شعرية الهزيمة والرفض عند أمل دنقل (٢)
القناع هو العلامة المستقاة من شخصيات الماضي أو الحاضر ، الحاملة لدلالات رمزية معروفة سلفا ومحل اجماع الوعى الثقافى المميز للجماعة، مثل قناع صلاح الدين أو المتنبى أو الصوفى أبو بشر الحافى .. الخ. وهو ما يتقنع به الشاعر وكأن المتحدث هو هذه الشخصية التراثية. وهو ما يؤدى الى اسباغ ما اختزنه الوعى الثقافى عن الشخصيية التاريخية على المتحدث وعلى الحالة المطروحة. مما يطرح حالة من المقارنة الضمنية. والتى تخلق، بدورها، نوعا من المفارقة الحادة، من خلال ابراز الفوارق الفادحة بين الموقفين والحالين. ويعرف الدكتور جابر عصفور "القناع" بأنه : "رمز يتخذه الشاعر العربى المعاصر، ليضفى على صوته نبرة موضوعية، شبه محايدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، دون أن يخفى الرمز المنظور الذى يحدد موقف الشاعر من عصره".(1)
ونفهم من ذلك أن القناع يقوم على استدعاء لشخصية تمثل كيانا دلاليا محددا، محملا بدلالات ومعان معروفة سلفا, من خلال وجودها التاريخى أو الثقافى, وجعل هذه الشخصية تتحدث بلسان عصرها وزمانها، معلقة على واقع عصرنا وزماننا نحن. فإذا بحديثها, الذى يمكن أن يكون قائماً على استدعاء عالمها معها, يكشف, من خلال المفارقة القائمة على التباين, عن فداحة الواقع المعاصر. حيث نجد أنفسنا أمام التقاء عالمين على قدر هائل من التناقض والاختلاف, على غير مايقتضى المعتاد من الأشياء والوقائع, بما يكشف عن اتساع الشقة بين ما كان عليه الواقع العربى, وماهو عليه الآن. ليطرح, على نحو تلقائى, ما كان يمكن أن يكون عليه الواقع ولكنه، لأسباب عديدة، لم يكن .. ومن ثم يتولد الاحساس بفداحة المأساة.
إن القناع إذن يقوم على فكرة استدعاء النقيض ليكشف نقيضه، أو استدعاء الشخصية التاريخية ذات الملامح الايجابية المحددة المعروفة تاريخياً، لتقوم بدور المفجر الذى يقوم بفعل تعرية الوضعية التى تنتظم الواقع المعاصر من خلال التجاور المفضى ضمنيا الى المقارنة. دون الحاجة إلى كتابة ذلك على نحو تقريرى. حيث يؤدى هذا الربط بين الواقع الحالى وواقع الشخصية المستدعاة الى احداث نوع من المفارقة الساخرة الفائقة الدلالة.
ولقد قسم الدكتور على عشرى زايد هذه المفارقة التى يسميها ب .. "المفارقة ذات المعطيات التراثية" إلى قسمين رئيسيين :
الأولى هى .. "المفارقة ذات الطرف التراثى الواحد", والثانية هى "المفارقة ذات الطرفين التراثيين".(2) وفى الأولى يتم استدعاء الشخصية التراثية وجعلها تتحدث بلسان الحاضر، وفى الثانية تتحدث بلسان واقعها وملابساته الماضية، لكن بما يجعلها تطل من طرف غير مباشر على الواقع المعاش, مما يحدث نوعا من المقابلة المزدوجة بين القناع وواقعه الماضى, من ناحية, وبين الشاعر وواقعه المعاصر, من ناحية أخرى. دون أن يعنى ذلك التطابق المباشر بين أى من الواقعين أو الشاعر والشخصية المستوحاة.
وربما كان من أشهر الأقنعة التى استدعاها أمل دنقل, قناع "سبارتاكوس", إلى جانب أقنعة: "أبى موسى الأشعرى" و"المتنبى" و"الزير سالم" و"اليمامة", كما سبقت الاشارة.
فإذا توقفنا عند نموذج "سبارتاكوس", نجد هذه البنية المشهدية المرتكزة على واقع الشخصية التاريخية المعروف والمحدد سلفا. إنها مشهد شنق سبارتاكوس (أو صلبه كما تقول كتب التاريخ), ذلك الذى قاد ثورة العبيد فى العصر الرومانى وأقام دولة, لم تدم طويلا, فسرعان ماقضى عليها الرومان. وكان أن تقرر مصيره على النحو المعروف. وهاهو يقول كلماته الأخيرة كما يصرح عنوان القصيدة.
تبدأ القصيدة "بمزج أول", كما يسميه الشاعر (وهو ما يعنى أنه يعتمد على عدة وحدات تشكيلية وحدثية ويجرى مزجها ببعضها البعض, وهذه هى الوحدة الأولى), بما يعد بمثابة تقدمة درامية, أو(برولوج) اذا استخدمنا لغة الدراما. يقدم لنا من خلاله الواقعة والموقف الذى (سنشاهده) فيما يلى:
"المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال لا فى وجه من قالوا نعم"
ومع هذا المفتتح الصادم, الذى يقوم بدور التهيئة والحشد لحواس المتلقى, فان الشيطان هنا ليس مقصودا باعتباره عاصيا أو مارقا, وانما باعتباره ممثلا للثورة الحالمة المقضى عليها بالفشل, لأنها قامت ضد من لاقبل له بالانتصار عليهم. وتأتى عبارة "معبود الرياح" لتشى بمعانى الاقصاء والنفى فى العراء , ولتؤكد العاقبة التى أدى اليها فعل الاعتراض الذى يمثله الشيطان على نحو كلى سابغ. (وأمل دنقل فى حديثه الايجابى ذاك عن الشيطان, يجرى على عادة عدد من الشعراء الرومانتيكيين الذين استوحوا شخصية الشيطان فى شعرهم, ولعل من أشهرهم جوتة وليرمونتوف وعباس محمود العقاد).
إننا إذن أمام محاولة لتمجيد الاعتراض والمقاومة, فى حد ذاتهما, وبصرف النظر عن الخصم الذى قامتا فى مواجهته, أو النتائج المترتبة عليهما. ففضيلة الشيطان الحقيقية, عند الشاعر, هى مجرد الاعتراض, على النقيض من الكثرة الراضية (من قال لا فى وجه من قالوا نعم). فالاعتراض والمقاومة وحدهما هما اللذان, على الرغم من معرفة العواقب سلفا, يحملان معنى النبالة والثبات, فضلا عن كونهما قادرين على انقاذ المرء من "العدم والفناء". وعلى الرغم من أن "البقاء", عبر المقاومة والاعتراض, يمكن أن يكون مؤلماً, فانه سيكون ألما مجيدا وشريفا:
"من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال لا فلم يمت
وظل روحا عبقرية الألم "
وربما كان المقصود أن الشيطان وان هزم فى المواجهة فانه فد تحول الى فكرة (روح) تتجول وتتفاعل مع الوجود, ولا يهم بعد ذلك أن تكون فكرة لعينة أو روحا رجيمة متألمة.
وبعد ذلك يأتى "المزج الثانى" الذى أظنه البداية الحقيقية للقصيدة، بوصف مشهدى واضح:
"معلق أنا على مشانق الصباح
وجبهتى بالموت محنية
لأننى لم أحنها حية."
ها نحن قد دخلنا إلى صلب الحالة التى يحاول الشاعر بناءها تشكيليا, ألا وهى أن انتصاب الجبهة – الكرامة والاباء - فى الحياة يؤدى إلى احنائها بالموت عندما يعلق على المشانق، وهو ما يجعل من الموت محصلة ونتيجة حتمية ومباشرة للإباء والمقاومة. وهى, عنده, محصلة حتمية ولا يمكن تجنبها.
ولكننا نلاحظ أن هذا "الموت" ليس موتا حقيقيا,كاملا أو نهائيا, فهاهو سبارتاكوس لايزال يحيا من خلال حديثه الذى يوجهه الينا, والى رفاقه بعد قليل, وان لم يبارح المشنقة منذ ذلك الزمان. فيقوم, بذلك, على تمثيل الصورة الذهنية الجاهزة عن تضحية سبارتاكوس. ولعله بذلك أيضا يعيد تمثيل صورة الشيطان المعترض الذى لم يمت (رغم اعتراضه) و.."ظل روحا عبقرية الألم". فالألم "العبقرى" يمكن أن يعنى ذلك الألم النبيل المجيد (كما سبق القول آنفا), ألم الفادى والمخلص, والذى يمتد بأعماقه الغائرة فى التاريخ. انه ألم بروميثيوس الذى كتب خلوده, عندما سرق نار الآلهة من أجل الانسان التعس. وهو كذلك ألم المسيح الذى كتب الخلاص والفداء للبشر. وهو الألم الذى به خلدت الذاكرة الثقافية شخصية الحسين وجيفارا, وكافة الثوار مجترحى التضحية. وجميعهم صاروا خالدين ملهمين وكأنهم يحيون بيننا.
بيد أن موت سبارتاكوس يكتسب ,عند أمل دنقل, معنى اضافيا, فهو يتم بأن يبقى معلقا على "مشانق الصباح", وهذ (الصباح) لايمكن فهم دلالته الحقيقية, الا عندما يقول:
"يا إخوتى الذى يعبرون فى الميدان مطرقين
منحدرين فى نهاية المساء
فى شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إلى"
حيث نلاحظ هذا التقابل بين "الصباح" و"المساء", بما يجعلنا أمام بنيتين زمنيتن متضادتين, تؤرخ كل منهما الى عالمين مغايرين فى زمنين مختلفين. ف(الصباح), هناك, هو الزمن البدئى – الزمن الأول التاريخى، فى مقابل (المساء) الذى يمثل, هنا, الزمن المتأخر, الراهن, بقرينة حداثة لفظة "الميدان" و"شارع الإسكندر الأكبر", وهى مسميات واقعية معاصرة. وهو ما يعنى أن المأساة ممتدة منذ الأزل وحتى الأبد, فالرؤوس مطرقة, والسير يتجه نحو الاسفل (منحدرين), والخذلان يصبغ الجميع, ربما لأنهم لم يكونوا على مستوى التضحية الهائلة التى قدمها سبارتاكوس المشنوق.
أما معنى "الأزل" فقد حققه الايحاء بقدم (بكسر القاف) التضحية وقدم الاستبداد، أما "الأبد" فهو ما يحدده سبارتاكوس – القناع – بقوله التالى:
" لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت : قيصر جديد
وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى
ودمعة سدى ".
إن هذا الطرح - النبوءة قد يتناقض, على نحو ما, مع ما قدمناه قبل قليل فى "برولوجه" الذى بدأ به القصيدة, تحت عنوان "المزج الأول", وهو:
"من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال لا فلم يمت
وظل روحا عبقرية الألم . "
بيد أن نبوءة أمل دنقل – سبارتاكوس, السابق الإشارة إليها والتى يبنى عليها, بعد ذلك, الطلب الى رفاقه بأن يعلموا ابنه "الانحناء" ويكررها ثلاثا, إنما هى نبوءة المفارقة، وليست نبوءة الحقيقة المباشرة. إنها نبوءة الظلم القديم المستمر. فإذا كان الظلم القديم قد واجهه الاعتراض القديم، فإن الظلم الجديد سوف يواجهه اعتراض جديد هو الآخر. من هنا تصبح عبارة: "علموه الانحناء"! موحية, فى الحقيقية بعكس معناها المباشر. فهو يعقب ذلك, مباشرة, بقوله بأن العقاب العبثى لم يعد من نصيب الأبطال الأباة, مثل "سيزيف", (وهو معترض ورافض آخر ينتمى الى الميثولوجبا اليونانية الأقدم) بل من نصيب الضعفاء والأرقاء:
" سيزيف لم تعد على أكتافه الصخرة
يحملها الذين يولدون فى مخادع الرقيق"
بما يعنى أن الأحرار هم وحدهم المنذورون بالانعتاق, أما العبيد الخانعون (من يولدون فى مخادع الرقيق) هم الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولذلك فإنه يطلب من رفاقه أن يقبلوا زوجاتهم لأنهم سينتهون مثله غدرا، أى أنهم, حتما, سيثورن ولن يستطيعوا الصبر على الذل:
"فالانحناء مر
والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى."
وعلى هذا النحو ستتوالى المقاومة والرفض, وفى الآن نفسه, سيتوالى والانتقام والموت.
ومن هنا يمكن أن نفهم المزج الثالث بأكمله الذى يقدم فيه سبارتاكوس اعتذاره إلى قيصر:
" يا قيصر العظيم : قد أخطأت أنا أعترف".
من حيث انه يقدم مقلوب الحالة, وعكس المنطق, بما يعد سخرية من الرفاق المطرقين محنيى الرؤوس والمتسربلين بالخوف المشوب بالخجل . وهو أيضا ما يمكن أن يحشد مشاعر المتلقى الى جانب هذا الثائر المغدور. كما ان اعتذار سبارتاكوس هذا يمكن أن يكون ترجيعا على فكرة المأساة العبثية التى تغلف واقع القمع والعدالة المعكوسة, وتعميقا لفكرة الظلم الكونى الممتد عبر الأزمنة.
وهو ما يسلم الى (المزج الرابع), الذى انتظر فيه وصول (هانيبال), سدى, بينما "قرطاجة تحترق":
"لكن (هانيبال) ما جاءت جنوده المجندة
فأخبروه أننى انتظرته .. انتظرته ..
لكنه لم يأت !
وأننى انتظرته .. حتى انتهيت فى حبال الموت
وفى المدى "قرطاجة" بالنار تحترق
"قرطاجة كانت ضمير الشمس : قد تعلمت معنى الركوع". ... الى آخر القصيدة (3)
وهانيبال, هنا, قد يمثل الرمز الذى يمكن أن يحيل الى بعض القادة العرب الذين نصبوا من أنفسهم مخلصين ومحررين, بينما هم لا يقدمون سوى السراب الخادع ولا يستطيعون حماية أوطانهم, (حسب رؤية الشاعر).
انها, اذن, تلك السخرية العدمية السوداء, التى تشكل تقنية متكررة فى هذه القصيدة وفى شعر أمل, بصفة عامة. والتى لايقل عنها تكرار الألفاظ الذى نلمسه فى كل حين. فهنا, يتم تكرار عبارة: "انى انتظرته", وكذلك عبارة: "قرطاجة تحترق", وقبل ذلك فى .. "رأيت فيما يرى النائم", و .."رأيتها". بما يفيد الحضور العاطفى والنفسى الطاغى, والانهمام االشخصى الذى قد يبلغ حد الهوس والهذيان.
هكذا تتجلى استراتيجية أمل دنقل الشعرية فى تلك المراوحة المخاتلة الأسيانة بين ثنائيات مستحيلة: فضيلة الرفض, وعبثية المقاومة. الشر العتيد القوى, والمخلص الثائر المهزوم!!.
وهكذا يقوم قناع سبارتاكوس بحشد عدد كبير من الدلالات التى تبدو متعارضة, لكن يوحد بينها حالة رثائية للذات والعالم, على حد سواء.
إن رؤية أمل فى هذه القصيدة إنما هى رؤية ثائر جريح يحاور فيها وضعية الصراع الأبدى بين الفرد والسلطة, حيث تحتل السخرية, ذات النبرة الرثائية الأسيانة من فكرة القمع, الموقع البؤرى فى بناء القصيدة.
ولنلاحظ أن هذه القصيدة, التى كتبت عام 1962, قد سبقها ما عرف فى مصر "بأزمة المثقفين" التى أعقبت حملات الاعتقال عام 1958 والتى حولت السلطة المصرية فى ذلك الوقت إلى سلطة ملتبسة, تبدو على العكس مما كان منتظرا منها, ومن هنا حقت نبوءة القيصر الذى لايموت الا لكى يخلفه قيصر جديد وكذلك نبوءة هانيبال, المخلص المهزوم, الذى لايحقق تحريرا لروما, بل يتسبب فى احتراق قرطاجة نفسها.
الهوامش:
جابر عصفور (دكتور)، أقنعة الشعر المعاصر، مجلة فصول، يوليو 1981، ص123 .
علي عشرى زايد (دكتور)، عن بنا القصيدة العربية الحديثة، مكتبة دار العلوم، القاهرة، 1978، ص 145 ومابعدها.
الأعمال،ص 128