الخميس ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم هدى محمد قزع

اللغة العربية في الحاضر والمستقبل

موضوع اللغة العربية في حاضرها ومستقبلها طويل ومتشعب، ولا يمكن الإحاطة به، وحاضر اللغة العربية يبدأ من بداية عصر النهضة الأدبية الحديثة أي مطالع القرن التاسع عشر، حينما رأى محمد علي والي مصر (وهو غير عربي في بلد عربي) أنه لا نهضة لبلده الذي يحكمه (مصر) إلا بالعلم. ولذلك أنشأ عددًا مما نسميه الآن الكليات وسماها، أو سماها جماعته المشرفون كما كان العرب يسمونها «المدارس».

فأسس عددًا من المدارس الطبية والهندسية والزراعية والعلمية المختلفة، ورأى أنه لا نهضة للعلم بعد إنشاء المدارس، إلا إذا كان التعليم بالعربية (لغة أهل البلد) ؛ من أجل هذا استقدم عددًا من العلماء من مختلف أقطار أوروبا، وعين مع كل مدرس منهم رجلًا مصريًا يحسن لغة ذلك المدرس، فالمدرس يلقي العلم بلغته الفرنسية، أو الإنجليزية، أو الألمانية، والمصري يترجم إلى اللغة العربية هذا الدرس الذي يلقيه ذلك المدرس ومن حصيلة هذه الترجمات، التي جمعت في كتب، أصبح عندهم في تلك المدارس مؤلفات تدريسية باللغة العربية.

ولكن محمد علي لم يكتف بذلك وإنما أوفد بعثات إلى البلاد الأوروبية وخاصة إلى فرنسا، من أجل أن يستزيدوا من طلب العلم، وكان الذين أوفدهم من خريجي الأزهر الشريف بعد أن تمكنوا من اللغة العربية، وكان يوفد مع كل بعثة إمامًا يؤمهم في الصلاة، وكان من هؤلاء الأئمة في إحدى البعثات رفاعة رافع الطهطاوي، أبو النهضة العلمية والأدبية و الفكرية والثقافية في مصر، الذي لم يقبل أن يكون مجرد إمامًا يؤمهم، وإنما أدخل نفسه أيضًا عضوًا في البعثة، والتحق في الدراسة، وأصدر لنا بعد ذلك كتابًا نفيسًا هو "تخليص الإبريز في تلخيص باريس"، هذا الكتاب ذكر فيه أشياء يحسن أن يطلع عليها من يريد أن يعرف بوادر النهضة الفكرية الأدبية وخاصة في مصر.

ذكر مؤلف هذا الكتاب، أن الوالي محمد علي كان يتابع أخبار هذه البعثات،و يرسل إليهم رسائل يحثهم على الجد في الدراسة، وكانت أخبارهم تصل إليه، فيرسل منبهًا من قصّرَ في دراسته لكي يعوض ما فاته من الدراسة، ثم زاد على ذلك، بأن طلب من كل طالب منهم أن يترجم كتابًا في تخصصه أو مما يحيط بتخصصه من الدراسات إلى اللغة العربية، فتجمعت أعداد لا بأس بها من ترجمات العربية لهذه المواد التي درسوها، وأضيفت أيضًا إلى ما كان قد أعده الذين ترجموا للمدرسين من كتب، وأصبحت كلها كتبًا تدرس في هذه المدارس العليا.

واستمر التدريس في اللغة العربية إلى أن ابتليت مصر بالاحتلال البريطاني في سنة 1882م، الذي عمل على تحويل التدريس في جميع المراحل في التعليم العام إلى اللغة الإنجليزية، وبقينا نحن إلى يوم الناس هذا نتبع آثار الإنجليز الذين احتلوا مصر، ندرس الطب والهندسة والزراعة والصيدلة وما يشبه ذلك باللغة الإنجليزية. وبدل أن يتقلص هذا التدريس باللغة الإنجليزية، أصبح يتوسع وينتشر، وأصبحت الآن بعض المواد التي كانت تدرس في اللغة العربية في بعض الكليات تدرس باللغة الإنجليزية وبكل أسف.

في الوقت نفسه أوقريب من ذلك الوقت، أنشئ في بيروت مدرسة أمريكية هي الكلية البروتستنية السورية (1866)، وكان التدريس في مدرسة الطب فيها، وفي مدرسة الهندسة وفي بقية العلوم باللغة العربية، وكان من جملة مؤسسي هذه الكلية طبيب عالم متقن للغة العربية أمريكي من أصل هولندي اسمه "فان دايك"، ألف في موضوعات مختلفة (في الفلك والطب والرياضيات والهندسة وغيرها ) اثني عشر كتابًا باللغة العربية، وكانت تدرس في هذه الكلية.

وحينما انتكس التعليم بأمر من الاحتلال الإنجليزي، انتكس التعليم أيضًا في هذه المدرسة، فحوّل الأمريكان التدريس إلى اللغة الإنجليزية، واحتج فان دايك وبعض الأساتذة ولكن لم يلتفت لهم، فاستقال فان دايك مع أنه كان من مؤسسيها.

ومنذ العهد الفيصلي في سوريا 1919 قامت كلية الطب في الجامعة السورية في دمشق، وكان التدريس فيها باللغة العربية ولا يزال، وأطباء دمشق الذين تعلموا بالعربية، كانوا حينما يذهبون للدول الغربية يتفوقون في دراساتهم.
وقد قامت محاولات لجمع المصطلحات العلمية، من خلال الاطلاع على كتب الطب العربي القديمة واستخراج ما فيها من مصطلحات، من مثل محاولة (حسني سبح) الذي واجه المصطلحات الأجنبية ليضع مقابلا عربيا.

ثم قامت المجامع اللغوية في دمشق والقاهرة بالعناية بالمصطلح العلمي فصدر عن المجمعين آلاف الآلاف من المصطلحات في مختلف الموضوعات ثم جمعت في مجلدات، إذ صدر عن مجمع القاهرة عشرة مجلدات، ثم وضعت في شبكة المعلومات لتيسير الاطلاع عليها.

ولا يخفى على أحد الهجوم المستمر منذ أواخر القرن التاسع عشر على اللغة العربية، ونعتها بأقبح النعوت التي تقال ولا تقال، أخفها أنها لغة ميتة واختفت، ونحن تبنينا بكل أسف ما يقال، فها هو "سعيد عقل" الشاعر العربي اللبناني الأصل، الذي كان للغة العربية الفضل الكبير بوجوده وشهرته، يرى أن اللغة العربية ماتت وانتهت ولذلك لا بدّ أن نلجأ في تعابيرنا إلى اللغة العامية وهي اللغة الحية، وهو سمى اللهجة لغة، ثم قال نلجأ إليها للتعبير، وغريب قوله حقًا فإلى أي لهجة نلجأ لنتحدث؟!

لا بد أن نفرق بين اللغة واللهجة. وأن نقول بكل أسف إننا أمة لا تتحدث لغتها وإنما لهجات متفرقة من هذه اللغة، وهذا الذي جعل المستشرق "برنارد لويس" يصدر كتابًا عن العرب والعربية بعنوان (The Arabs in History) صرح فيه انه لا توجد أمة عربية ولا توجد لغة عربية.

والحاضر هو الذي مهد السبيل لغيرنا لينفذوا من ثغرات موجودة عندنا ويطعوننا، انظروا إلى جوازات السفر كلها هل تجدون حاملًا جواز السفر ينتسب إلى العرب ـ ويقال عنه عربي ـ ؟يقال له أردني، أو لبناني...إلخ.

إن ما ذكره أ.د ناصر الدين الأسد عن التعليم باللغة العربية هو رد واضح على من يقول إن اللغة العربية هي لغة عاجزة، ولا تستطيع أن تفي بحاجات العلم الحديث ولا تستطيع أن تواكب العصر وتستجيب لمتطلباته.

وقد استشهد أ.د ناصر الدين من الحاضر، وبعض هذا الحاضر ما زال مستمرًا في الجامعات السورية.

نحن نستطيع أن نرد على من يهاجم لغتنا وعروبتنا من واقع الأمور، لكن المخاطر المحدقة بالعربية كثيرة، وهي ليست مخاطر مباشرة باللغة، وإنما هي مخاطر ترمي إلى النفس العربية، فاللغة قائمة ومستمرة.

وقد ضرب أ.د ناصر الدين أمثلة في الكتب العلمية، ولا يمكننا أن نصدق ما يقال لنا عن عجز هذه اللغة.إذ لا يعجز أي مترجم لأي مادة أجنبية بأن يصوغ باللغة العربية ما عدا المصطلح، فمع كثرة المصطلحات، لكن الابتكارات والاختراعات أكثر بكثير من قدرة الذين يضعون المصطلحات، ولذلك هي دائمًا تسبقهم.

ينبغي أن نقبل هذا المصطلح كما وضعه أهله، بحيث لا يكون هذا المصطلح عائقًا بالتأليف والتدريس باللغة العربية إلى أن يمر الوقت الكافي بحيث تكون لنا مصطلحاتنا.

والسؤال الذي ما زال شاخصا، متى؟

حينما يصبح العلم علمنا، نخترع ونكتشف، يسمى المنجز باللغة العربية باسمه، كما أخذوا منّا في الماضي.

لا يجوز إذا أن نتصور أنه ما دامت المصطلحات العربية غير جاهزة لا نستطيع التدريس بالعربية، سيأتي المصطلح تلقائيًا، حينما نبدأ التدريس بالعربية، ويكون العلم علمنا نحن.
مستقبل هذه اللغة مرهون بنا نحن، لكن من نحن؟

تلامذة المدارس التي فرغت مناهجها وكتبها من اللغة العربية ؟! انظروا في جميع مراحل التعليم العام كيف فرغت الكتب من كل ما يتصل بالتاريخ العربي الإسلامي واللغة العربية.
الخوف ليس على اللغة وإنما أهلها الذين سيعقبوننا، فالمخاطر للمستقبل.

بعض أصحاب مجامع اللغة العربية، قال إن اليونسكو قالت إن اللغة العربية ستنقرض، وحينما تحرى أ.د ناصر الدين ما قالته اليونسكو وجده مخالفا للحقيقة، إذ جاء في تقرير اليونسكو ان بعض اللغات ستنقرض لكن من اللغات التي ستبقى العربية.

هذا القول لأنه حسن لم ينتشر، ونشر السوء والزيف.

الخطر الثاني من أجل المستقبل هو أن يذهب قادتنا إلى المحافل الدولية، فيتحدثون بغير اللغة العربية، مع انها وبعد جهاد طويل، أصبحت لغة عمل بعد أن كانت من قبل لغة رسمية، يعني يمكن التحدث فيها في هيئة الأمم المتحدة، وتترجم الأمم كل مطبوعاتها لها.

اللغة العربية هي اللغة السادسة في الأمم، وشأنها شأن اللغات الخمس لكن أصبحت الأمم في طور التراجع عن هذا القرار بحجتين:

إن بعض الزعماء العرب يتحدثون بالأجنبية عندما يأتون للجمعية العامة والمنظمة.

والدول العربية تتقاعس عن دفع مخصصات الترجمة والطبع والنشر في اللغة العربية.

وكل هذا يدعو اليونسكو إلى التراجع عن قرارها، وان تعيد العربية لغة رسمية كما كانت، وتلغي قرار عدّها لغة عمل.

نحن المسؤولون عن هذه اللغة وليست اللغة، ولا بدّ لنا أن نشيع الحديث بالعربية، وأن نجعل التعليم بها في كل المراحل التعليمية، وأن ينبري القادة إلى تثبيت اللغة العربية في المحافل الدولية، وانتهت المحاضرة، ولم ينته الحديث...

* ألقيت هذه المحاضرة في مناسبة اليوم العالمي للغة العربية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى