الأحد ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢١
الخيارات الراهنة والمستقبليّة
بقلم محمد هيبي

أمام الجماهير الفلسطينيّة في الـ 48!

مداخلتي في اللقاء بين الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48، وبين مركز القدس للدراسات المستقبليّة والمركز الفلسطينيّ للبحوث والدراسات، رام الله: فندق الكرمل، السبت: 19/6/2021

أسعد الله أوقاتكم بكلّ الخير

يسعدني أن نلتقي كأخوة وكمثقّفين فلسطينيين، يجمعنا همّ واحد، هو همّ شعبنا وقضيته. نتحاور بصدق ونتداول قضايانا الحارقة بشفافية وموضوعية، ونحن نعرف أنّ آراءنا ومعتقداتنا السياسية قد تتعدّد وتختلف، ولكنّنا نُدرك ونُؤمن أيضا، أنّ همّ شعبنا يُحتّم علينا أن نلتقي ونتوحّد لنواجه مصيرنا رغم اختلاف آرائنا ومعتقداتنا.

حين نتحدّث عن الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني، يجب أن نُحدّد أنّ هذه الجماهير ليست شعبا، كما جاء في عنوان اللقاء، وإنّما نحن جزء لا يتجزّأ من شعبنا العربي الفلسطيني، صاحب هذه البلاد التي شُرّد منها بالقوّة وبدون أدنى حقّ.
لجماهيرنا في الداخل الفلسطيني 48، خصوصيّة يجب أن يعرفها ويعترف بها الجميع، ما دامت قد فُرضت علينا ولم نأتها عن عمد. نتعامل معها؟ نعم! ولكنّنا لسنا سعداء بها كما يظنّ البعض. واجبنا المعيشيّ والوطنيّ، هو ما يُحتّم علينا أن نلعب بأوراقها إن صحّ التعبير، ونجيّرها لصالحنا، صالح مجتمعنا وشعبنا.

وقبل أن نتحدّث عن الخيارات الراهنة والمستقبليّة المطروحة أمامنا، لا بدّ لنا من نظرة سريعة إلى الماضي، سأوجزها في حدثين هامّين: كبير وصغير. الكبير كلّكم تعرفونه وتقدّرونه، وهو إنجاز يوم الأرض وما فرضناه على السلطة الإسرائيلية من إعادة النظر، ليس في قضية مصادرة الأراضي فحسب، بل في كيفية تعاملها مع الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني. أمّا الحدث الصغير، الكبير في قيمته، فهو تصدّي إخواننا، السكّان العرب في مدينة عكا، قبل بضع سنوات، تصدّيهم لبلديّتها وإرغامها على كتابة "عكا" باللغة العربية، على مدخل المدينة الشرقيّ، بعد أن كانت قد كتبت "عكو". هذان حدثان من مسلسل طويل من الأحداث الكبيرة والصغيرة، وكلّها تُؤكّد على أنّ جماهيرنا العربية الفلسطينية في الداخل، تعمل ما استطاعت للحفاظ على لغتنا وهويّتنا وثوابتنا الوطنيّة والقوميّة.

عانت جماهيرنا في الداخل-48، فترة طويلة حتى تمكّنت من إقناع إخواننا في فلسطين والشتات، وفي العالم العربي أيضا، بأنّنا لسنا خونة إذ بقينا في أرضنا، وبأنّ لنا خصوصيّتنا التي لا نستطيع أن ننكرها حتى لو كنّا لا نريدها. نحن نختلف عن باقي أبناء شعبنا، لأنّ المركّب المدنيّ في هويتنا يختلف. هويّتنا، كما لخّصها بروفيسور إبراهيم طه، ترتكز على ثلاثة مُركّبات أساسيّة: القوميّ والوطنيّ والمدنيّ.

المركّب القومي هو انتماؤنا العربي، ونحن متمسّكون بعروبتنا، ولن نقطع بحال من الأحوال، الصلة بيننا وبين أمّتنا وحضارتنا ولغتنا وتاريخنا وجغرافيتنا وأدبنا، بل تواصلنا وسنتواصل بعزم وحزم، مع أمّتنا العربية كلّها. وقد أفشلنا الكثير من مخطّطات السلطة الإسرائيلية وممارساتها الرامية إلى القطيعة بيننا.

المركّب الثاني هو الجغرافيا، الوطن، فلسطين، ونحن كنّا وما زلنا وسنظلّ متمسّكين بوطننا وفلسطينيّتنا وبحقوق شعبنا. نحن جزء من الشعب العربي الفلسطيني، والشعب الفلسطيني جزء من الأمّة العربية، وعروبتنا لا تنفصل عن فلسطينيّتنا. ولن يهدأ لنا بال حتى يأخذ شعبنا حقّه في إقامة دولته على أرضه.

أمّا المركّب الثالث، فهو المركّب الإشكالي، لأنّه فُرض علينا، وفَرض علينا خصوصيّتنا من جهة، وتسبّب بتنكّر إخواننا أو بعضهم لنا من جهة أخرى، إنّه الحالة المدنيّة الإسرائيلية التي فُرضت علينا بعد النكبة عام 1948، وتسبّبت بقطيعتنا عن شعبنا. وليست أحوالنا آنذاك، هي فقط ما فرض علينا قبول هذه الحالة، بل هي أحوال شعبنا وقياداته أيضا، وكذلك أحوال أمّتنا وقياداتها. فهل كان لنا خيار آخر غير قبول الهويّة المدنيّة الإسرائيلية؟

الخيار الوحيد الذي كان مطروحا أمامنا في ظروف تلك الفترة، هو بكل بساطة، نكبة أخرى، وكلّكم تعرفون أنّه ليس قليلا عدد هؤلاء الذين قُتلوا أو طُردوا من أرضهم وبيوتهم بعد النكبة، بعد أن استتب الأمر والأمن لإسرائيل كدولة قَبِل بها معظم دول العالم، بعضها عن جهل بحقيقتها، وبعضه الآخر، قَبِلها رغم معرفته أنّها قامت على دماء شعبنا، وعلى سلب أرضنا وهدم بيوتنا وتشريدنا منها. وبالرغم من ذلك، بقينا على أرضنا، بقينا وصِرنا، راغبين أو غير راغبين، جزءًا من كيان مدنيّ اسمه إسرائيل وُلد من رحم المؤامرة التي استغلّت ضعفنا وجهلنا.

من المؤسف حقّا أنّنا نؤمن بتاريخنا ولا نعرفه، لذلك أعتقد أنّ على كلّ فلسطيني، بغضّ النظر عن مكان تواجده، وعن مستوى ثقافته، وبغضّ النظر أيضا عن آرائه وأفكاره ومعتقداته السياسيّة، أن يعرف تاريخنا. لا أقصد فقط تاريخ النكبة وما سبقها بعقود، وما لحقها، بل تاريخنا كلّه، بما في ذلك ما سبق النكبة بآلاف السنين، لأنّ كذب المتآمرين وتزويرهم للتاريخ، وجهلنا واستغلالهم له، كلّ ذلك شكّل أرضا خصبة لتمرير مؤامرتهم الصهيونية الاستعمارية التي خلقت هذا الكيان المسمّى إسرائيل، وقد أدرك أطراف المؤامرة، بريطانيا الاستعماريّة والحركة الصهيونية، أدركوا منذ عقود طويلة، أنّ مشروعهم لن يقوم إلّا على نهب أرضنا وسفك دمائنا، ولم يكترثوا. وقد قالها بلفور صراحة، حتى قبل وعده المشؤوم بأعوام: "سنمضي في مشروعنا ولن نكترث لمصير ثمانمائة محمّديّ". وانتبهوا، قال "محمّديّ" ولم يقل عربيّ أو فلسطينيّ، وأبسط تفسير لهذا الكلام هو أنّ الاستعمار البريطاني، راعي المشروع الصهيوني، عمِل بشكل عام على طمس هويتنا بفرعيها: الوطنيّ والقوميّ، وبشكل خاص عمِل على سلخ إخوتنا المسيحيين عن شعبهم، ولكنّهم كانوا أكثر وعيا من أن يقعوا في شراكه، أو أن يقبلوا مخطّطاته؛ أفشلوها فشملتهم النكبة كما شملت شعبنا كلّه.
صحيح أنّنا منذ النكبة وحتى اليوم، ننضبط بضوابط اللعبة المدنية في إسرائيل، ولكنّنا بذلنا ونبذل كلّ الجهود للّعب بكلّ الأوراق التي تُتيحها لنا تلك اللعبة، لنُجيّرها لصالح جماهيرنا وشعبنا.

وقبل أن أتابع، ولكيلا يُساء فهمي، اعلموا أنّني أحترمكم جميعا، واحترم رأي كلّ واحد منكم، رغم أنّي لست ملزما بقبوله، وأنتم أيضا، لستم ملزمين بقبول رأيي. أنا أطرح ما أفكّر به بصراحة متناهية، وأدرك أنّني أطرحه في إطار حوار يُفترض به أن يكون عقلانيّا، بنّاء وهادفا، بين مثقّفين أدرك أنّ أفكارهم ومشاربهم السياسية متعدّدة أو قد تتعدّد، ولكنّ يتوجّب عليهم أن يكونوا على درجة من الوعي تُمكّنهم من أن يعرفوا ويُؤمنوا، أنّ هذه الأفكار والمشارب لا بدّ لها أن تلتقي وتتوحّد بفلسطين في فلسطين ولفلسطين. فما قيمتنا نحن، وما قيمة فلسطين نفسها أيضا، إن لم تكن هي القاسم المشترك بيننا، وهي العامل الذي يجمعنا ويُوحّدنا؟

تساءل الشاعر العراقي، مظفّر النوّاب، في قصيدة له بعنوان "الأساطيل": أيّها الدّم العربيّ، لماذا هُزمت وواجبك العسكريّ فلسطين؟"، فهل يحقّ لي أن أتساءل: لماذا ينقسم الفلسطينيّون إذا كانوا يدركون ويُؤمنون بأنّ فلسطين هي واجبهم الوطنيّ، العسكريّ وغير العسكريّ؟

الحرب الأخيرة أثارت لدينا السؤال أعلاه، وغيره الكثير، لأنّ كلّ ما يحدث على الساحة الفلسطينية، يهمّنا، لا بل نحن جزء منه، وهو يُؤثّر علينا سلبا وإيجابا. لذلك لا أبالغ إذا قلت لكم: إنّ الانقسام الفلسطيني يجعل شرعيتنا جميعا، تتآكل وتفقد مصداقيّتها إذا استمرّ الانقسام، خاصّة ونحن نرى وندرك أنّ المستفيد الأول من هذا الانقسام هو إسرائيل. الانقسام بحدّ ذاته مصيبة، وإذا كانت منفعة إسرائيل هدفا مقصودا من أهدافه فالمصيبة أكبر، وهي بلا شكّ، نكبة أخرى في سلسلة نكباتنا المستمرّة منذ بداية القرن الماضي، ولكنّها هذه المرّة، من صنع أيدينا. ألا يحقّ لأيّ فلسطينيّ أن يسأل: لماذا لا ينتهي هذا الانقسام لو كانت فلسطين وقضية شعبنا هي القاسم المشترك بين الفلسطينيين والعامل الذي يجب أن يُوحّدهم؟ وأقولها لكم بصراحة: لا يُزعجني أنّ لدى شعبنا تعدّديّة وأحزابا كثيرة وفصائل أكثر، ولكن نعم، يُزعجني أن لا تكون فلسطين هي القاسم المشترك والعامل الموحّد بين كلّ الأحزاب والفصائل. وأكثر من ذلك، الحزب أو الفصيل العاجز عن هذه الرؤية، جهلا أو قصدا، يفقد شرعيته في نظري، أو يصبح مشبوها على الأقلّ. ولا أظنّ أنّني أقول رأيي فقط، في هذا الشأن وغيره، بل يُشاركني الرأي، الكثيرون من جماهيرنا الفلسطينية في الداخل.

لا أحد يستطيع أن يُنكر حقّ شعبنا بالمقاومة بكلّ أشكالها، فهو شعب يرزح تحت نير أبشع احتلال عرفه التاريخ، وهو يُقاوم من أجل حريّته واستقلاله. ولكن، هل يستطيع أحد أن يُنكر اليوم أنّ "حماس" هي التي تتصدّر المقاومة، المسلّحة على الأقلّ؟ لست هنا بصدد إنكار دورها في المقاومة، ولكن يحقّ لي أن أسأل وأتساءل حول هذا الدور وتأثيره في السياسة: ما الذي تُريده "حماس" من الانقسام ومن هذه المقاومة المتقوقعة في ظلّ الانقسام؟ كلّنا نعلم أنّ "حماس" تعرقل طريق إنهاء الانقسام كما تُعرقل إسرائيل طريق السلام وإنهاء الاحتلال. فما سرّ هذا الخيط، وما مدى متانته؟ أليس من حقّ كلّ فلسطينيّ أن يعرف الحقيقة؟ أليس لكلّ حرب أهداف سياسية تعمل الأطراف المتحاربة على تحقيقها؟ فما هي الأهداف التي وضعتها حماس نصب أعينها قبل خوض الحرب الأخيرة والحروب التي سبقتها على غزّة؟

وعلى مستوى النتائج، وهي لا تكون دائما مطابقة للأهداف، الحرب الأخيرة حقّقت شيئا مهمّا، حقّقت وحدة شعبية فلسطينية نادرة، أو على أقلّ تقدير، أكّدت لنا جميعا، أهميّة وحدة شعبنا وضرورتها كخطوة قبليّة لتوحيد صفوف المقاومة وتوحيد أهدافها.

ولكنّي في ظلّ كلّ ما يحدث، أشكّ في أنّ هذه الوحدة كانت هدفا من أهداف الحرب، الأخيرة وغيرها، وشكّي هذا يكسب شرعيته من مصدرين: أوّلا من أنّه يبغي الحقيقة ويبحث عنها، وثانيا من أنّه يُذكّرنا بحقيقة واضحة كالشمس، وهي أنّ ما حقّقته المقاومة في حربها الأخيرة، من وحدة شعبية فلسطينية تشملنا، نحن الجماهير الفلسطينية في الداخل - 48، ما حقّقته من وحدة، يتناقض كلّيا مع بقاء الانقسام لحظة واحدة أخرى. فهل فكّرت "حماس" أو المقاومة بذلك؟ وهنا، السؤال الذي يطرح نفسه: من هو المسؤول الحقيقي عن استمرار الانقسام؟ هل هي "حماس"، أم هي "السلطة"، أم كلاهما، أم نحن جميعا؟ أم هي الأيدي الخفية لإسرائيل، تلعب بمقدراتنا وتنعم بخير تناحرنا؟ يحقّ لكلّ فلسطينيّ أن يطرح هذا السؤال وغيره، وواجبه الوطنيّ يُحتّم عليه أن يبحث عن الجواب، إذ لا أظنّ أنّه يُوجد فلسطيني واحد عاقل، يُمكن أن يرضى بهذا الانقسام المخزي، إلا إذا سوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء أن ينتفع منه وبه.

تُعجبني رؤية الباحث الفلسطيني عبد الغني سلامة، للأمور. أتّفق معه في كثير مما يطرحه، وأقتبس منه بعض ما جاء في مقال له نشره مؤخّرا: "بعد النصر المعنوي للمقاومة في غزّة، وحالة النهوض الوطني، واستعادة الروح الكفاحية، وحالة التوحّد الرائعة، والتي شملت فلسطينيي الداخل، واستفاقة الشارع العربي وتضامنه، ومسيرات التأييد الكبيرة في دول العالم، والانتقادات الدوليّة ضدّ إسرائيل وجرائم الأبرتهايد ... نكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن نطوّر هذه الحالة ونستثمرها ونعزّز وحدتنا وجبهتنا الداخلية، ونصلّب موقفنا السياسي ... أو نكتفي بنشوة النصر، ونجيّره لصالح "حماس" فقط، ونبدأ مرحلة جديدة من المناكفات والصراعات الداخليّة، ونضيّع ما أنجزناه، ونثبّت الانقسام". انتهى الاقتباس. ويحقّ لي أن أتساءل هنا وأسألكم: ماذا تريد "حماس" بالضبط؟ ونحن، أيّ الأمرين سنختار؟

وعلى ما تقدّم، نحن الجماهير الفلسطينيّة في الـ 48، وهنا أقتبس بروفيسور إبراهيم طه مرّة أخرى: "كلّ ممارستنا السياسية هي انعكاس عملي إجرائي لمسألة الهويّة. سلوكنا السياسيّ هو ترجمة عمليّة لهويّتنا. وهما أمران لا ينفصلان.

وعلى ما تقدّم، وانطلاقا من مسؤوليّاتنا، نحن نرى أنّ خيار النضال هو واجب علينا لا نقوم به منّة لأحد، ونُمارسه كما قال بروفيسور طه، على جبهتين:

الجبهة المدنيّة، نناضل فيها ونطالب بحقوقنا المدنيّة التي لا توفّرها لنا إسرائيل كاملة، بسبب انتمائنا العربيّ الفلسطينيّ. وأنا أضيف هنا: إسرائيل تُريدنا ضعفاء نستجدي حاجاتنا منها، وليس أقوياء نناضل ونطالب بحقوقنا وننتزعها منها أحيانا. ولتأكيد ما أقول، يحضرني ما قاله ذات يوم، أحد وزراء الداخلية الإسرائيليين، لطلب الصانع، أحد النواب العرب في البرلمان آنذاك، قال له: "تعال إلى مكتبي واطلب ما شئت، وستأخذ. ولكن أن تقف على منصّة الكنيست وتصرخ وتُطالب بحقوق، فلن تأخذ شيئا". هل لهذا الكلام من معنى آخر غير الاستجداء والزحف على البطون؟ سمعنا هذا الكلام وسمعنا غيره الكثير، ولكنّنا احتقرناه واحتقرنا أصحابه ونهجهم، واحتقرنا كذلك، كلّ من سار في هذا الطريق وعلى هذا النهج. ولستم غافلين عن نهج النائب منصور عباس، قبيل وبعد الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة. أنا أعتبره نموذجا حيّا لنهج الاستجداء والزحف على البطون. فقد باع نفسه للشيطان وعمل على شقّ وحدتنا وبعثرة صفوفنا وإضعاف قوتنا في البرلمان وخارجه. ولكن ما يُقلقني أكثر، هو السؤال الذي يطرح نفسه بعد ما فعله منصور عباس، وبتأييد الحركة الإسلامية الجنوبية التي يُمثّلها (سُمعت من داخل الحركة، بعض الأصوات المناهضة لنهج منصور عباس، ولكنّنا حتى الآن لم نرَ نتائج تلك المناهضة): هل من علاقة بين هذا الانقسام والانقسام الفلسطيني بين "حماس" والسلطة؟ أنا أدّعي أنّ الأيدي الخفيّة ذاتها هي التي تقف خلف الانقسامين.
الجبهة الوطنيّة: في هذه الجبهة ناضلنا بشكل مستمرّ، ولم يتوقّف فيها نضالنا يوما، ولم نكفّ للحظة واحدة عن المطالبة بإحقاق حقوق شعبنا وإقامة دولته المستقلّة على كامل التراب الفلسطيني المحتلّ عام 1967. نعرف أنّ شعبنا يستحقّ أكثر من ذلك بكثير، ولكن، كلّكم تُدركون لماذا انخفض سقف توقّعات شعبنا إلى هذا الحدّ.

لذلك، من يُريد الآن أكثر من دولة في حدود الـ 67، لن نلومه، وفي الوقت نفسه، لن نقف عائقا في طريق نضاله، ولكنّنا بكلّ تأكيد، سنرفض كلّ المزايدات التي قد يتشدّق بها البعض، والتي لا طائل منها، ولا أحد ينتفع منها إلّا إسرائيل. ليس خفيّا عليكم أنّ إسرائيل ترانا وتسمعنا خمسا وعشرين ساعة في اليوم، وتستفيد من كلّ ما نقوله ونفعله، وتتعلّم منه، وتُجيّره لصالحها، في ممارساتها السياسية وعلى ارض الواقع، فهي لا تكفّ عن محاصرة شعبنا ومنع الفائدة عنّه بشتّى الطرق. والمؤسف حقّا، أنّ بعضنا يُحقّق لها ما تُريد، قصدا أو جهلا. نحن نعلم أنّ إسرائيل هي العقبة الوحيدة أمام السلام، وهي المنتفع من هذه الحالة، ولا عقبة أمام السلام غيرها إلّا المؤتمِرين بأمرها أو المنتفعين من علاقاتهم معها، سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو على المستوى العربيّ وما حصل فيه من تحوّلات أضرّت بقضيتنا وطعنت شعبنا في الظهر، ولنا ولكم في موجة التطبيع الأخيرة عبرة يا أولي الألباب.

على مستوى التنفيذ والممارسات العملية، وفي ظروفنا التي نعيشها، لنا أدواتنا النضاليّة الخاصّة بنا، نُفعّلها في الجبهتين المذكورتين، وهي أدوات واضحة ومعروفة للجميع، نُعبّر عنها بالأشكال التي تسمح بها ظروفنا، وهي ليست سهلة كما يظنّ البعض، وليست بلا فائدة كما يظنّ بعض آخر، بل لها أصداؤها الإيجابية ونتائجها المؤثّرة:
التعبير الحركيّ ويبرز في التظاهرات العربيّة أحيانا، والعربيّة اليهوديّة أحيانا أخرى، وكذلك الأمر في المسيرات، وزيارات التضامن، والاعتصامات على المفارق وفي الساحات، ورفع العلم الفلسطينيّ.

التعبير الصوتيّ اللفظيّ: ويبرز ذلك في ظهور أعضاء البرلمان وغيرهم من ممثلينا، على المنابر المختلفة، في الداخل والخارج، وفي حلقات النقاش المتواصلة في النوادي والمؤسّسات الثقافية المختلفة، وكذلك في الحوار عبر أدوات التواصل المختلفة.

التعبير الاقتصاديّ، وأبرز ما نقوم به في هذا المجال، هو الإضراب وما يُرافقه من حملات مقاطعة شرائيّة مؤقّتة، لها تأثيرها الملموس على الاقتصاد الإسرائيلي.

التعبير الدوليّ: ويبرز ذلك في طرح قضيّتنا أمام الأمم المتّحدة، وأمام غيرها من المؤسّسات الدوليّة التي تتجاوب مع قضية شعبنا، وطرحها كذلك أمام سفراء العالم لنطلعهم فيطلعوا شعوبهم، على الحقائق التي تعمل إسرائيل على طمسها أو التعتيم عليها.

هناك تعبير خامس، مارسه بعضٌ هامشيّ منّ جماهيرنا، وهو تعبير مرفوض، يضرّ ولا ينفع، سواء على الصعيد المادّي أو السياسي. هذا التعبير هو العنف والاعتداء على الممتلكات العامّة والخاصّة. أولئك الذين ينحازون إلى هذا التعبير، ينجرّون غالبا وراء أصوات مشبوهة تدفعها جهات مشبوهة أيضا.

منذ النكبة وحتى اليوم، مارسنا حياتنا ونضالنا على الجبهتين المذكورتين ولم نضعف، ولن نضعف، ولن نتراجع، ولن نهدأ إلا بعد نيل حقوقنا كاملة، وبعد نيل شعبنا حقّه، استقلاله في دولته وعلى أرضه، ولن نقبل بغير القدس العربية عاصمة له.

وختاما، بما أنّنا في هذه الندوة التي تجمعنا بكم، وعلى هذه المنصّة، نمثّل الاتحاد العامّ للأدباء الفلسطينيّين - الكرمل 48، ونتحدّث باسم أعضائه وأصدقائه ومؤيّديه، بقي أن أذكر أنّ كلّ ما سبق ذكره وغيره الكثير، يجد طريقه بشكل أو بآخر إلى أدبنا وسُبل إبداعنا، ويُعبّر عنه كتّابنا شعرا ونثرا، بأسلوب مباشر أو غير مباشر. لأنّ أدبنا جزء لا يتجزّأ من أدب شعبنا، ولا يزال الهمّ الفلسطيني، هو هاجسه الأول والمهيمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى