات خارجياً مع السارد, دون أن نتمكن من ولوج عاملها الداخلي لنتعرف على ما لديها من عواطف. (109)
يتضح لنا الأن مقدار التركيز الهائل الذي مارسه البنيوين على قضية الشكل السردي وإيلاؤهم جهوداً كبيرة من أجل تصنيفه ووضع النماذج الطامحة لاستيعاب مختلف تبايناته.
ولقد أثرت هذه الجهود ف نقادنا العرب الذين حاولوا وضعها موضع التطبيق في مجال دراسة الرواية العربية. وهنا يجدر بنا أن نذكر جهود الأستاذ الدكتور/ صلاح فضل التطبيقية في كتبه "شفرات النص". 1990 و"إنتاج الدلالة الأدبية" 1993, غير أنها بلغت أوجها من حيث التركيز والتأصيل في كتابة " أساليب السرد في الرواية العربية" 1992, حيث يحاول إثبات إن النقد العربي قادر على التعامل مع المفاهيم النقدية الجديدة وتطبيقها على النصوص الروائية المحددة, ورغم أنه يدعو هنا إلى أن يقتصر البحث المنهجي التجريبي الذي يقوم على الرسوم ولجداول البيانية "المجافية بطبيعتها للحس الفني والتذوق النقدي لألوان الشعرية المتفاوتة" على الدوائر الأكاديمية والجامعية لتكوين قاعدة معرفية ونظرية صلبة, إلا أنه لا يعزلها عن الممارسة النقدية التطبيقية للأعمال الإبداعية المتجددة, بل يدعو إلى أن "تنطلق منها وعلى هديها الممارسات النقدية العامة التي لا تفقد بهجة المصاحبة الحميمة للنصوص بمنطق الأدب ولغته الأثيرة". (110)
وهو بذلك يحل مشكلة صعوبة لغة النقد الحديث واستعصائه على القارئ العادي. من حيث إنه يسعى إلى استخلاص عدد من المؤشرات الدالة تسمح بإقامة تصنيف نوعي جديد يتيح رصد الأساليب السردية, طارحاً أن هذه المهمة لا تتم إلا بالانتقال من مرحلة التنظير وطرح المناهج إلى ما يسميه "بالعملية الجدلية" المتمثلة في التطبيق العملي على نصوص بعينها عبر الإنتاج الروائي في الثقافة العربية "حيث يمكن تشغيل آليات القراءة والتأويل والتصنيف, ومقاربة الإبداع بحس تركيبي أيضاً, يبتعد عن الحرفية المدرسية في تشغيل المفاهيم, محاولا الإنصات لإيقاع النص الحميم واكتشاف خصوصيته في الوقت الذي يمسك به (الناقد) بخواصه النوعية التي تجمعه مع غيره في أسلوب واحد". (111) وهو في هذا الصدد يقترح ثلاثة أساليب سردية رئيسية في الرواية العربية:
1- الأسلوب الدرامي
"ويسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعددة من زمانية ومكانية, ثم يعقبه في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة المقدمة".
2- الأسلوب الغنائي
"تصبح فيه الغلبة للمادة المقدمة في السرد, حيث تتسق أجزاؤها في نمط أحادي يخلو من توتر الصراع, ثم يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع".
3- الأسلوب السينمائي:
(ويفرض فيه المنظور سيادته على ما سواه من ثنائيات ويأتي بعده في الأهمية الإيقاع والمادة).
غير أن الأستاذ الدكتور/ صلاح فضل يؤكد – إلى جانب ذلك – أنه لا توجد حدود فاصلة ولا قاطعة بين هذه الأساليب, إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان, ويختلف تقدير العنصر المهيمن من قراءة نقدية إلى أخرى, مما يجعل التصنيف غير مانع بالمفهوم المنطقي, كما أنه يرصد بعض الخواص التي يمكن أن تخرج عن العناصر التي تمت ملاحظتها في هذا التصنيف, وتتوزع على نحو ما في بعض مناطقه, مما قد يوهم بتكوين أسلوب مخالف, وذلك مثل الصبغة الملحمية المتجسدة في عدد من الروايات العربية, نتيجة لهيمنة المادة الروائية على العناصر الأخرى, مما يجعلها شديدة القرب من الأسلوب الغنائي, غير أن ذلك بذاته يؤكد أن التصنيف غير مانع, وهو لذلك يؤكد أن جهده في هذا الكتاب ما هو إلا محاولة أولية تصبو إلى تمثيل الواقع الإبداعي والتعبير النقدي (المتمثل للنظرية والواعي بالأطر النقدية) عن خصائصه السائدة,. إن هذه المحاولة التقريبية الجادة للدكتور/ صلاح فضل, وإن لم تدع لنفسها الكمال, إلا أنها تعد في طليعة الأعمال التي عالجت الإبداع الروائي العربي عبر وعي عميق ورصين بالنظرية النقدية المعاصرة, كما أنها تمتاز عليها بأنها لا تجعل النص في خدمة النظرية. (112)
وإنما تجعل النظرية معينا وعاملا منشطا, ومشروعا مقترحا لفهم النص, فلا تكون قيدا عليه, بل مدخلا لفهم عالمه.
استخلاص
لقد اتضح مما سبق تركيز النقد الاجتماعي على العناصر المنتجة للنص الروائي, وفي الوقت نفسه الدور الاجتماعي (وربما السياسي) المتوخي كأثر ينبغي أن يهدف النص إلى أن يبثه. كما أنه يتعامل مع آليات البناء النصي وجمالياته الخاصة لكن بدرجة تقل كثيرا عن عنايته بالعنصر السابق, بينما اقتصر البنيوي (في معظم معالجاته) على تناول النص في ذاته دون النظر إلى أية علاقات أو صلات بين النص وخارجه , ومن هنا فإن لدينا اتجاهين يقفان على طرفي نقيض, أحدهما يقف على النص الروائي من الخارج والثاني يقف عليه من الداخل. وبالطبع نتج ذلك عن اختلاف رؤيتهما الفكرية للعالم والإنسان بصورة جذرية.
غير أنه تبين وجود اتجاه ثالث يمكنه أن يجمع ميزات الاثنين معا, ورغم أنه لم يكتمل بعد ويصبح من القوة بحيث يقف كاتجاه مستقل, إلا أنه يمتلك من الإمكانات ما يجعله قادرا على بلورة أطروحاته واستكمال صياغة مقولاته, ذلك هو الاتجاه الذي يمثله ميخائيل باختين بصفة خاصة, وكذلك لوسيان جولدمان في بنتيويته التكوينية, خاصة أنه – بحكم المنهجية التي ينطلق منها – يسعى إلى توظيف إمكانيات كلا المنهجين معا. ومن المهم الإشارة إلى ما ألمح إليه بيير زيما في كتابه (النقد الاجتماعي) من إمكانية أن يستخدم النقد الاجتماعي وعلم اجتماع النص علم الدلالة البنيوي في تقديم النصوص النظرية والأيديولوجية مثلها مثل النصوص الأدبية بواسطة نماذج فاعلية, متتبعا محاولات جريماس في هذا الاتجاه, غير أنه يرى أنه من المحال الاكتفاء بالتطبيق الآلي للهيكل البنائي الذي اقترحه جريماس, حيث يحتاج علم اجتماع النص في رأيه لكي يتمكن من شرح البني الفنية في سياقها الاجتماعي, إلى مفاهيم لغوية وسيميوطيقية أخرى لا توجد في علم الدلالة البنيوي, مع أخذه ببعض المفاهيم الأساسية الموجودة عند جريماس مثل مفهوم (الفاعل) أو النظير الدلالي Isotopie Semantique (113) وهو ما يؤكد في تصوري أهمية دراسة كلا الاتجاهين, حيث يمكنهما أن يوفرا معا إمكانيات هائلة تستطيع إضاءة العمل الروائي من الداخل ومن الخارج معا, ولكن حتى تتسق الرؤية فلابد من إقامة أو تطوير منهج يقوم بهذه المهمة المتكاملة دون أن يكون منقسماً على ذاته من الناحية الفكرية العامة, وأتصور أن جهود باختين وجولدمان يمكنهما أن يمثلا أساسا معقولا جدا لهذا الطموح.
الهوامش
1 – أنظر:بيير زيما،النقد الإجتماعى،ترجمة عايدة لطفى،دار الفكر،القاهرة – باريس 1991 ص99
وقد طرح ذلك فى معرض حديثه عن مشكلة علم اجتماع الشعر،قائلا "لقد شكلت حديثاً جوليا كريستيفافى كتابها ثورة اللغة الشعرية ..سيميوطيقا اجتماعية للنص الشعرى ،بتقديم التغييرات التى تطرأ على مستوى الكتابة،بإعتبارها عمليات اجتماعية ونقدية وإجتماعية"
2 – انظر:رامان سلدن ،النظرية الأدبية المعاصرة،ترجمة جابر عصفور،دار الفكر،القاهرة،1991،ص125.
ولتأكيد ذلك يرى سلدن أنه:"من الممكن تلمس بدايات الحركة المضادة للبنيوية التى انطوت عليها ما بعد البنيوية فى نظرية دى سوسير اللغوية نفسها"
3 – أنظر: د.صلاح فضل،منهج الواقعية فى الابداع الأدبى،مؤسسة مختار،القاهرة 1992ص97وما بعدها ،كما أنه يرى فى موضع لاحق،من الكتاب نفسه،أن مفهوم الواقعية فى الأدب وعلم الجمال "وهو المغذى الذى يمكن ان نسحبه على مجمل الإتجاه الاجتماعى فى النقد" يند عن الحصر المذهبى الضيق ويتسع لتأويلات عديدة تثريه وتخصب حقله"ص257
4 – لمزيد من التوسع انظر: د.عبدالمنعم تليمة،مقدمة فى نظرية الأدب،دار الثقافة القاهرة 1973ص3
5 – لوسيان جولدمان،المادية الجدلية وتاريخ الأدب،دراسة ضمن كتاب "البنيوية التكوينية والنقد الأدبى"مؤسسة الأبحاث العربية،بيروت،1984ص13
6 – نفسه ص13
7 – د.عبدالمنعم تليمة ،مرجع سابق ص4
8 – نفسه ص4
9 – انطونيو جرامشى،فكر جرامشى،مختارات جمعها كارلوس سينارى وماريوسيبيلا،تعريب تحسين الشيخ على ،دار الفارابى بيروتدزت،ص251
10 – جورج لوكاتش،معنى الواقعية المعاصرة،ترجمة أمين العيوطى،دار المعارف القاهرة 1971،ص98-99
11 – بيير ماشيرى،لينين ناقدل لتولستوى،مجلة فصول،يونية1985،ص148
12 – انظر:د.صلاح فضل،النظرية البنائية فى النقد الأدبى ،مؤسسة مختار،القاهرة1992ص23-333
13- تزفيتان تودوروف الشعرية،ترجمة شكرى الميخوت ورجاء بن سلامة،دار تويقال،الدار البيضاء،ط2،1990،ص23
14- رولان بارت،درس السيميولوجيا،ترجمة عبدالسلام بن عبدالعالى،دار تويقال،الدار البيضاء،ظ3،1993،ص36
15- نفسه ص36
16- جورج لوكاتش،معنى الواقعية المعاصرة ،مرجع سابق،ص68،ص69
17 – لتعمق الفارق بين المحاكاة والانعكاس،انظر د.صالح فضل،منهج الواقعية فى الأبداع الأدبى،مرجع سابق ص111وما بعدها
18-رولان بارت،درس السيميوويولوجيا،مرجع سابق ص37
19 –جوليا كريستيفا،علم النص ترجمة فريد الزاهى،دار تويقال،الدار البيضاء،1991،ص36
20 _بارت ،درس السيميويولوجيا،مرجع سابق ص38
21 – نفسه،ص50
22 – نفسه ص38
23 –نفسه،ص40
24 – نفسه ص 86
25 – نفسه ،ص87
26 – رولان بارت،الدرجة الصفر للكتابة،ترجمة محمد برادة،الشركة المغربية للناشرين المتحدين،الرباط،ط3،1985،ص31
27 – نفسه،ص91
28 – جورج لوكاتش،كتابات جمالية،دار كوشوط،بودابست 1985،ص635
29 – نفسه،ص636
30 –نفسه ،ص637
31 – نفسه،ص 638
32 – جورج لوكاتش،دراسات الواقعية،ترجمة نايف بلوز،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،بيروت،ط3،1985،ص5
33 – لوسيان جولدمان،مشكلات علم اجتماع الرواية،ترجمة خيرى دومى،فصول صيف 1992،ص39
34 – محسن جاسم الموسوى،عصر الرواية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة،بالاشتراك مع دار الشئون الثقافية،بغداد 1986،ص27
35 – محمود أمين العالم،الرواية بين زمنها وزمانيتها،فصول،ربيع1993،ص14
36 – نفسه،ص15
37 – جورج لوكاتش،دراسات فى الواقعية الأوربية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة ،1972،ص270
38 – نفسه،ص27
39 – رولان بارت،الدرجة الصفر للكتابة،مرجع سابق،ص51
40 – نفسه،ص49
41 – نفسه،ص50
42 – نفسه،ص56
43 – نفسه،ص57
44 – جوليا كريستيفا،علم النص،مرجع سابق،ص36
45 – نفسه،ص31
46 – نفسه،ص35-38
47 – تزفتيان تودوروف ،مقولات الحكاية الادبية،مجلة العرب والفكر العالمى،ربيع1990(لم يذكر اسم المترجم)
48 – جورج لوكاتش،معنى الواقعية المعاصرة،مرجع سابق،ص18
49 – نفسهص18،19
50 – نفسه ص21
51 - نفسه،ص23
52 – نفسه،ص24
53 – نفسه،ص26
54 – نفسه،ص28
55 – نفسه،ص29
56 – نفسه،ص30
57 – جورج لوكاتش،دراسات فى الواقعية،مرجع سابق،ص25
58 – نفسه،ص28-29
59 – نفسه،ص29
60 – نفسه،ص29
61 – نفسه،ص30
62 – انظر:جورج لوكاتش،دراسات فى الواقعية الأوربية،مرجع سابق،ص28
63 – لوسيان جولدمان،المادية الجدلية،وتاريخ الأدب،مرجع سابق،ص17
64 – نفسه،ص31
65 – نفسه،ص36
66 – نفسه،ص37
67 – ميخائيل باختين،الخطاب الروائى،ترجمة محمد برادة،دار الفكر،القاهرة،باريس،1987،ص103
68- نفسه،ص102
69- جوناثان كوللر،شعرية الرواية،ترجمة السيد امام،ابداع سبتمبر1995،ص112
70- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, مرجع سابق, ص 106
71- د. صلاح فضل, نظرية البنائية, مرجع سابق, ص 425 – 426 ولمزيد من التفصيل حول مفهوم (النموذج) أو (النمط) وتاريخ استخدامه في النقد الأدبي, انظر كتابه (منهج الواقعية في الإبداع الأدبي), مرجع سابق, كم ص 139 حتى 162
72- د. صلاح فضل, نظرية البنائية, مرجع سابق, ص 426
73- نقلا عن: رولان بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, ترجمة منذر العياشي, مركز الإنماء الحضاري, بيروت, 1993, ص 63
74- نفسه, ص 64 , وأرى هنا خطأ في الترجمة, فالأصل المكتوب كالتالي (قد عرف الشخصية بوصفها كائنا وليس بوصفها مشاركا) والمعنى بذلك لا يتسق ومرامي البنيوية وبارت بالذات, وقد أكد لي صحة تصوري ورود نفس هذه العبارة عند جوناثان كوللر بالمعنى الذي أوردته في المتن, أي بتقديم المشارك على الكائن . (كوللر, مرجع سابق, ص 114)
75- انظر: زيما النقد الاجتماعي, مرجع سابق, ص 179 – 180
76- نقلا عن بارت, مدخل إلى التحليل, مرجع سابق, ص 65
77- نقلا عن كوللر, مرجع سابق, ص 15
78- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, مرجع سابق, ص 106, وكذلك رولان بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, مرجع سابق, ص 66
79- بارت, نفسه, ص 67
80- كوللر, مرجع سابق, ص 115
81- بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, سابق, ص 67
82- كوللر, سابق, ص 117
83- بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, سابق, ص 66
84- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, مرجع سابق, ص 106
85- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 29
86- نفسه, ص 131 – 132
87- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 82
88- لوكاتش, معنى الواقعية المعاصرة, سابق, ص 39
89- نفسه, ص 66
90- لوكاتش, تاريخ تطور الدراما الحديثة, شركة فرانكلين, بودابست, 1911, الجزء الأول, ص 71 (بالمجرية), Lukacs Gyorgy, Amodern drama fejlodesenek Tortente, Frankline Trasulat, Budapest, 1917 , I kotet, VI oldal
91- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 97
92- نفسه, ص 94
93- نفسه, ص 89
94- جورج لوكاتش, أهمية الواقعية النقدية اليوم, دار الآداب, بودابست, 1985, ص 140 (بالمجرية) Lukas Gyorgy, Alritikairealizmusjelentosegema, szepirodalmikonyvikiado, Budapest, 1985, 130
95- تيودور أدورنو, وضعية السارد في الرواية المعاصرة, ترجمة محمد برادة, فصول صيف 1993, ص 92
96- نفسه, ص 95
97- زيما, مرجع سابق, ص 179
98- بارت, التحليل البنيوي, سابق, ص 70
99- نفسه, ص 71
100- بوطيب عبد العالي, مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي, عالم الفكر, يونيه 1993, ص 33
101- نفسه, ص 35
102- انجيل بطرس سمعان, وجهة النظر في الرواية المصرية, فصول, العدد رقم 2, 1982, ص 103
103- لمزيد من التفصيل, انظر: بوطيب عبد العالي, سابق, ص 36 – 39
104- بارت, التحليل البنيوي, سابق, ص 77
105- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, ص 111
106- بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, سابق, ص 72 – 74
107- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, ص 112 – 13/
108- رينيه ويلليك, أوستن وارين, نظرية الأدب, ترجمة محيي الدين صبحي, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ط2, 1981, ص 235 – 236
109- لمزيد من التوسع, انظر:
– د. صلاح فضل, بلاغة الخطاب وعلم النص, المجلس الوطني للثقافة والفنون, الكويت, 1992, ص 299 – 312
– د. صلاح فضل, النظرية البنائية في النقد الأدبي, مرجع سابق, ص 435 – 440
110- د. صلاح فضل, أساليب الرد في الرواية العربية, دار سعاد الصباح, القاهرة, 1992, ص 8
111- نفسه, ص 10
112- انظر كتابي سعيد يقطين:
تحليل الخطاب الروائي, المركز الثقافي بيروت, الدار البيضاء, 1989
انفتاح النص الروائي, المركز الثقافي بيروت, الدار البيضاء, 1989
113- بير زيما, مرجع سابق, ص 180 – 181