اللعب بالضفادع
الليل يعبّد أخريات أحزانه السوداء، خالطاً صبابة عتمته بروائح المياه المكتظة بالقصب والرماد والطحالب.
نقيق الضفادع الفزعة يسطّر على صفحات المآسي حكاياتٍ صائتة .. ضفادع كثيرة تمزّقت، بلعت المياه بقاياها، وأخفت في تياراتها ما أسبغته عليها ـ لفترةٍ وجيزة ـ من ألوان دمائها وسوائلها المنسابة مع حمرة الدماء البشرية.
الشمس باقتراب شروقها تنذر النجوم، فتلوذ الأخيرة مختبئة خلف بقايا دثاراتها التي استحالت دخاناً أو رماداً، يشبه احتفاء القصب بالنيران في ليالٍ ساخنة، لن يستطيع غبار الذاكرة إخماد انبعاثاتها الدخانية.
يرسم الأنين ملامح صارخة.. الهواجس تمد خيوطا بين الموت والحياة … خيوط تنقطع مرةً لن تتكرر ربما بيسر تام. خَطَفَاتٌ ساخنةٌ تقول كلمتها ، وتبتُّ في لحظة ـ لم تكن ذات قيمة أحيانا ـ بالبقاء أو عدمه. النهاية تفرض قوانينها ، كأنها تنخر الحياة لتضع في قرارها تذكارات أبدية مؤلمة.
تحتضر حشود الدخان حول رأسه بانطلاق أول أسنّة الشمس من فم الأفق البعيد.. يستقبلها بحركة من يده على خوذته الترابية اللون ويتبعها بتمتمات خفيضة بالشكر والحمد على بقائه حياً.
ومع انبلاج الضوء التدريجي أخذ يشعر باتساع الحفرة التي احتضنته ـ مثل جنين ـ ليلة غائبة، بعد أن غادرتها جحافل الظلام وهواجس المتيقن من اقتراب نهايته.
تلفت انتباهه ضفدعة صغيرة تقبع قرب بسطاله المحمل بالأوحال، وظلال براءتها تنسحب على المشهد بصمت وسكون، مجترة ذكريات طفولية تبعث على الضحك. ربما لم تكن مشاكسة كالأخريات، عندما كنّ يملأن حديقة المدرسة ـ بِركة القصب الشتائية ـ بالنقيق والصخب. ليس كل الأطفال يطيقون اللعب بها، ربما نقصتهم الجرأة ، لكنه كان يبدي بطولة رجولية في قتلها.. يمسكها بكفه الصغير ويقذفها بقوة نحو الجدار.
جدار المدرسة الأبيض امتلأ في شتاءات عديدة ببقع من ضفادع مهشّمة ، مثلت بآثارها اللزجة ودمائها التي اصطبغ بها جدار الذكريات شواهد طفولة ممزقة… حَمَلَها من ضمن أشيائه القديمة عند مولده الجديد، كما حمل بندقيته وجعبة الأعتدة، تاركا الضفدعة التي شاركته ملاذه حبيسة الحفرة .. شيء ما منعه من إخراجها إلى فضاء الحياة معه، عندما سار على الرماد الذي ملأ المكان ، مثلما تغاضى عن رغبة قديمة ـ ربما جالت لوهلة ـ في رؤيتها تختلط بسوائلها تحت بسطاله الثقيل.
2003