ذكريات العمر
ترجل من سيارة الأجرة القديمة التي أنهكته طوال الطريق بضجيجها ودربكات الطريق الممزق والمجدور بالحفر وأكوام الصخور والأزبال!
أتكأ على حقيبة أسماله الممزقة شارداً بفكره في الفضاء يتعقب المارة بعينين غارقتين تيبس الدمع عليهما وهو يهم بالسؤال، لكنه متردد بين الحين والحين، يسأل نفسه: كانت هنا في هذا المكان بالذات بساتين كثيفة تحتشد على جانبي الطريق، كانت مثمرة والأرض خضراء تتخللها الأنهار!
الهي أين ذهب كل هذا؟
هل أخطأت المكان؟
لا أنه هو بملامحه لكنه لا يلبس حلته السابقة، أين ذهبت بهجته؟
تائها لا يدري ما يفعل، يصمت قليلاً وهو يبتسم مع نفسه مردداً أنها ليست بالقليل، سنين من الغربة بعيداً عن هذا المكان الذي ألفته وذابت روحي بين ذراته وتخثرت في رغوت طين أنهاره وبساتينه، بعيداً عن أهلي وأخوتي الذين فارقتهم منذ اشتداد الحرب واستفحال الموت، وفرار الأرواح إلى ملكوت السماء، عندما اشتدت ْ على شعبنا النكبات وظلم الطغاة من الحكام المتعسفين بأحوال هذا الشعب الجريح!
سنين عديدة حملت معها كل آلام الغربة والشوق والخسران!
ينعى نفسه ببعض ما كتبه هناك عن قريته وناسها، آلاف القصائد والمقالات التي جمعها أيام غربته عنهم، أنها ملفوفة مع نديف الدموع الذي طالما ذرفته العيون وهي تتذكر كل شيء في قريته الجميلة !
أيام لا طائل لها أن تمتد وتلقي بثقلها على عمره الفاني هناك، وهو يستدرك أيامه الأخيرة ويستنشق ذكرياته مع صبية القرية وشبابها وطلاب مدارسها!
عبَر وجهه صوب دجلة الغناء الممتد شمالاً وجنوباً وراح يتأمل تفرعه وانحداره نحو شط العرب، وشجرة آدم المنتصبة بأغصانها الغليظة اليابسة على ساحله في الجهة التي يربض عليها قضاء القرنة بصخبه وصخب باعته في الأسواق.
داعبت خياله المتعب خيالات بعيدة، تذكر فيها جلساته مع اًصدقاء العمر في المدرسة وعبثهم في الشوارع عند انتهاء الدوام، ثم دربكاتهم على سطح (البلم ) عند العبور إلى الضفة الأخرى التي ترقد عليها قرية (مزيرعة) وهي مسبلة الجفون كأنها تغنج للسماء الصافية ونسيمها العذب، تذكر كل شيء السباحة في النهر والغوص فيه ومشاكسة الفتيات وهن َ يغسلن الأواني والملابس، ثم غبشه منذ الفجر إلى البساتين ومناورة الأصدقاء ومسابقتهم على ظهور الخيل والألعاب الرياضية الأخرى، حامت روحه وهي ترفرف على كل الأشياء التي ألفها في قريته التي ترعرع فيها!
سالت بعض من دموعه وهو مطأطأ الرأس صامتاً يختلس النظر من خلال زجاجتي نظارته الطبية إلى الدرب الشاحب الممتد نحو فراغ يراه بعيداً وهو يروم الولوج فيه والبحث عن بيوت القرية التي أمامه وهي منتشرة هنا وهناك كالجدري على الأرض اليابسة، أسترسل بالتفكير سائراً نحو الأمام يحمل أثقال وزره على ظهره محاولاً التوجس وتذكر الأشياء التي ألفها سابقاً علَه يستدل على شيء مما يراه لكنه لم يستطع في خضم هذا الخراب والدمار الذي أمامه، من جذوع منطوية على بعضها بلا رؤوس وسواتر ترابية وبقايا من هياكل محروقة لمدافع ودبابات وخيال يعتصر القلوب تذكر شواهده على أيام الحرب والدمار والموت،
يبحث عبر فضاءات ممتدة أمام ناظريه عن دليل يستدل به على مكان بيته هناك، لكنه بعد جهد ليس بالقليل وجد نفسه ماثلاً أمام خربة من ديار ترقد على حافة الطريق وعجوز متسربله بالسواد واقفة على فنائها تومئ له وترتسم على محياها الشاحب ابتسامة صفراء، يتبادل معها السلام والشكوى، أنها من بقايا بعض ما ألفه هنا في قريته الجميلة.
تدمع عيناه وينطوي حاملاً نفسه المتهالكة على أقدار الغربة راحلاً إلى ألمه وذكريات العمر من جديد!!