كيرياليسون
للهامش حضوره البارز في متن الرواية العربية متجلياً عبر تطوراتها المختلفة وحلقاتها المركزية المتنوعة، غير أن ثمة تعاطياً مع الهامش بشكل مغاير في (الكتابة الجديدة)، حيث يعد ضرباً في متون الكشف عما وراء الواقع، ومحاولة لاكتناه ما بالداخل الثري للإنسان، وتعد رواية الكاتب المصري الشاب هاني عبد المريد (كيرياليسون) إحدى التجليات المائزة في المشهد الراهن، والمعبرة عن تعاطٍ ناجع مع الهامش بوصفه فضاءً مكانياً ودلالياً في نفس الآن.
ثمة بنية لغوية خاصة تكاد أن تنتظم عناوين النصوص السابقة للكاتب هاني عبد المريد: (إغماءة داخل تابوت، عمود رخامي في منتصف الحلبة، شجرة جافة للصلب) حيث البدء بالنكرة والتي تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره (هذا) أو(هذه)، أما في (كيرياليسون) فهويفارق هذا البناء اللغوي في عنوانه حيث نصبح أمام صيغة من صيغ التقرب إلى الرب وطلب الرحمة، فقد ورد في قاموس المصطلحات الكنسية أن هذه الصيغة (كيري إليسون) تتكرر في الصلاة وصلاة القداس بشكل خاص، وأن كيري هي اختصار كيريوس ومعناها (الرب)، وليسون تعني (ارحم)، ليصير المدلول: (يا رب ارحم).
ويمثل العنوان هنا بنية دالة في الرواية قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للنص، حيث ثمة إشارة نصية بداخل الرواية إلى معجزة نقل جبل المقطم –الشائعة في التراث المسيحي- حينما ردد (سمعان الخراز) (كيرياليسون) أربعمائة مرة: (عم منطاوي يحكي عن سمعان الخراز، الرجل الفقير الذي يرتق النعال ويتعبد لله سراً...، أرسلت أم النور المعجزة على يديه وانتقل الجبل بعد صعوده إليه ووقوفه خلف البابا أبرام الذي ظل يردد –حسب أوامر الخراز- أربعمائة مرة "كيرياليسون" حتى حدثت المعجزة التي بعدها اختفى الخراز تماماً).
تتشكل الرواية من خمسة أقسام (عن ذي القرنين- مقهى البنات- الجهاز التناسلي- خالي يقول- تدريجياً وببطء)، يحمل كل قسم منها عنواناً داخلياً، يمثل جزءاً من البنية السردية للرواية، ويصدر الكاتب كل قسم بـ(صدى صوت)، يمثل في جوهره ما يسمي بالنص المصاحب ، ففي الفصل الأول مثلاً يعبر (صدى الصوت) عن جوهر العلاقة المرتبكة بين الابن (ناجح) والأب (تيسير): (المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال (لا) في وجه من قالوا (نعم)...- شيطان يا بن الكلب يا بايظ.. ده كتب تقراها.. الناس تقول إيه؟ ابن الشيخ تيسير من عبدة الشيطان؟!)
في الفصل السردي الأول (عن ذي القرنين) يحمل العنوان الداخلي بعداً إشارياً إلى الشخصية المركزية في الرواية (ناجح تيسير عبد الواحد) والذي يرد اسمه ورسمه كاملاً في هذا الفصل، فناجح المتخبط دوماً- وكأن الاسم يحمل في جوهره دلالته الضدية- يعمل حارساً للأمن فإذا به يتحول إلى قواد، فصار بذلك ذي القرنين، وربما تعصف الدلالة هنا بالدلالة الموروثة، وتلتحم بالاستخدام الشعبي لها خالقة فضاءها الدلالي الخاص، فاستخدام ذي القرنين يشي وكأننا أمام مفتتح لشئ له صلة بالموروث، غير أن التفصيلات تأتي لتصدم المتلقي وتكسر أفق التوقع لديه. إن (ناجح) يعاني قمعاً مستمراً من الأب (الشيخ تيسير)، والخلاف بينهما رؤيوي في جوهره، حيث ثمة فهم ظاهري للدين يختزله في جملة من الطقوس الشعائرية (رؤية الشيخ تيسير)، وفهم آخر قائم على عدم التسليم للموروث عبر صنع مراجعة دائمة له (رؤية الابن ناجح)، إنه الفارق ما بين الانطلاق من يقين جاهز وإجابات معدة سلفاً، وغواية سؤال لا تبرح أن تغادر شفتي (ناجح) الذي يقول متحدثاً عن أبيه: "هل تفكيره الخرافي، وخداعه، وتمسحه في المظهر صواب؟"
يتكئ القسم الثاني (مقهى البنات) على تقنية (الفلاش باك) حيث ثمة بدء من نقطة انطلاق (الحديث عن مقهى أبوعامر) يعقبها عودة إلى الوراء واستحضار لعدد من الحكايات حول عوالم هذه الشخصية (أبوعامر) وبناته اللعوب، يسلم الحكي بعضه إلى بعض في هذا القسم، وتتناسل الحكايات وتتقاطع ،مثل حكاية (ضمة) الفتاة الريفية التي تم تعهيرها والتي تحيل إلى حكاية طالب الطب الفاشل الذي ضاجعها وفر هارباً. ثمة توظيف دال للانتقالات السردية بداخل الرواية والتي تتم أحياناً عبر الجمل الحوارية الملتحمة بخط القص الرئيسي: "عايز تبقى ظابط احتياط ليه؟"، ثم نبدأ الدخول في أتون حكاية جديدة، هي تكئة للتأكيد على حالة القمع التي مر بها (ناجح)، والتي مورست ضده قديماً من الأب والآن بداخل
المعسكر، فعبر استعراض نماذج إنسانية ثرية (عجينة- أيمن فايد- سامر مهدي)، نرى زخماً من الحكايات المدهشة والساخرة في الآن نفسه،مثل: (تبول الضابط أيمن مهدي على اللافتات الموضوعة في الطريق، ومضاجعة الضابط سامر لإحدى الفتيات داخل المعسكر). إن نهاية هذا الفصل تبدودالة ومكثفة، ونرى توظيفاً للبناء الدائري، حيث العودة إلى الشخصية المركزية وسؤالاتها المتكررة،والمسكونة بألمها الخاص:"حتى سامر المسطول دوما،الامبالي،أوعى وأذكى مني،سدد ما عليه، وتركني بجهلي لأسدد الآن ما علي، وحيداً وسط هذا المكان الكئيب".
في القسم الثالث (الجهاز التناسلي) نرى حكياً بضمير الغائب في مفتتح الفصل ، ويبرز هذا النزوع الواعي إلى السخرية: "الشيخ ثابت يغني، يغني بصوت مرتفع في جنح الليل دون خجل، كاسراً ذلك الحاجز الوقور الذي يضعه أنداده بينهم وبين النائمين. "إنت وبس إللى حبيبي.. ولافيش غيرك ع البال.." علا بها صوته ذات ليلة.. علا.. تهدج... إنت وبس إللى حبيبي يا رب. يا رب مفيش غيرك ع البال".
ثمة تنويعات سردية ومراوحة في استخدام ضمائر الحكي المختلفة بداخل هذا الفصل، وبما يفضي إلى تعميق الرؤية السردية: "أول ما جاء على باله وجه ريم، عرفها وأحبها في الإبتدائية دون إفصاح...، في ذلك المساء بعد ذهاب أبي وأمي إلى المحامي، في محاولة لتأمين مستقبلي، بقيت وحيداً، قررت أن أكتب جواباً لريم".
تأتي الحكايات متواترة، عن ناس الزرايب المهمشين (عكرش البلطجي- وليم- جرجس- عم منطاوي- عبده- فريدة) لنجد أنفسنا أمام نسيج من العلاقات المشوهة، والمرتبكة، والناتجة عن واقع بالغ القسوة، واللافت أن اللغة هنا لم تلجأ إلى أن تصبح صادمة لوعي المتلقي مثل نصوص أخرى (فاصل للدهشة مثلاً)، ولم تستخدم اللغة المحكية ذات الطابع الشفاهي إلا فيما ندر، وإن عبرت بسلاسة عن واقع هؤلاء البشر المنسحقين.
تزداد نغمة السخرية ارتفاعاً حين يشير الكاتب إلى التاريخ السري للعضوالتناسلي مرتاداً مناطق مسكونة بالبوح، لينتهي الفصل الثالث بمفارقة بديعة، فبعد حالة الانتظار اللاهثة من قبل المراهقين لأن تشرح لهم إحدى المدرسات درس الجهاز التناسلي في مادة العلوم ، إذا بالأستاذ ممدوح يدخل مكشراً عن أنيابه، لاعناً البطل المركزي (ناجح): " ظللنا مكتظين نتصبب عرقاً من خلفنا أستاذ مسعود بعصاة القاسية، من أمامنا وقف أستاذ ممدوح يكتب فوق السبورة بعصبية بسم الله الرحمن الرحيم. الجهاز التناسلي. يلتفت فجأة، باقي أصبع التباشير في يديه يصوبه إلى رأسي- الواد ابن الكلب إللى بيكلم صاحبه.. مسمعش صوت أمه".
في القسم الخامس (تدريجياً وببطء) نلمح بعداً تجريدياً يتجلى في المشهد الأخير (مشهد القيود التي تغل ناجح وتكبله)، ولازالت سؤالاته تلاحقه وتلاحقنا.
وبعد.. في رواية (كيرياليسون) يتوازى خطابان مركزيان أحدهما مسكون بالشك (يمثله ناجح)، والثاني مفعم باليقين (خطاب الشيخ تيسير)، وكلاهما ينبئ عن تصورات مركزية بإزاء العالم والأشياء، غير أن ثمة خطابات أخرى تبدوحاضرة في المتن السردي للرواية، ربما يمثل خطاب السارد الرئيسي إحداها، فضلاً عن شخوص المكان الروائي (منشأة ناصر)، حيث ثمة بشر يعيشون على الحافة، ويلامسون- بالكاد- تخوم الأشياء.