أسفل الباب الموصد
(إلى كل من سقط من غير ذنب)
سيكون المشهد مهيئا ـ برصاصاته الثلاث ـ لاستعادته دائما وروايته عشرات المرات بألمٍ طفولي بالغ من قبل ولدي .. ذي السنوات السبع.
في الحلم ، أو في ما يشبه الحلم ، كنت اسمع نشيج الأزقة وارى ما انتابها من ظلال قاسية تجيد تشويه الملامح ، فاحدّث نفسي بان أصحو ، بل لا بدّ أن أصحو!! ، لكن كلما فتحت عينيّ أجدني ألجُ في كابوسٍٍ جديدٍ لا يؤمن بالنهايات!!
خرجتُ من المنزل بعد غياب الشمس بساعة تقريبا ، هاجس ما همس في داخلي أن هذه هي ليلتي الأخيرة ، وتردد في رأسي ـ لحظتها ـ أصداء القتل الذي باتت صوره مثل كوابيس يراد لها أن لا تغادر حياتنا التي لم تعد آمنة ، القتل غير المبرر أو لأسباب تافهة في أحيان كثيرة .. فقلت في نفسي: لا غرابة في أن أكون يوما ما ـ ربما اليوم ـ واحدا من بين تلك الجثث التي لا يعرف قاتلها..
لا اعرف لِمَ خرجت ؛ إلا أن فراغ الأزقة ورائحة صمتها الليلي المفزع بدءا يغذّيان فيّ هواجس الخوف ، حتى رابت في مخيلتي صور مقترحة لنهايتي المجهولة .. صرت اخـرج من زقاق وادخـل في شارع كأنّي أهيم باحثا عن غايةٍِ ما ، أو شـيء عزيز أفتقده..
الرصاصات الثلاث لم تقتلني بحرارتها بل منحتني متسعا لنظرة واحدة عرفت بها أن ولدي شاهد الجريمة كلها ، من خلال الفتحة السفلى ، هذا ما لمحته في وجهه ، وهو ما قتلني حقا.
سمعت كلاما أو همسا في منتصف أحد الأزقة ، لم يكن بمقدوري العودة ، شيء ما يدفعني لمواصلة المسير ، وشيئا فشيئا اتضح شابّان يقفان على الجانب ، اخذ حديثهما ينخفض كلما اقتربت ، كانت هواجسي على العكس منهما تماما ، لكأنّها ـ بضربة عصا ـ تنفجر انفجارا ، عبرت من أمامهما منتظرا لشيءٍ ما يخترق جسدي ، لكنه أبطأ عني!! .. أبطأ فأخذت ألوي رقبتي نحوهما ـ مستجديا ربما !! ـ حتى انعطفت فغابت ملامحهما الغائمة ..
ثيابي كانت تقطر خوفاً ، ويجللني ضباب الكوابيس التي غلّقت المعابر والأبواب كلها بوجهي ، فصرت أمشي وقد طار طائر الهدى عن رأسي وحطّ مكانه ضياعٌ أو نسيانٌ أو شيءٌ لا يشبه عينا ولدي الصغير أو انتظاره .. لكنه ، ربما ، يشبه فوهة تريد التهامي ، وهي تواجهني بغباءٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ
فاغر.
شققت الشوارع لا اسمع سوى خطوي وصدى خفقٍ غائر مخنوق، فجأة انكشفت الظلمة من حولي بضياء سيارة مقبلة، أشعلت في صدري نارا ضلت تتسع تتأججا.. حتى خَطَفَتْ بقربي فأزّتني أزّاً ، لكن ما رأيته فيها رجلان لم يعيرا لي أي اهتمام .. عندها سمعت صوت نيرانٍٍ صُبّ عليها الماء قاب قوسين أو أدنى من قرارتي.
سقطتُ واخذ الدم يصبغ ملابسي والأرض أيضا ، الأرض كلها اصطبغت بدمي ، لكن عيناي لم تفارقا وجه ولدي الظاهر من تحت الباب حتى بعد أن فـارقتُ الحياة .. بل رافقـتني صورته إلى أماكـن برزخية لم أعرفها من قبل.
صرت أحثّ السير نحو المنزل ، لا اعرف كم ابتعدت ، إلا أن المسافة بدت طويلة جدا ، تمنيت أن لا أرى أحدا أو عجلة في طريقي ، لكن هذا لم يتم ، فقد واجهتني سيارة ضلت تسير ببطء نحوي ، أبطأتُ أيضا وأخذت أتلفّتُ باحثا عن ملاذٍ أو بابٍ مفتوح ، فنهايتي باتت وشيكة !! ، لكن الأبواب كانت موصدة ، وهذا ما كنت أراه في الحلم أيضا ، وما أعرفه في صميم يقيني ، توقفتْ السيارة قبالتي وأطفئت أنوارها ، فشعرت بكفٍّ ضخمة لها أصابع قاسية تعتصر معدتي .. نزل منها شخصان وفتحا باب احد المنازل ودخلا !!. سحبت نفسا عميقا وأخرجت سيجارة ووضعتها في فمي ، لكنها ارتجفت حتى كادت تسقط ، زممت شفتاي عليها بقوة وأشعلتها علّها تحرق معي بقية الطريق ، لكن طعم دخانها بدا كأنه انبعث من أجساد أو ضمائر متفحمة..
عندما دلفت في زقاقنا شعرت بجبلٍ ينزلق عن موضعه ، فعدت لوزني الحقيقي تدريجيا .. وصلت أمام باب الدار .. توقفت قليلا استنشق هواء الليل المفعم بالقلق والهواجس الواخزة ، فرأيت قدما ولدي من الفتحة الصغيرة تحت الباب ، كان ينتظرني كعادته ، ناديته باسمه .. وقبل أن أراه يتمدد على البلاط النظيف ، سمعت من خلفي صوت دراجة نارية تحرث اللـيل بصوتها المـرعب ، ظننت أنها سـتسـتمر فاسـتدرت انظر إليها، لكنها توقفت !! .. توقفت بما يكفي لإطلاق ثلاث رصاصات قاتلة نحوي.
عند سقوطي رأيت عيني ولدي تلصفان كعيني قطّ خائف أسفل الباب الموصد.