أقنعة الراوي والبحث عن المدينة الغائبة
ثمة عبارة دالة لإيتالوكالفينو، يصدر بها (حسين عبد الرحيم) روايته (المستبقى): (المدينة شئ بالنسبة إلى من يمر بها دون أن يدخلها، وشئ آخر بالنسبة لمن يجد نفسه واقعاً في شباكها ولا يخرج منها...)،. تمثل هذه العبارة مدخلاً أولياً للولوج في جوهر الرواية، حيث تبدوالمدينة حاضرة بتنوعاتها المختلفة، وبأوجهها المتعددة، غير أن (حسين عبد الرحيم) في مدينته المبتغاة يظل باحثاً عن وجه المدينة/الحلم، فيفتش عن الوجه الغابر لـ(بورسعيد)، (المدينة/الرمز)، محققاً ارتحالاً زمكانياً بارعاً، يرتحل عبره السارد الرئيسي بين أزمنة فارقة (1956- 1967-1977- 2005)، وأماكن دالة: بورسعيد 77، بورسعيد 2005، القاهرة الآن، كاشفً عن قدرة واعدة في الإفصاح عن وجوه متعددة لذات المكان الواحد، فمثلاً بورسعيد 1977، حيث انتفاضة الخبز مغايرة بالكلية عن بورسعيد ما بعد 1977.
يبدأ الاستهلال السردي للرواية ملتحفاً بلغة شعرية: (ليس نداءً خفياً هوالذي ناداني..، ولا حنين لماضي تولى..، ولا هوعبث السبعة وثلاثين عاماً التي توارت..، أظنه الزمن.. الزمن وتراكمات التجارب وضيق المكان). ثم يتلوالاستهلال جملة سردية تتخذ من الاستفهام صيغة لها: "- لماذا الآن يا محمود؟!!" ليبدأ السرد التقليدي المخبر في بداية الفصل الأول والمعنون باسم (ديسمبر 2004)، والذي يفتش فيه السارد/البطل) محمود محمود طلخان( عن جثة "الأب"، فيبدأ الاستدعاء الماضوي لكل ما حدث عبر استخدام الفلاش باك، ولتبقى البداية مشرعة على عدد من الأسئلة: هل ما رآه الابن (محمود طلخان) بشأن جثة أبيه الغارقة، والمتناثرة شظايا، كان حقيقياً؟ إن إتكاء هذا الفصل على تقنية الحلم كان شكلاً من شكول المزاوجة بين الخيال والواقع، خاصة وأن النص تحدث فيه حالة من التماهي بين ما يعرف بالراوي الضمني والسارد الرئيسي، حيث يخبرنا الكاتب (حسين عبد الرحيم) عن عائلة تحوي عبد الرحيم السوهاجي وولديه (حسن)، (حسين)، وفي الآن نفسه يحمل البطل المركزي اسم (محمود طلخان) لتصبح حالة المراوحة بين (حسين عبد الرحيم السوهاجي) و(محمود طلخان البورسعيدي) مراوغة تقنية من قبل الكاتب منحته ديناميكية في الانتقال بين الماضي والحاضر، الواقع والحلم، وليصير (حسين السوهاجي) ممثلاً للحظة الراهنة بتداعياتها المأساوية وارتحالها الزمكاني القلق، ويصبح (محمود طلخان البورسعيدي) الشخصية المركزية التي تتماس مع اللحظة الفائتة والمالكة لحضورها الدال حتى لوبدا هذا الحضور واهناً في راهن يزداد تحولاً وتشابكاً.
ثمة موازاة بين زمنين يتجادلان داخل الرواية، أحدهما ماضوي، والآخر يعبر عن اللحظة الراهنة، ولعل من الأمور اللافتة داخل الرواية أن حضور الزمنين معاً قد يحدث في بعض المشاهد السردية في النص، مثل الحديث عن دخول (محمود) غرفة العمليات في اللحظة الحاضرة، وخروج الأهالي من بورسعيد أثناء التهجير (الماضي):
"-(تعال يا محمود)،
أزحف على ظهري البارد وأحاول الوقوف فيضغط الألم على صدري بأيادٍ غليظة وأصابع تطول الأقدام وتقيدها في مؤخرة التروللي، السفن بتزعق في الغاطس واللهب بيتعالى مصبوغ بلون الدم. وأهالي بتجري فوق الشط وتصرخ أمي وتعبر عربات نقل بتشيل (عزال)، ولوحات معدنية- قنال 3- قنال 15- قنال 7".
تتشكل الرواية من عدد من الفصول السردية مثل: (ديسمبر 2004- أصوات- المستشفى- غرف عمليات القاهرة- مفارق طرق- بورسعيد 1977-الليلة الأخيرة- قضية المعلم ضاحي- مالينا ومايكل وجاك- ديسمبر 2005)، ويلاحظ أن بعض الفصول السردية تبدوقائمة ومستقلة بذاتها حيث يمكن أن تتحول إلى قصص قصيرة، وهذا يفسر الترهل في البناء الفني في بعض المواضع داخل الرواية.
في الفصل الذي يحمل عنوان "أصوات" تهيمن تقنية التداعي الحر والتي نتعرف عبرها على عوالم مغايرة لدى السارد البطل (محمود طلخان) المعاون الإداري في إحدى المستشفيات والذي يقاوم الفساد بضراوة، لنرى فضحاً للأقنعة، وكشفاً للزيف الذي يظلل كل شئ،وتعرية لتلك العوالم الخبيئة (العوالم السرية بين الممرضات والأطباء، السرقات، تواطؤ الإدارة)، وفي ذلك كله نلمح حالة من الاغتراب تسيطر على البطل، وهذا ما يبدوفي توظيف المونولوج الداخلي والذي تتكئ عليه مقاطع عديدة داخل الرواية: "من الذي أتى بي إلى هنا، من أخرجني من بلادي. من أتى بي من الشاطئ الساحلي إلى تلك المدينة الفاجرة".
تمثل المفارقة Irony تقنية مهمة ارتكزت عليها الرواية، وهذا ما بدا في مقاطع سردية عديدة داخل الرواية لعل من أبرزها التوازي بين تصوير جثة الأب الغارقة وحالة الأسى المسيطرة على البطل، وفي الآن نفسه تصوير حالة الفرحة العارمة التي تنتاب السائحين وهم يسيرون بمراكبهم في المياة: "المراكب تحمل سائحين أوروبيين وعرب، وبينهم مصريون قلائل يقتربون من النوافذ الزجاجية المشرعة مطلقين الصواريخ النارية والسهام الكاشفة وسط مجرى النيل وقرب محطة الزهراء".
ترصد الرواية التحولات المجتمعية العاصفة التي حدثت في الآونة الأخيرة، متخذة من بورسعيد مكاناً مركزياً لها، كاشفة عما جرى فيها وهذا ما يشير إليه الفصلان السرديان (بورسعيد 1977، منطقة حرة)، فالسارد لا يحكي فيهما عن شلة الأصدقاء والصحاب المختلفين فحسب، بل إنه أيضاً يبحث عبر وجوههم عن بورسعيد "الغائبة"، وهذا ما نجده أيضاً في الفصل الأخير من الرواية (ديسمبر 2005)، حيث تلح صورة (فاطمة) شقيقة (محمود طلخان) عليه دائماً متوازية مع الصورة القديمة لمدينة لم يأكلها الانفتاح، ولم تلتهمها الرأسمالية المتوحشة: " صورة شقيقتي فاطمة ولماذا تقتحم ذاكرتي الآن وعلى الدوام".
تبدوالشخصية المركزية في الرواية ذات هوى ناصري، وهذا ما وظفه الكاتب ببراعة خاصة وأن (محمود طلخان) يعد واحداً من أبطال المقاومة الشعبية في القناة، ولعل النص لم يقع في فخ هيمنة (الأيديولوجي) على (الفني) لاعتماده على عدد من التقنيات المختلفة والمشار إليها مثل: تيار الوعي، تداخل الأزمنة، البناء المشهدي، المفارقة.
وبعد... مثلما حملت بداية الرواية حادثاً مأساوياً بغرق الأب، فإنها تنتهي نهاية فجائعية بانتحار ابراهيم أبوحجة (صديق البطل)، وكأن ثمة رؤية قاتمة تظلل زاوية النظر إلى العالم، فانتحار (أبوحجة) لم يكن نهاية لواقع ردئ فحسب،قدر ما كان رغبة عارمة في الخلاص من الواقع الشرس الذي يحياه شخوص العمل، إنه تعبير عن حالة العجز عن فهم ما حدث من تحولات عاصفة، هذه الحالة التي قد تفضي بالبعض إلى الإقدام على الموت.