«أحفاد العروس» للقاص كريم عباس زامل
بدءاً بمقدمته التي تعد فصلاً تاريخيا يطفو عليه نعش الوطن في أيام كانت تشتد ضراوة ورعباً، التاريخ الذي أبتدئه القاص المبدع (كريم عباس زامل) في مقدمته لكتابه القصصي (أحفاد العروس) المطبوع في سوريا، دار تموز للطباعة والنشر وعلى نفقة مجلس محافظة البصرة، يعد أسطورة للدال والمدلول لرجال وقفوا أمام التيار الهادر والنزيف الدموي وهراوات المتخاذلين والقابعين وفي أقبية النظام الوحشي الدكتاتوري!
هذا الحلم والملكوت الذي كان يتملكه القاص ويؤمن به إيماناً كبيراً جعله يتذكر ويخط مقدمته التاريخية لأبناء جيله الذين سجل معهم أروع موقف ما يزال يدق أبواب التأريخ الذي يتذكر أمثالهم ممن وقف بوجه التيار وأشهروا سيوفهم واقلامهم بوجه الظلم أنذاك إيماناً منهم بأن الظلم دائماً ما يكون نهايته الخسران والفناء وتظل راية الحق خفاقة على ربوع وميادين العظماء وتأريخهم الشاهد والمصور لحالات الوطن الجريح في كل زمان ومكان!!
إرهاصات القاص كريم التي تسير حافية الأقدام على مسامير الأعداء وأشواك الحاقدين مصممة الوصول إلى جرف الأمان والسلام، استطاعت بصمودها الذي ارعب الدخلاء على التفنن بمحاولات التعذيب والقتل والفناء، منحته إيماناً راسخاً ودلالة واضحة في استعارة عقله الشارد وراء الأحداث والحضور الكوني والتفتح على نشر أقاح الزهور المتفتحة في أيام الخوف والهروب من عيون الرقيب الأمني يوم ذاك!!
تثير قصص مجموعة القاص كريم هذه مجموعة من الدلائل والشواهد النقدية التي تفنن بها أبداعياً وأنسن مفرداتها بعفويته الجنوبية الراسخة وأسلوبه المبدع على ذكر وتسطير هذه الدلائل وصورها وحسب تسلسلاتها ومداخلاتها التاريخية ومواقفها البطولية أمام شراسة السلطات الفاشية آنذاك.
هذه الدلائل تتوزع في فكره الشارد بين الإحساس بالحب والحنان لتلك الأرواح البريئة التي ذابت في أحواض تيزاب النظام الفاشي ومقاصل إعداماتهم، وبين العزلة المفروضة عليه وجماعته التي ما زالت تلبس أردية الدروب الظليلة القابعة بالخوف والإرهاب وملاحقات العيون التي تسربلت بالعيش الرخيص والذلة بين أحضانهم.
عبر هذه الرموز السحرية وفك مدلولاتها ندخل هذا الميدان في ظلال أروقة مملكته القصصية للبحث معاً عن مداخل لحل تلك الإرهاصات والخوض فيها للوصول السليم إلى الحلول الناجعة لتلك الاستعارات الرمزية في قصص المجموعة!
في قصته الأولى (وجوه ضائعة) وعبر رموزها الدالة على الضياع والرحيل في صحراء صامتة الحصى والتلال ومطاردة الخوف والعزلة والعنف الجماعي الذي يلتصق بأجسادهم الدبقة أثناء طوافها في مداخل نهارات من الأسى والملاحقات والخوف من العيون الشرهة، عبر هذه المدلولات الصامتة كصحرائها والشاحبة ببعد الحياة عنها يسعى القاص المبدع أن يطوف مع كل ذرة رمل من رمالها ليكتب سمفونية الحياة ويعزفها للقارئ المتلمس ويشدو بكينونته الأبدية التي ترتسم أمام مخيلته التي أتعبتها السنون والحياة القاسية ضمن خصوصيات التعسف الذي لا يعي للحياة من معنى!
في فكره الرابض في مداخل الأحداث وما يريد أن يتوصل إليه في مغالق قصته الجميلة وهو يتسلسل عبر متاهاتها وشجوها وبؤسها وإرهاصات فؤاده الظامئ لما بداخله من الخوف والعزلة لمجتمعه وشعبه الذي يأن ألماً في أتساع شروده الدامي عبر صحراءه القاحلة، والتي يختمها بوجه أمه التي تكتسح الأرض كما يقول:
(( أرى عبر المسافات وجه أمي تكتسح الأرض وتنشر بين طياتها بذوراً سوداء ناعمة تخرجها لنا بعد سنوات..)) ص 21
وهو يتحسس قراءة التقاسيم الحادة في تجواله الداكن بين رموز قصته و وجوهها الضائعة يتميز القاص كريم بعبوره الشجي الذي يألفه في خضم هذا التجوال بين الدهاليز المظلمة التي تبتلع كل شيء لديه!
فمن حيدر إلى مرثية أبي رحلة شاقة يبديها لنا القاص عبر متاهات سفنه وهي تمخر عباب البحار المظلمة حيث ينتهي إلى أرض لا يعرف عن مدلولها ولا عن أهلها ولا ماهيتها التي تبدو له خالية من كل شيء!!
ويحدو القاص حداءه الأخير عندما ترك دفاتره فوق سياج المدرسة واتجه إلى جهة غير معلومة، إنه يبحث عن شيء مفقود بنظره، يبحث عن صورته التي اباح للزمن أن يبحث عنها، بينما أخذته الرياح بعيداً في أصقاع لا يعرف شماله من جنوبه، إنه يبحث عن ماذا ؟ لا يدري!
لقد خسر كل شيء كما يقول:
((.. خسرت كل شيء، الجثة ومذكرات البحر الأخيرة، والدليل الوحيد لربان السفينة .. )) ص 32
وفي أوراقه المتناثرة حوله في مكان تعلوه الرطوبة ولزوجة البلاط والهواء المتعفن يعصف بروحه الموزعة حول فعاليات الأحداث والروائح المنبعثة من بين السطوح تسري في أسلاك دمه نحو فراديس من أحبهم وهم يعبؤون أرواحهم نحو الأبدية فيقول:
(( وهذا هو حواري الأخير، لم يتملكني الخوف، كان على يميني مهدي حسن نائماً هادئاً مطمئناً مذبوحاً بصمته))
ثم يبتهل ابتهاله الأخير حول نوافذ مراياه الصقيلة ويقول:
((إنها آخر أمنياته التي مات بها، ماتت سوزان، ومات مهدي حسن، ومات مهدي طه، ولم يحظر الفاتحة غير آخر العدميين))ص36
بهذه الترددات والصور المبدعة المكللة في مكنوناتها التعبيرية التي تنطلق بمستواها الخطابي والإنساني لما يكنه القاص من حبه المتوازن الذي يوزعه على رقعة وطنه المذبوح وهو يبحث عن إمكانات الخروج من سم الخياط الذي بات وليد هذا العمر الذي أوكله إلى عيون الأفاعي السامة التي تنطوي حول أعناق شعبه وأمته، فهو يبحث عن إشكالية تمكنه من حيازة الخطاب الواقعي الثوري الذي يبحث عنه لحل أزمات وطنه الجريح!!
من هذا الهيجان المرير والمخاض العسير يستجدي القاص المبدع إرهاصات عمره المكدود بين مطاردة لئام العصر الذين يريدون به وبشعبه الدمار والموت، وبين آلام أهله ومحبيه تحت هراوات الجلادين.
فالتحديد هنا لم يأت اعتباطا، بل جاء وليد حياة شاقة عاشها يوم بيوم وساعة بساعة، عليه انحدرت نصوصه وعبارات قصصه الجميلة التي هي وليدة مداخلات عصيبة وساعات رهيبة مرًت عليه وهو يتحسس خيوطها وخلجاتها!
هذه الإرهاصات والشبق الذي ألفه القاص ومنحه السحر الذي يرسمه في خيوط وأوراق قصصه الجميلة ربما زاده قوة غامضة تمحورت في هذا السجال العنيف بينه وبين مداخلاته في الذكرى والحياة المريرة الشاقة، وهذا ما يشبه الاعتراف الحقيقي بتلك الحقبة الزمنية القاسية التي عاشها وزملاءه بين جلادين عصره!
أنظر كيف يرسم لنا كريم هذا الألم واللوعة التي يغص بها قلب القارئ وهو يلج عودة الزعفران من منفاه إلى وطنه الذي تغرب عنه، ذلك الألم الذي يهيم به عبدالوهاب محمود وذكراه في محلته البجاري، تلك البويتات التي تحتشد في ذلك الزقاق الذي عاش وترعرع في أيام نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي آنذاك!
وهو يسلسل حالات الرعب والموت والتعذيب التي عاشها متنقلاً وزملاءه بين خفراء السجون بوجوه مصفرة وعيون غائرة، حيث تحتشد تلك الأجساد الخاوية في قطارات الشحن تطويها الفراسخ عبر المجاهيل ، يأخذك وأنت تقرأ هذه الحالات التي يدونها في مفكرته ذات الجلد الأنيق كما يقول، إلى عالم مصيري أخطبوطي أحاط بيديه ورجليه حول أعناق المثقفين من أبناء وطنه الجريح، وفرض التشرد القسري والإهمال والجوع والمرض للرابضين في دهاليز الخوف والعتمة!
بهذه الهوامش والسياق الذي يشكل به القاص هذه المداخلات وأسرار هذه الثلة من المناضلين الذي عاش معهم وألف نواياهم وشاركهم حتوفهم بتلك التصورات والخطوط التي يقدمها للقارئ على طبقه الذهبي لكي لا تنسى تلك الأيام العصيبة واللوعة الدامية التي عاشها أبناء شعبه وأمته!
في جل قصص هذه المجموعة الجميلة (أحفاد العروس):
(( سور سليمان، فوبيا الأيمو، النوخذة، الشاهدة 10، صورة أدهم، مستشفى المجانين)) وغيرها من القصص الأخرى في المجموعة يأخذك القاص كريم في سفرته الشاقة هذه، إلى عوالم تحس بها عوالم بعيدة تضج بمآسي الزمن الموبوء بالعزلة والتشرد وسلطنة وجبروت أناس لا تعي للحياة ولا لإنسانية من معنى، ويرسم لك صخب الاحتجاج والتذمر ووجع ا
لأنكسار، هذه الرغبة في البحث عن كشف تلك الحالات المؤلمة والحياة البائسة التي عاشها وشعبه ضمن حقبة كبيرة من عمره، أراد بها القاص أن يضعها أمام القراء لكي لا تنسى هذه الأيام الوخيمة بأوجاعها ومساحاتها المحملة بالمرض والجوع والإرهاب!
بهذه المداعبات القصصية الجميلة أراد مبدعها أن يمارس قسوة مفرطة لمواجهة هذا السيل من الظلم والاستهتار، ويضع خطوط بينة لمواجهة تلك الحالات السامة، أرى بتقديري المتواضع أن هذه المجموعة التي زاوج فيها القاص غنائية التشكيل والتركيب السحري الذي ينقلك به إلى عوالم من الدهشة والاستبصار للبحث عن حلول لتلك المأساة التي عاشها شعبه في العقود الثلاثة المنطوية تحت حكم الجلادين وأن يضع لنا خيوط الاستدلال لمواجهة أي ظلم يعتري شعبنا!
لا أريد أن أستمر في تشريح جسد هذه المجموعة الجميلة بقدر ما أريد أن أوجه أنظار القراء إليها والتنزه في حدائقا الفواحة بعطر الزهور، والله أسأل أن يوفق الجميع لحمل راية الوطن عالياً خفاقة على ربوع الخير والمساواة ونبذ التفرقة العنصرية التي هي سلاح أعدائنا هذه الأيام!!