الخميس ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم هدى محمد قزع

إبراهيم السعافين مُبْحِرًا في عالم السرد الروائي

لعل هذه المقالة التي نتصدى لكتابتها هي من أهم المقالات التي كتبت في موضوعها، وهي تكتسب أهميتها وقيمتها، من الكتاب الذي تحاول قراءته وعرضه، أعني كتاب (الرواية العربية تبحر من جديد) للعالم الجليل الذي عزّ نظيره إبراهيم السعافين، الذي زادت مؤلفاته عن اثنين وثلاثين مؤلفًا في مختلف فنون الأدب.

إن صلة هذا الناقد الفذ بالرواية العربية وفنون السرد لافتة للنظر، ولا نغالي في قولنا إن ما كتبه في الأدب الحديث ونقده يعد من المصادر الأساسية على مستوى الوطن العربي، أما كتابه الذي نحن بصدد عرضه فإنه احتوى على عدد من البحوث القيمة المتصلة بالرواية العربية الحديثة وقضاياها، التي وظفت أبرز الرؤى المنهجية الحديثة لقراءة واعية لأهم الروايات العربية.
يفتتح الناقد الحصيف مؤلفه بسؤال معرفي مهم هو: الرواية العربية إلى أين؟ يحاول من خلاله الإجابة عن توضيح مسار الرواية من خلال استقراء الواقع الإبداعي الذي رأى المؤلف انه يتجه نحو واقعية جديدة، تتجاوز " الواقعية الوثوقية " التي كانت ترى الواقع مفهومًا، وتحلل عناصره في الأعمال المتخيلة من منطلق المعرفة اليقينية والامتلاك.وهي رؤية حصيفة تستشرف حركة الإبداع الروائي من منطلق رؤيتها على ضوء السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي.

إن متلقي الرواية العربية ينفر غالبًا من الرواية الممعنة في التجريب ؛ لأنها تنأى عن تفصيلات الواقع، وتنحو نحو عوالم سرمدية تتسم بالغرابة والعجائبية المفرطة بالكثافة الرمزية، فـ" التجريب ضرورة وليس أمرًا يسمح به وحسب، على أن التجريب يجب أن يستند إلى حافز ورؤية تسوغانه، وإلا فإن اللعب بالأشكال لا يتوقع أن يعمر طويلًا، ولعله لا يحظى بالقبول إلا باعتباره صرعة وقتية لا تلبث أن تزول". من هنا يفسر الباحث القدرة الواضحة لرواية أرض السواد لعبد الرحمن منيف على تصوير التاريخ الاجتماعي ؛ ذلك انه لم يبتعد عن الواقع المعيش ويتعمق في تاريخ المجتمع العراقي , وإنما حاول أن يجعل من هذا التاريخ واقعًا نحياه ونتمثله.

وفي بحثه عن "جماليات التلقي في الرواية العربية المعاصرة " أشار الباحث إلى أبرز العناصر في تلقي الروايات الإشكالية، منها التضمينات الثقافية المحملة بإشارات غريبة وواقعية، فتزيد من صعوبة تلقي النص الروائي، ومنها جوانب لغوية كالتناص مع الفضاءات التراثية والحديثة، وقد يمارس الروائي لعبة اللغة. ويرى انه من بين إشكالات التلقي تعدد أوجه التلقي بتعدد الجمل المختلفة على سهولتها، فبساطة الرواية الواقعية الظاهرة مراوغة وقد تفضي إلى التأويل وتعدد الدلالات الممكنة، لا سيما إذا استندت على تقنيات حديثة كالاسترجاع والاستقبال، وتشظي الشخوص والأحداث والزمان والمكان، والقطع الصادم والانتقالات المفاجئة، واستخدام تقنيات السرد المختلفة، والتراوح بين الواقعي والعجائبي.مثل رواية "الغرف الأخرى" لجبرا إبراهيم جبرا، التي تتميز بقيمة رمزية عالية تمثل الوجه الآخر للبعد الواقعي دون أن تلغيه، فالمكان في هذه الرواية يبدو مع تحديده وتشابهه محيرًا وخالقًا لحالة من التشابك والتناقض وتلاشي المنطقية، والقارىء في هذه الرواية يتلقى معلومات سردية من رواة متعددين تختلف وجهات نظرهم، فيما يصور اندثار الإنسان تحت سطوة الواقع وقسوته في مقابل مُثل الإنسان وأشواقه وقيمه.وفي الرواية خيط من السخرية، منسوج من المعرفة اليقينية والوعي الزائف، في فضاء يتناغم فيه الواقع الغرائبي والعجائبي، بل ربما بدا العالم العجائبي والغرائبي أكثر صدقًا وجمالًا ومنطقية من الواقع نفسه.

وفي قراءته لـ "أعمال عبد الكريم غلاب والتحولات الاجتماعية " يلاحظ الباحث أن حركة أعمال عبد الكريم غلاب الروائية قامت على ثنائية الماضي والمستقبل، إذ بدأها تصريحًا من عنوان الرواية الأولى " دفنا الماضي " وانتهى بها في الرواية الخامسة " شروخ في المرايا"، وثمة اختلاف كبير بين الرؤية في كل من الروايتين، ولعل ذلك يرتد للفترة الزمنية التي تفصل بينهما في الصدور والكتابة، فالرواية الأولى صدرت عن رؤية أقرب إلى " الوثوقية" المتلائمة مع الأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية فترة الخمسينات والستينات بحيث تبدو التحولات تسير في خط مستقيم باتجاه التقدم (المستقبل)، في ثنائيات ضدية أشبه بالحتميات التاريخية، يسندها تصور مما يبدو على السطح أو في الواقع الراهن من قوى متناقضة تعوق الحركات أو القوى المضادة فتجعل مسار التقدم يبدو وكأنه يكاد يكون حتميًا، فالنضال من أجل زوال الاستعمار والكفاح لدحر الظلم الاجتماعي وترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية، وزعزعة القيم البالية، يبدو للذي يتحرك من لجة الأحداث موشرًا إن لم يكن موهمًا بهذه الحركة المطردة من التقدم، على أن سياق الأحداث نفسها في زمن موغل بالانحرافات والانهيار واستفحال قوى الشر، وانتكاس القيم ومعطياتها في الواقع يحمل في طياته تحولات في الرؤية ومعاودة للنظر، إذ تنحلّ الرؤية الوثوقية في أسئلة تبحث عن إجابات ليست نهائية تقود أحيانًا، إلى نزعة تبدو فيها ملامح العبثية.فرواية " شروخ في المرايا" تحمل رؤية منكسرة تعبر عن " تهشم " المرايا، بانقلاب المفاهيم وارتداد الأحلام، وانتكاس التوقعات، فالمستقبل أو العالم الجديد هو إحياء الماضي بحضوره السلبي الذي ظهر في رواية " دفنا الماضي" الذي كان صورة لأخلاقية المستقبل المرجوّ فقد كان هو المستقبل الذي قد لا يعود، عصر الرسالات والفلاسفة المثاليين، فالمستقبل الآن هو مستقبل الغزاة البرابرة. ويشير إبراهيم السعافين في نهاية قراءته النقدية الدقيقة إلى طبيعة السرد في روايات عبد الكريم غلاب التي غلب عليها المونولوج أو الصوت الواحد أكثر من إتاحتها الفرصة لتعدد الأصوات بمفهوم " الكرنفالية" عند باختين، ومع ظهور أصوات وآراء متباينة وربما متناقضة، فإن صوت المؤلف الحقيقي هو الذي كان يحدد الصوت الطاغي، ثم يؤكده من خلال الآخر الذي يختلف ويتناقض، ولكن يبدو اختلافه وتناقضه قائمًا في نقيصة كامنة فيه مما يجعل صورته في الأغلب نفسيًا أو جسديًا مشوهة، فيبدو أقرب إلى النموذج الثابت أو الصورة الكاريكاتورية.

ويخلص الباحث بعد دراسته " فضاء المدينة بين الرواية التاريخية والرواية الواقعية (الحي الشعبي/ الحارة نموذجًا) " إلى أن فضاء الحي الشعبي في المدينة يتميز بالتنوع والاختلاف، و كثرة الأطياف والمستويات، وهذا الفضاء يختلف ما بين الرواية التاريخية والرواية الواقعية مثلما يتفقان في جوانب آخرى، فالمكان التاريخي محكوم بالخيارات والاحتمالات والإمكانات التي تتيحها الشروط التاريخية، فهو المكان الذي يمثل ناقلًا للأحداث التاريخية بما يمثل غنى الحياة الشعبية من الأبعاد المختلفة الاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية.

فمثلًا المتأمل لـ " ثلاثية غرناطة( غرناطة، مريمة، الرحيل )" لرضوى عاشور يلاحظ أن سطوة الوعي التاريخي، وكثافة الاستخلاصات الحضارية شدت الرواية نحو عالم المدينة، فلا تقتصر الرواية على بناء الوعي المديني وإنما هي نتاج الفضاء المديني، فالعناصر المكانية من الحمام والمتجر ودكان الوراقة ومؤسسات التعليم، والاهتمام بالعلم الطبيعي، والامتزاج المكاني بين البلاد الأندلسية، وانفساح المكان داخل هذه الديار، من غرناطة، إلى قرطبة، إلى البشرات، إلى الشوارع والبيوت والحواري والصناديق.من الإقامة إلى الرحيل، من الأندلس إلى المغرب إلى ديار بني عثمان ومصر والقدس، ثم أخيرًا في مد العلاقة مع أمريكا حيث الوجود الإسباني الاستيطاني، وثنائية الضعف والقوة، وثنائية المحتل /المستعبد، ذات محمولات رمزية أتاحها الفضاء التاريخي.

فالممكن المتحقق لم يزد على تصور الكاتبة لفضاء الأندلس الحضاري، المقيد بمرحلة فيها التقدم مداه والحضارة غايتها. ولم يكن بد من أن يظهر هذا في الرواية ؛ لأن صورة القوة الروحية والعلمية والحضارية والثقافية والاجتماعية هي إلى جانب الفضاء العربي الإسلامي المتمثل بالحي الشعبي. ولم يكن مطلوبًا من الرواية أن تعكس الوهن السياسي الذي أصاب مؤسسة الحكم على فضاء الحي الشعبي بصورة مباشرة، وإن ظهرت لهذا الملمح تجليات مختلفة، ومع ذلك فقد ربطت لغة السرد بين هذا الفضاء المنتزع من سياقه وبين فضاء الحياة الشعبية الإسلامية القاهرية في العادات وسيمياء اللغة ومظاهر السلوك.

على أن الفضاء الشعبي في الرواية الواقعية بدأ أضيق من فضاء ثلاثية غرناطة، لأسباب منها: غنى الحي الشعبي وتعدد عناصره في المكان والشخوص، ولتحكم اللحظة الحاضرة بحركة الأفكار والناس، ولانحسار المد الحضاري الذي كانت الأندلس آخر تجلياته ؛ وبذلك انحصرت الحركة في الزقاق والمنطقة المحيطة به في " زقاق المدق" لنجيب محفوظ؛ فلم تكن العلاقة إلا لبيان التناقض بين الفقر والغنى، أو بين الحياة البسيطة حتى في التمتع بملاذ الحياة وبين الحياة المترفة التي تنشد نحو التحرر من القيم المتوارثة. فعالم الرواية يقف بشيء من التفصيل عند حياة حميدة، وعباس الحلو، وحسين كرشة، والمعلم كرشة ومن يحيط بهم من شخصيات أشبه بديكور الحياة الشعبية بما يحمله من محمولات رمزية مولدة لأشكال من التأويل.

وأما " وقائع حارة الزعفراني " لجمال الغيطاني، فهي على اعتمادها الأسطورة والسحر والخرافة لا تكاد تنفتح على العالم الخارجي، إلا كما تنفتح بوابة الزقاق الضيق على مقهى المعلم كرشة، فمقهى الداطوري هو الذي يستقبل القادمين من مقيمين وطارئين وسواح، والذين يعبرون إليه أو ينتقلون منه، لا يشكلون ما يلفت النظر باستثناء بعض العناصر المشوهة من مثل القواد التكرلي، أو العناصر المضطهدة من مثل رمانه السياسي، أو العمال والموظفين الذين يعملون خارج الزقاق من مثل سائق القطار. ومعظم الذين اتصلوا بالأماكن التي تقع خارج الحارة، هم الآن في حكم المتقاعدين، ولا يملكون ماضيًا موضوعيًا جيدًا، إما راقصة ادخرت من المال ما تحتفظ فيه بزوج يزعم أنه حارب في فلسطين، وقابل للاضطهاد، أو صول يجتر ذكرياته في خدمة الملك والطبقة الحاكمة وهو الصول سلام، أو موظف مضطهد أخنى عليه الدهر وفقد عقله من مثل حسن أنور، أو سجين أمضى زمنًا في السجن ولا يكاد يخرج من بيته، من مثل رمانه السياسي. أو فتاة تزوجت في الخارج وعادت محملة بعذاب القسوة والاضطهاد. والذين يفدون إليه يمارسون أعمالًا شاذة أو غريبة من مثل عويس الفران الصعيدي الذي مارس في البداية أحط الأدوار ليحقق أمنيته المتواضعة، ثم انتهى في سياق سلطة الظل وعالم الطلسم الذي تتوحد فيه الخرافة والأسطورة مع الرمز المفتوح على عالم التأويل الفسيح.

فعالم الحارة الذي يمتد في طبقات وحفريات حضارية متراكمة بالغ التنوع والثراء، يقدم نماذج بشرية مشوهة، في الداخل والخارج فرض الانغلاق وضيق المساحة ومحدودية حركة هذا الواقع، فليس من مؤهلات موضوعية باستثناء نماذج تسعى إلى التسلح بالعلم من مثل طالب الصحافة، والمعلمة نبيلة والمعلم عاطف. وتبقى للزقاق حركته حين لفظ التكرلي وزوجته، ولكنه ظل يحتفظ بمن هم مرشحون للإقصاء من مثل المعلم ضاني.

ويكشف الباحث في بحثه عن "الرواية التاريخية والتاريخ الاجتماعي أرض السواد نموذجًا" تناول عبد الرحمن منيف الخاص للرواية التاريخية من منظور اجتماعي، فهو لم يقف عند الأحداث التاريخية والسلالات الحاكمة دون إدراك العلاقات العميقة التي تؤسس لحركة الاقتصاد والمجتمع والمنظومات السياسية المسيطرة. فهو حاول قراءة تطور المجتمع من خلال منظومة فكرية،تستدعي من التطور التاريخي والأشكال والبنى الاجتماعية في التاريخ ما يضيء وعي الحاضر، ويستدعي من الحاضر ما يجعل التاريخ وعيًا متوهجًا وحركة وحياة.

وروايته "أرض السواد" بأجزائها الثلاثة تؤكد ما سبق، فهي تقف عند حقبة مهمة من تاريخ العراق والمنطقة شهدت فترة من الصراعات الفاصلة بين قوى تأفل من مثل الدولة العثمانية _الرجل المريض_ وقوى استعمارية مدججة بالمعرفة والتكنولوجيا والنزعة الاستعمارية المسلحة بالقوة العاتية، وتحاول أن تحلل العلاقات المتشابكة من خلال قطر أو ولاية عربية عثمانية تحاول أن تجد لها دورًا في خضم هذا العالم الذي يمور بالتحولات والتغيرات والصراعات. واستطاعت الرواية أن تتغلغل في صميم الحياة الاجتماعية والشعبية للعراق، واستخدمت اللغة الشفوية لتجلي هذه الحياة، ولعل للرواية موقفًا متسقًا من قضيتين هما: البداوة والاستشرق، وإذا كانت الرواية مبنية على الوقائع التاريخية العامة المعروفة فإن عبد الرحمن منيف قد جعل المتخيل الروائي هو الذي يتحكم في التاريخ، ويقود خطا عناصرها المختلفة.

ويقف الباحث وقفة مناسبة عند لغة هذه الرواية وعلاقتها بالتحولات الاجتماعية، وطبيعة هذه التحولات من خلال حركة المجتمع التي تعيش مخاضًا عسيرًا.

ويقدم الباحث قراءة واعية لـ " ثقافة الخوف في الرواية العربية الحديثة روايتا "أمريكانلي" و"مريم الحكايا"نموذجًا" ؛ ذلك ان رواية " مريم الحكايا" لعلوية صبح، تنطلق من واقع الذات اللبنانية والعربية لتعاين ثقافة الخوف المتجذرة في نسيج البناء الاجتماعي مدعومًا بعوامل التخلف الذي جعل المرأة دائمًا تعاني سطوة الخوف لعدم قدرتها على الخروج من المعادلة الراسخة مهما تؤت من عناصر القوة الوهمية، من مثل التعليم والثقافة والوظيفة والمكانة الاجتماعية، وتعزز ثقافة الخوف في الداخل عناصر خارجية تتبنى نشر الثقافة والسلام الاجتماعي والدفاع عن حقوق الإنسان، بيد أن هيمنتها على الدول والحكومات والشعوب إلى جانب تسخيرها لمقدرات التكنولوجيا والتعليم والتربية والإعلام تقدم الدليل على أنها غير قادرة على إثبات أنها نقيض لأسس ثقافة الخوف ومصادرها. فالعدو الصهيوني والآلة العسكرية الجبارة من رموز ثقافة الخوف التي تبدو أحيانًا معززة لعناصر الخوف العاتية في الداخل على صعيد الحكومات أو ضدها وفي الأمرين تعزيز للخوف وتوطين.

وأما رواية أمريكانلي فهي تنطلق من الخارج فتؤكد هذه الثقافة من خلال عالم مزيف، يتحدث عن حقوق الإنسان، ولكن الباطن يكشف النقيض، فالديمقراطية والشعارات والأبطال التاريخيون والرموز القوميون والقيم والحرية ليست إلا نقيضًا لكل ما تومىء إليه، وإذا الدائرة تنغلق على عالم يسوده الخوف بألسنتهم يعززونها بأيديهم، فهم لا يفكرون في قراءة الواقع وتحليل معطياته والوقوف على الأسباب حتى يروا العلاقة بينها وبين النتائج، ولذا عمدت الرواية إلى التركيز على المفارقات التي تسود الواقع في أمريكا، وتنتقل من هذه المفارقات في الداخل إلى مفارقات تتكىء على الخارج، من مثل المقارنة بين وضع الفرد في كل من مصر وأمريكا دون وضوح مسافة مطلقة بين اللونين، إذ تظل العلاقة ملتبسة ؛ لأن حقيقة الصورة الحالمة للذين ينشدون الأمن والسلام في الخارج أنهم يعيشون الوهم الكبير.

ويرصد الباحث في "رواية إبراهيم الكاتب تقاطعات السرد بين السيرة الذاتية والرواية"،فهذه الرواية تتقاطع أكثر من غيرها من الروايات مع السيرة الذاتية، ذلك أن نظرة المازني للحياة والمجتمع والواقع عميقة جدًا، ومع هذا فإنه كان يعرض للقضايا كلها بسخرية وهزل، بما يقرب روايته بروحها الفكاهية من السيرة الذاتية. إن رواية "إبراهيم الكاتب" تزخر بإشارات ثقافية متنوعة، جعلتها تفارق نهاية روايات جيله في ذلك الحين، فهي تقوم على بعد فلسفي أعمق مما ظهر في رواية زينب، وتقوم، كذلك، على المفاجآت، ولكنها أكثر واقعية من مثيلاتها، فهي تتعرض لحالات الناس وتفاجئنا بتغيرهم.ولعل التعليم هو أحد أهداف السيرة الذاتية، وقد مثل هذا الهدف بوضوح في هذه الرواية، ويلاحظ الباحث أن لغة السارد مكتوبة بلغة واحدة من المعجم اللفظي نفسه إلى مستوى الدلالة الفكرية.وتعتمد الرواية الحديث عن نماذج بشرية أو أنماط تميل إلى الثبات في صفاتها لا في أفعالها، فهي ليست عصية على التطور لكن لها ملامح خاصة.ومع اختلاف موقف إبراهيم من الشخصيات المختلفة في الرواية فثمة منطق في موقفه منها، وليس ثمة تناقض فني في السلوك العام.

ويتوقف الباحث عند أعمال " إميل حبيبي وحركة التجريب في الرواية العربية الحديثة "، ويرى أن بدايات " التجريب"ظهرت في الرواية العربية من خلال التأثر بالرواية النفسية والإفادة من تيار الوعي خاصة، والتأثر بالأدب الوجودي، وبالرواية الجديدة، وقد جسدت الرواية العربية تيارًا جديدًا يعد إميل حبيبي من أبرز ممثليه، وهو " تيار التجريب" باتجاه التراث خاصة، وهو تيار لا يندرج ضمن الاتجاه الإحيائي، وإنما يستعين بالتراث ليشكل رؤيته المعاصرة كما يشاء، ولا يرضخ لشروط التراث وشروطه التاريخية.فإميل حبيبي يركز على موضوع واحد، وهو الموقف من الفلسطيني الذي بقي على أرضه يقاوم الاجتثاث، وهو يدرك أن اللغة لها دور أساسي في تعزيز هذه المقاومة ضد الاجتثاث، كما أنه أفاد من اتجاه الواقعية السحرية التي يعد "ماركيز" من أهم ممثليها، وقد نجح في اقتناص الحكايات الشعبية القديمة والمحلية ولا سيما الحكايات الفلسطينية في منطقة الكرمل، وقدمها بلغة خاصة جمع فيها بين النفس الساخر والمفارقات العجيبة.

ويعاين الباحث صلة " الطاهر وطّار والتراث روايتا " الحوات والقصر " واللاز" نموذجًا"، فيلاحظ أن الطاهر وطار في هاتين الروايتين ينطلق من رؤية واقعية عامة بلا ضفاف، في الفترة التي غلبت فيها حركة الحداثة أو ما بعد الواقعية، وهو في واقعيته لا يوغل في التجريب ولا يتقيد تمامًا بعناصر الواقعية وآلياتها، وهو ما يؤكد وعي الطاهر وطار بطبيعة المنجز الروائي وتطوره في شتى الاتجاهات الفنية والمضمونية، ويكشف عن ثقافة الكاتب ووعيه بالكتابة الروائية وتطوراتها من خلال وعيه بالواقع وتحولات الزمن.

ويقرأ "رواية خلسات الكرى لجمال الغيطاني من تقاطع التقنيات إلى تقاطع الأجناس" قراءة نقدية مميزة تظهر أن هذه الرواية تأخذ من ملامح السيرة الذاتية، فيقاطع فيها الكاتب مع الراوي، مثلما يتقاطعان فيما يشبه أدب الرحلات وأحيانًا المذكرات واليوميات من حديث عن حياة الراوي/ الكاتب طفولته وصباه وشبابه وكهولته، إلى الأعمال التي قام بها والأحداث التي مرت به والأسفار التي كابدها والتجارب التي عاناها في تلك الأسفار، وعلاقته بالناس وامتدادها في أقطار أخرى.وقد أتاح الغيطاني لنفسه حرية واسعة في فهم معنى الرواية، واستمر في الإفادة من مفهوم التصوف ولغته ومصطلحاته في بناء الرواية، وفي أسلوب سردها، ولعل مسوغه واضح فيما ذهب إليه من تشكيل جديد، إذ أقامها على تقنية حلمية، تتقاطع مع عالم اللاوعي. مثلما أفاد من الطرائق التراثية في السرد القصصي، حيث يشرك القارىء في زمن القص.

ويختم الباحث كتابه القيم ببحثه عن " ذاكرة الجسد بين الدم والذاكرة" الذي يقدم فيه قراءة نقدية لرواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، يرى فيها أن الرواية قامت على فاعلية الذاكرة في مقابل ذكرى الدم،، الشهادة وبتر الذراع انتهاء بالدم الذي استدعى الماضي وعمّق في وجدان خالد الحس الفجائعي حين لم يصرّح إلا بالذاكرة دم البراءة في زواج أحلام ودم حسان الذي لم يجد الثلاجة في حياته فلقيها أو استقر فيها بعد موته. واستطاعت الرواية أن تعكس خيبة الأحلام والآمال الكبيرة. وقد تناولت أحلام مستغانمي قضية شائكة حساسة هي " تحولات الوعي اتجاه الثورة الجزائرية بين الحلم والواقع، بين طهرية الثائر وانتهازية الحاكم"، واستطاعت من خلال أسلوبها في السرد أن تقيم ما يشبه القناع في مواجهة البوح الذاتي، حتى كادت تقنع القارىء، بأن الراوي (خالد)هو رجل مع شيء من الاستثناء حين كانت لغة الأنثى تطل بوجه نزاري.

المصدر:

إبراهيم السعافين، الرواية العربية تبحر من جديد (دراسات في الرواية العربية الحديثة)، دار العالم العربي، دبي، 2007م.


مشاركة منتدى

  • لاشك أن هذه الدراسة المستفيضة قد اختصت بعالم السرد والحكي في تراثنا العربي ، بل في عمق ثقافتنا المفتونة بالعجائبية أو ما نسميه الغرابة والاندهاش مما قد يكسب النص المحكي تأصيلا معرفيا قائما على روح تليدة، غائرة في الماضي السحيق....
    إن تراثنا زاخر بمثل هذه النصوص التي ىن الأوان للذننفض عنها الغبار ونقرأها بروح متمرسة ، طيعة على مغازلة قضاياها وفهم دلالاتها وابعادها المعرفية والثقافية...
    إن عالم السرد صار يشكل بقعة غامرة بتلقي العجائبية التي اصلت لمفهوم النص قديما وحديثا...
    شكرا لك ايها الكريم على نصوصك الرائعة المعتمة بالسرد الحكائي...ومزيدا من التألق ....

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى