منهج شوقي ضيف في دراسة الأدب العربي
تتناول هذه المقالة بإيجاز شديد أبرز الخطوط المائزة لمنهج شوقي ضيف في دراسة الأدب العربي، من خلال استقراء مؤلفاته في ذلك الغرض، وذلك ابتداء من توجهه لتأريخ الأدب العربي ضمن سلسلته الممتدة في عشرة أجزاء، مرورًا بدراستيه حول الفن الشعري والنثري، وختامًا بدراساته عن الأدباء والقضايا الأدبية ضمن مؤلفات خاصة.
والهدف من هذا الاستقراء هو تبين أوجه منهج شوقي ضيف، وتسجيل أبرز المناهج الموظفة في دراسته للأدب العربي.
لقد تصدى شوقي ضيف في العديد من مؤلفاته لدراسة الأدب العربي، من جوانب عديدة،أظهرها التأريخ للأدب العربي، ضمن سلسلة تاريخ الأدب العربي، بعدما رأى أن جهود المحدثين من عرب ومستشرقين [1] لم تبسط الحديث في الأدب والأدباء العرب على مر التاريخ بسطًا مفصلًا [2]من الجاهلية إلى العصر الحديث.
لذلك سعى جاهدًا إلى التركيز على دراسة الأدب بمعناه الخاص [3]، من خلال الجمع بين أنظار منهجية متباينة، لدراسة الظواهر الأدبية «عصورًا واتجاهات وتيارات، أو أشكالًا أدبية، أو شخصيات أدبية» [4]، مما يساهم في نقل التصور الشمولي لتالأدب بشقيه «الشفاهي والكتابي» [5]، مع التأكيد أن دراسة حاضر الأدب لا تنفصل عن ماضيه لذلك لا بدّ من تأصيل الظواهر والموازنة بينها [6].
وقد نهج شوقي ضيف في تأريخه للأدب، منهج التقسيم إلى عصور أدبية تبعًا للتقسيمات السياسية للعصور، فقسم العصور الأدبية إلى خمسة أقسام [7]، يبدأ أولها في العصر الجاهلي، في حين ينتهي القسم الأخير في العصر الحديث.
وتقسيم شوقي ضيف للعصور الأدبية، يتميز من غيره، ممن اتبعوا المنهج التاريخي في دراسة الأدب، في أنه جمع بتأريخه بين عنصري الزمان والمكان، ويتضح ذلك جليًا في عصر الدول والإمارات [8].
وقد تناول شوقي ضيف العصر العباسي ضمن فترتين [9]، وهو بهذا يفترق عن الذين قسموا العصر إلى فترات عديدة [10].
وإذ جمع شوقي ضيف في عصر الدول والإمارات أقاليم عديدة، وأرخ لأدبها على حدّة، إلا انه أكد أنه ثمة وحدة فكرية وشعورية وروحية تجمع هذه الأقاليم المختلفة [11]، في مراحلها المتباينة المؤرخ لها.
واعتاد شوقي ضيف أن يبدأ دراسته لأي عصر من العصور الأدبية المؤرخ لها، بدراسة طبيعة الحياة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والعقلية [12]، ثم يتبعها بدراسة الأغراض الأدبية الشعرية منها والنثرية، ومن ثم يقدم تراجم الأدباء.
وقد يتباين التناول المنهجي للعصور، إذ يتحدث شوقي في العصر الجاهلي عن خصائص الشعر [13]، في حين أنه يتحدث في عصر الدول الإمارات عن السياسية والمجتمع، ويفرد للثقافة فصلًا [14]. وفي العصر العباسي فَصَلَ شوقي ضيف الجانب السياسي عن الاجتماعي [15].
أما عن تناول شوقي ضيف للأغراض الأدبية في تأريخه للأدب، فيبدو لي أنه كان يصف حركة الغرض في العصر الذي يؤرخ له، ويبين مدى شيوع هذا الغرض وتحولاته، ولكنه لم يتبع المنهج الاستقرائي ، ويتتبع الغرض نفسه في مسيرته الأدبية والتاريخية.
وقد لحظت أن شوقي ضيف كان تارة يربط الغرض بجانبه الاجتماعي من مثل تناوله لغرض " المديح، والرثاء، والهجاء"، وتارة يربطه بالجانب الفردي الذاتي لا سيما في تناوله لغرض " المجون، والخمريات، والغزل".
وقد قدم شوقي في تأريخه الغرض العام على الخاص"الذاتي" [16]،، وأظهر ما يبين عن هذا توسعه الملحوظ بدراسة غرض المديح، ورؤيته المباينة لغيره من النقاد في شعر المديح [17]، ولطالما ربط شوقي ضيف شعر المديح بالسياسية [18].
أما عن التراجم الأدبية التي قدمها في تأريخه للأدب، فقد تناول فيها ملامح تاريخية للشخصية التي تدور فيها الترجمة، واعتمد على مصارد القدماء والمحدثين فيما روى من أخبار عن الشعراء.
وقد أبان عن تفاعل العوامل المختلفة في تكوين عدد من الشخصيات الأدبية، وأشار إلى جانب تأثير اختلاط الأجناس [19].
وظهر لي أن تناوله للتراجم جاء تبعًا لشهرة الشاعر، أو شهرة الغرض الذي كان يتميز به.
أما عن الجانب النثري فقد غلبت النمطية على التقسيمات التي اتخذها شوقي ضيف، ولم أجد تصنيفًا مميزًا، وإنما وقعت على وصف مجرد موجز، وتناول سريع للأدباء وأغراض النثر.
وبعد هذا التطواف القصير في رحاب منهج شوقي في تأريخه للأدب، حري بي التنبيه إلى بعض المآخذ التي أجدها في منهجه، وقبل هذا أود تسجيل أهم الأنماط الملحوظة في هذا المنهج وهي:
– نمط تحكم السياسة في حركة الأدب.
– نمط تغلب عليه الرؤية الوضعية، الكامنة في البحث عن العلل الكامنة، وراء الوقائع الأدبية.
– نمط يجمع بين التحليل التاريخي، والتقويم الفني، مع إعطاء أهمية كبرى للمؤلِف على حساب المؤلَف.
أما عن أبرز المآخذ على منهج شوقي ضيف في دراسته لتاريخ الأدب فهي:
– عدم وضوح الأسس المتبعة في تقسيم الأدباء والأغراض.
– تركيزه على ترجمة الشعراء المشهورين دون الالتفات للمغمورين منهم.
– النمطية التي اعتمدها في دراسة النثر العربي.
– أحكامه الانطباعية التي تبتعد عن روح النقد [20].
– ربطه تطور الأدب وأغراضه بالسياسة، دون الالتفات لتأثير الأدب بالسياسة.
– اختلاط البيئات دون أي رابط مسوغ، إذ يجمع بين بيئات «السودان، والعراق» دون أن نلمح عنصرًا جامعًا لها.
– عدم وفائه بما وعد به في مقدمة سلسلة تاريخ الأدب، من سعي لدراسة الأدب في العصر الحديث في عدّة أجزاء من البلاد العربية.
إذ انه اقتصر على البعد الإقليمي ودرس الأدب في مصر فقط.
ولا يمكننا عد كتابه المعنون ب«دراسات في الشعر العربي المعاصر» _ وهو دراسات نقدية تحليلية لطائفة من شعراء العرب المعاصرين في مصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، وتونس؛ لتصوير مدى احتفاظهم بشخصية شعرنا العربي ومقوماته مع تمثلهم الدقيق للشعر الغربي ومناهجه وأنماطه المختلفة _ من قبيل التأريخ للأدب العربي.
وقد آنست تأخير الحديث عن بعض المؤلفات التي تحمل سمتًا تاريخًا، ولكنها لم تغرق فيه، من مثل:
«الشعر والغناء في المدينة ومكة في عصر بني أمية» وهو دراسة جامعة للصلات الوثيقة بين حركة الغناء في المدينتين لعصر بني أمية وأثرها في لغة الشعر وأوزانه وما حدث فيها من تجزيئات وما دفعت إليه من ظهور بعض الأوزان الجديدة.
ومثله: «التطور والتجديد في الشعر الأموي»، وفيه صحح شوقي ضيف ما شاع بين الباحثين عن الأدب العربي من عرب ومستشرقين، من أن الشعر الأموي صورة مطابقة للشعر الجاهلي، مثبتاً ما حدث من تطور وتجديد واسعين فيه بعامل مثالية الإسلام الرفيعة وما تأثر به الشعراء الأمويون من مذاهب سياسية وثقافية وعقلية ومؤثرات حضارية.
والتأريخ للأدب العربي ليس هو المنهج الوحيد في دراسته للأدب وإنما نراه ينهج نحو منحى آخر يحاول فيه جمع شعراء من مختلف العصور وتوحيدهم في مدرسة أدبية جامعة قائمة على الوحدة الفنية، وذلك في مؤلفيه:
– الفن ومذاهبه في الشعر العربي (1943).
– الفن ومذاهبه في النثر العربي (1946).
وفيهما يصدر شوقي عن وجهة واحدة ترى أن الأدب العربي شعره ونثره لم يحدث فيهما تجديد، فالشعر العربي هو شعر محافظ واستمر في أغلب صوره على نهج واحد ومثله النثر، وقد ميز شوقي بين ثلاثة مذاهب هي: «الصنعة، والتصنع، والتصنيع».
وفي هذا الصنيع يكون شوقي ضيف قد أخضع الفن للأثر الزمني، إذ عوض أن يكون تطور الفنون أداة تجسد البراعة، جعل الشعر والنثر في باب الصنعة، مع أنهما من الطبع ليسا ببعيدين منذ عهود الشفاهية.
ولكن مما يحسب له حقًا، هو إعادته النظر في ما كتبه من أحكام، إذا ظهر له ما يجعله يغير وجهة نظره، وقد بدا هذا في ما كتبه عن الأدب الأندلسي في كتابيه :الفن ومذاهبه في الشعر العربي، والفن ومذاهبه في النثر العربي، في عامي 1943 و1946.
إذ أعاد النظر في حكمه على هذا الأدب الذي رآه وقتها لا يختلف عن الصورة المشرقية في الشعر والنثر معاً، وذلك في كتابه عن "الأدب الاندلسي" الذي صدر عام 1989، فهو تبين الوجه المشرق للأدب الأندلسي بعد تحقيقه لكتاب "المغرب في حلى المغرب" لابن سعيد عام 1953، وأحب أن يقدم صورة كلية متكاملة عن الأندلس وحياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، وما كان فيها من حضارة وثقافة وعلوم وفلسفات وتاريخ، فضلا عن تأريخه لحياة الشعر والشعراء والنثر والكتاب.
وأيضًا نجد شوقي يتوجه بالدراسة الأدبية وجهة أخرى حينما يدرس أحد الفنون الأدبية ويتتبعها في مسيرتها عبر الزمان، وما طرأ عليها من التغيرات.
من مثل دراسته للفنون الشعرية في سلسلته الصادرة عن دار المعارف:
– الرثاء ( 1955).
– و البطولة في الشعر العربي ( 1969).
– ودراسته لفنون نثرية:
– المقامة ( 1954)
– والترجمة الشخصية( 1956).
– و الرحلات ( 1956).
وقد درس شوقي العديد من القضايا الأدبية، وكشف عن ضروب التطور في الأغراض الأدبية في العديد من الدراسات.
ووظف في وجهة منهجية أخرى المنهج التكاملي في دراسة شخصيات الأدباء الذين أفرد لهم مؤلفات من مثل دراسته لابن زيدون، والبارودي، وشوقي، والعقاد.
فمثلًا في دراسته المعنونة ب «شوقي شاعر العصر الحديث (1953)»، وظف المنهج النفسي من خلال دراسته لمسودات الشاعر، وأيضًا استعان بالمنهج التاريخي. وقد قدم عرضاً تاريخياً نقدياً تحليلياً لسيرة شوقي ومكونات صناعته الشعرية والتقاء تيارين: قديم وجديد في شعره والمؤثرات المختلفة التي تركت آثاراً عميقة فيه، مع دراسة تحليلية مفصلة لمسرحياته ومقوماتها في مآسيه المصرية والعربية وملهاة الست هدى وخاتمة عن نثره.
ويمكن عد كتابه «ابن زيدون الشاعر الأندلسي» دراسة تحليلية لعصر ابن زيدون سياسياً واجتماعياً وعقلياً، ولسيرته وما اضطرب فيه من حب وأحداث سياسية، ولديوانه وموضوعاته من غزل وغير غزل مع تحليل رسالتيه: الجدلية والهزلية.
وقد لمحت وجهة منهجية أخرى في بعض دراسات شوقي ضيف وهي الوجهة الإقليمية، وأظهر تمثلاتها ظهرت في مؤلفيه:
– تاريخ الأدب العربي في مصر 1957.
– والفكاهة في مصر 1958.
أخيرًا اتضح لي من خلال عرض بعض الجوانب المنهجية عند شوقي ضيف، بأن المنهج التاريخي في دراسة الأدب هو ما ميز دراساته الأدبية.
ولكنه لم يقتصر على ذلك المنهج وإنما وظف غيره من المناهج في سبيل تبين الفنون الأدبية، والمدارس الفنية في مؤلفات أخرى.
ومن الملاحظ أنه لم يستكمل الصورة المنهجية في تطبيقه لنظرية الفنون الأدبية والمدارس الفنية.
أما في اتخاذه للمنهج التكاملي فإنه ظهر في بعض دراساته للأدباء بأنه يغلب توظيف منهج على حساب منهج آخر وبأنه لا يستكمل بهذا أظهر مميزات الجانب التكاملي أو ما يتطلبه.
إذن يمكن القول تبعًا لهذا إن شوقي ضيف لم يكن يحبذ دراسة الأدب بمنهج واحد،إيمانًا منه بأن طبيعة الأدب معقدة، وتحتاج إلى توظيف مناهج عدّة في سبيل تحقيق الغاية الأدبية، والسير بالوجهة المنهجية المناسبة في دراسة الأدب والأدباء.