الخميس ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٩
أحمر خفيف
بقلم يسري عبد الله

جسد يتداعى وعالم مسكون بالحكايات

ثمة جسد ممدد فوق سرير المستشفى، يغالب الموت ويعانده، رافضاً أن يستسلم له. هذا ما نلمحه في رواية «أحمر خفيف» للكاتب المصري وحيد الطويلة، الصادرة حديثاً عن «الدار للنشر» في القاهرة. فعبر هذا الجسد الملقى على السرير، نرى العالم المتغير، الموّار بالتحولات، المسكون بالتناقضات المختلفة، وبالأشخاص المتصارعين، فالكاتب يثبت لنا اللحظة الخاصة بالجسد، مع أن إضاءات الشخصية المركزية (محروس) المصورة بعناية فائقة، تصنع حركتها الخاصة، فيما الشخوص الملتحقين بها تتناسل حكاياتهم مشيرة إليها، أو معبرة عن عوالم أخرى تتقاطع مع عالمها، ليحكي لنا السارد الرئيس عن شخوص مهمشين، يعيشون على الحافة (الشيخ فرج/ الفناجيلي/ عزت ريفو/ عزيزة العمشا...) يغالبون واقعهم الرديء وتصبح حركتهم داخل النص نتاجاً للضرورة الحياتية المعاشة لا المصادفات القدرية المفتعلة، لنصبح - وبامتياز - أمام رواية تقف عبر مسافة من الواقع، وكأنها المرآة الموضوعة في زاوية معينة، حيث لا انعكاس ميكانيكياً للراهن المعيش، ولكن ثمة استجابة جمالية تعبر عنه.

عبر هذا الفهم تؤسس رواية وحيد الطويلة منطقها الجمالي الخاص، متكئة على تواشج دال ما بين الواقعي والمتخيل، والتقاط رهيف للحظات إنسانية ضافية يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، ويتجادل من خلالها الخاص مع العام.

يستهل الطويلة روايته بعبارة دالة: «النعش على باب المستشفى، والملائكة أيضاً». هذه الجملة هي واحدة من الجمل المركزية داخل النص، وتصير من ثم مفتتحاً ومفتاحاً في آن. اللافت أن هذه الجملة الواردة على لسان ما يعرف بالسارد الرئيس، تأتي أيضاً على لسان الكاتب في نهاية الرواية، إذ يعارضها قائلاً: «وحيد الطويلة: النعش ليس على باب المستشفى والملائكة تفرقت".إذاً ثمة اتساع في الرؤية، يبرزه الاختلاف بين الجملتين/ الرؤيتين، فالسارد الرئيس يعلن ان النعش ما زال على باب المستشفى، بينما يعارضه الكاتب (المغاير في ماهيته عن السارد) معلناً أن النعش غادر باب المستشفى، وكأنها فسحة الأمل، والانفراجة الممكنة على رغم قسوة الواقع وشراسته.في «أحمر خفيف» يسلم السرد بعضه إلى بعض، ولا يقدم الكاتب شخوصه دفعة واحدة، بل وفقاً للمسار السردي لنصه، فنرى حضورًا لشخصيات «عناني» ثم «عزت ريفو» ثم «الفناجيلي». وهكذا، ولكل من هؤلاء حكايته الخاصة، والمنجدلة مع حكايا الآخرين، والمسكونة بطابع ساخر، ما يسم الرواية ويمنحها خصوصية. ويتجلى هذا الحس الساخر في المواقف السردية داخل الرواية، مثل ذهاب «عزت ريفو» و»الفناجيلي» بالنعش إلى بيت (العناني):«حين رأته امرأة العناني صباحاً وهي تكنس أمام الباب، خرت مكانها، طلعت روحها ومقشتها في يدها. لم يعد النعش فارغاً، عاد بها، والعناني وضع المقشة في كفنها، كي تضرب بها عزت يوم القيامة». وتتكئ السخرية في «أحمر خفيف" أيضاًَ على آلية الرسم الدقيق للشخوص على يد الراوي، مثل التوصيفات الدالة التي يصنعها لشخصية «عزت ريفو» عاشق المؤخرات، والذي لا يفرق بين مؤخرة امرأة ، بضة، مكتنزة، أو أنثى حيوان داخل البلدة.

للراوي انحيازاته الخاصة داخل «أحمر خفيف"،وتتحدد وضعية الراوي هنا بصفته راوياً عليماً ببواطن الأمور، وهو لا يكتفي بمعرفة كل شيء فحسب، بل يتدخل أحياناً ليدلي بوجهة نظره، أو ليعقب على الحدث السردي.

بدت نهايات الفصول السردية في الرواية مفعمة بالدلالة، ينهيها الكاتب بجملة سردية مدهشة، تشي بالمآل الذي انتهت إليه حال شخصيته الروائية محور الحكي داخل الفصل. فمثلاً في الفصل السابع، يتحدث الكاتب عن «الفناجيلي» الذي يخشى الموت، ولذا قرر أن يبادر بالمواجهة ويطارده، ومن ثم عندما يبحث عنه «عزت ريفو» يجده في المقابر، ينظر بعينين زائغتين تشبه أعين «العسس»، باحثاً عن ذلك المسمى الموت.
تقف رواية «أحمر خفيف» في المسافة ما بين المتخيل والواقعي، إذ يمزج الطويلة الحلم بالواقع، لتأخذ الرواية أبعاداً جديدة، وتتشكل بنية عميقة تتخفى خلف الظلال الكثيفة التي تصنعها دلالات الأسماء سواء للشخوص أو الأمكنة المشار إليها. ويصير مثلاً - استخدام (ناصر)، الشخصية الروائية، (عزبة إسرائيل)، المكان الروائي، قادرين على استيلاد معان جديدة، تؤكدها قدرة الكاتب على تضفير السياسي باليومي في شكل دال. وهذا ما يتجلى مثلاً في مشهد البطانية التي لفت جسد الصبي المقتول ظلماً ودفاعاً عن شرف خالته، إذ كتب عليها عبارة "صنع في العراق".

يرسم الكاتب شخوصه بمهارة، واعياً قوى الشخصية الثلاث (الجسدية/ النفسية/ الاجتماعية) وهذا ما يبدو جلياً حين ننظر إلى شخصيتي «أبو الليل» و»عبدالمقصود»، مثلاً. فأبو الليل مسكون بحكمة المكان، وعبدالمقصود يمثل وجه السلطة القبيح، وهو ليس فقط بمثابة البطل الضد داخل النص، لكنه - على رغم الغياب وعدم الحضور المتواتر في الرواية – يظل محركاً لأحداث كثيرة داخلها.

وتتعدد التقنيات في «أحمر خفيف»، إذ يوظف الكاتب ما يمكن أن أسميه «لعبة التوازيات» بين مشاهد نصه المختلفة، ومن ذلك، مثلاً، التوازي بين مشهدي فك قيود المرأة العارية التي يجلدها «عبد المقصود» باشا بالكرباج، وابتعاد النعش قليلاً عن المستشفى، في إشارة دالة على إمكان مغالبة كل ما يكبل حرية الانسان وحياته: «النعش ليس على باب المستشفى، ومحروس ممدد في سريره، بوجه مرتاح، عليه النظرة نفسها التي عاد بها بعد أن فك قيد المرأة، كأنه أخذ حقه من الدنيا كلها، لا من عبد المقصود وحده».

يستهل الكاتب فصوله السردية بجملة مركزية مكتوبة ببنط مغاير - على مستوى شكل الكتابة - ثم يتم البناء عليها بعد ذلك، مثلما حدث في الفصل العاشر الذي يبدأ بهذه الجملة: «قاتل ومقتول في نَفَسْ واحد، في نعش واحد». ويوظف الكاتب ضمائر الحكي المختلفة داخل روايته، متراوحاً أحياناً بين ضميري المخاطب والغائب مثلما حصل في الفصل العاشر، الذي يستخدم في بدايته ضمير المخاطب، ويصبح الخطاب الروائي محمولاً إلى مروي له محدد «ناصر»، ومروياً عنه في آن.

تتنوع مستويات اللغة داخل «أحمر خفيف» ما بين الكلاسيكي السامق، والعامي المرتبط بالبيئة المحلية للنص، فضلاً عن وجود نزوع شعري يسم مقاطع كثيرة داخل الرواية. وتجدر الاشارة إلى صفاء اللغة وسلامتها عند وحيد الطويلة فضلاً عن استخدامه أحياناً تشبيهات بلاغية هي في جوهرها بنت «المكان» المشار إليه في الرواية.

وبعد.. في سياق سردي فائرٍ وموّار، تأتي رواية «أحمر خفيف» تعبيراً عن خصوبة المشهد الروائي المصري في الوقت الراهن وعذوبة هذا النص وخصوصيته في آن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى