إلى القصيدة والشاعر سمير سنكري
تنبيه:
(الشعر ضد العقلانية)
أدونيس
غاية:
الفن خلقٌ و إبداعٌ بهِ ألمُيأتي إلينا من الوجدان يرتسمُ
سمير سنكري
الإشارة الأولى
حالة الإبداع هي حالة لا وعي تطفر من العقل و المنطق الاستقرائي لمكونات الوجود، رائحة إلى خروج لا عقلاني عن نمطية التفكير العقلي لتكسر كلَّ أطواق التحاليل المنطقية «التي تحاول عقلنة الحياة عن طريق تفسيرها و تشريحها و فكفكتها إلى مكوناتها المادية ملغية المكونات الروحية و الفكرية... فالحياة تؤول و تعاش لكن لا تُفسّر»... فتطلقها فاردة أجنحتها الإبداعية في عالم غير معقلن أو بالأحرى معلمن «من العلم» ..
و الشعر حالة انفلات شعوري من الوعي إلى اللاوعي الدفين في ذوات البشرية ، و الشعر فراشة لم تعرف سرَّ النور فراحت إلى موتها على طريق الكشف و المعرفة..
فعقلنة الجمال تكسره و تأسره و تشوه طبيعته الجمالية الخلاقة عن طريق قتل الرؤية فيه فالجمال لا يُعقلن إلا كي يُدرس و دراسة الجمال و تفكيكه ليست عملية إبداعية خلاقة بل هي استقراء تفكيكي مخرب للرؤية الجمالية للإبداع ... فالعقلنة هي ضربة قاضية على الإبداع الكوني إذ تُجرده من روحانيته الرؤيوية و تأخذه إلى مادية صامتة و جامدة في محدوديتها، فلو أنَّ المعري وضع شعره في قالب الفلسفة لاندحرت الحالة الشعرية الرؤيوية لشعره أمام منطقية الفلسفة، و فرضت الفلسفة سيطرتها على قصيدته و أخذتها إلى عدمها الإبداعي، هذا لا يعني أن الفكر الفلسفي ليس فكراً إبداعياً فهذا غير مقصدنا فالكر الفلسفي و ليس هو الفلسفة ..
و كذلك فعل فيلسوف العرب ابن سينا في قصيدته الشهيرة (النفس) آخذا الفلسفة بأجنحة الشعر إلى حالة رؤيوية لا واعية بل حاسَّة و شعورية تفرد مساحات من الفكر الفلسفي كي تكتشف عن طريق الشعر كينونة النفس كما يراها الشاعر هو كشف حسي يتعامل مع المدركات و المعقولات في صياغة فنية خلاقة ..
و الشاعر سمير سنكري لا يكتب قصيدته إلا كحالة فكرية متعمدة ، تحاور الواقع من خلال النظر الرؤيوي إلى مكونات هذا الواقع .. من إنسان و أشياء محيطة به و محيط بها ، و يرفض أن يكون الشعر لا فكريا و بالطبع لا خلق و لا إبداع دون فكر؟؟!! (فالشعراء العظماء مفكرون عظماء) كما قال أدونيس ..
و العقلنة التي تحدثت عنها هي ليست الفكر فلا شعر دون فكر و ثقافة وإلا تحول إلى عدمٍ لغوي مجرد من الرؤية، و الشعر إبداع فكري و الفكر هو الرؤية و لا إبداع دون رؤية
من هنا تبدو قصائد الشاعر سمير سنكري في بعض الأحيان مركزة على الفكرية على حساب الحالة الشعرية و هذا ما يقصده بالفعل الشعري الشاعر نتيجة لقناعته أن الفكر هو الشعر فتخبو حيناً الرؤية أمام قصدية المضمون الفكري التي تجعل الحالة الفكرية مسيطرة على الحالة الشعرية و هذه اللحظات بدأت أراها تتلاشى كي يسرح الفكر بانسيابية مطلقة من خلال مكونات الحالة الشعرية للشاعر و قصائده الأحدث فنحن نكتب قصيدة أولاً فعلى الفكر أن يكون جزءً من الحالة الشعرية و ليس العكس، فالحالة الفكرية لا تكتب قصيدة رؤيوية .
تنبه2:
«الشعر .. وميض برق ، و النظم ترتيب كلام، فليس إذاً من الغريب أن يرغب الناس في الترتيب و هو في مرتبتهم، دون الوميض و هو في الفضاء»
جبران خليل جبران
غاية2:
«حجم القراءات التي قد أظهرت روح البيان ... سرقت عيوني من غدي»
سمير سنكري
الإشارة الثانية
تعاني القصيدة العربية «بنمطيها الشكليين: قصيدة الوزن بأنماطها المتعددة و قصيدة النثر أيضاً بأنماطها المتعددة» في هذه المرحلة الزمنية من الترهل الفني الناتج عن عقدة مرضية أصابت الشعراء و انتقلت إلى الشعر وراثياً و هي عقدة «و بإمكاننا تسميتها: وباء» التقليدية الناتجة عن النقلية فمن نقل الشكل أسره اللفظ أو الفكر الذي يحمله هذا الشكل فغرق حتى أذنيه في الشكل و المضمون و رغم كل عيوب هذه النقلية التقليدية إلا أن وبائيتها المرضية تتجلى في اختيار ما ينقله و يقلده و يتنسخه هؤلاء النقلة «و بالتأكيد ليسوا بالشعراء»هو أسوأ مراحل القصيدة العربية فمن قصيدة النثر يُقلدون «بل ينسخون و يمسخون» أسوأ القصائد لأنهم غير قادرين على تقليد ؟؟!! تجليات قصيدة النثر عند شعرائها الرواد و المبدعين بل يروحون إلى فتات قصيدة النثر و يمسخونه .. فأية قصيدة ستكون لديهم ؟؟ و كذلك في قصيدة الوزن تجد هؤلاء المستشعرين عن ( لطش) يذهبون إلى عصر انحطاط الثقافة العربية و يستنسخون نتاجاته الشعرية فيأتي استنساخهم مسخاً شعرياً لا علاقة له بالمنسوخ عنه و لا بالشعر .. و سبب استسهالهم هذا الشعر لأنه في مرحلته كان قوي البنية الشكلية و ضعيف الحالة الشعرية فلم يأخذوا قوة البنية الشكلية فقط بل سيطرت عليهم حتى الحالة الشعرية فبدت ألفاظهم و تركيباتهم اللغوية غريبة عن حالتهم الزمانية و كأنهم من شعراء عصر الانحطاط المستنسخ فلا هم عبروا عن عصر الانحطاط و لا هم عبروا عن عصرهم فضاعوا في مرض التقليد الأعمى ... كما فعل بعض الذين استنسخوا الشعر الأجنبي ... و يرجع ضعف مناعتهم تجاه هذه العقدة إلى عدم قدرتهم على قراءة الجمال في نمطي القصيدة العربية و حتى الأجنبية و الاستفادة منها في بناء قصيدتهم بل كان الأسهل بالنسبة لهم استنساخ الماضي و الحاضر و حتى الأجنبي
دون أن نترك لرؤيتنا المجال كي تتطور فاغتربنا عن حالنا و ذهبنا إلى أحوال أخرى...
فيبدو الكم التراكمي المذهل من الكتابات الموبوءة بالتقليد و الاستنساخ يجعلك تهرب من القصيدة إلى أيِّ شيء آخر ...فهل يبدأ الشعراء بكشف أسباب هذا الوباء و معالجة آثاره المدمرة على القصيدة العربية ..أم.؟؟!!
الشاعر سمير سنكري .. أحد الشعراء الذين استطاعوا أن يتجاوزوا التقليدية حتى بأبهى حللها لفظاً و معنى ، فلفظه يتميز بتراكيب لغوية متقنة البنية و مبتكرة الحساسية و البناء كي تعبر عن معنى شعري و فكري محلق في فضاءات الحالة الشعرية ، و يتميز التركيب اللغوي و الرؤيوي لديه بحالة من التناغم الجدي ، فيحاور لفظه معناه في تواشج توأمي الحالة بحيث تكون قصيدة متوحدة اللفظ و التركيب ، و هذه الميزة (وحدة القصيدة) تميز مجموعته الأولى و الثانية و كل ما قرأت له من قصائد ، فقصيدته تعبر عن وحدة بنائية و فكرية شاملة للحالة الرؤيوية التي تتجلى من خلال اختياره الموفق للنمط الشكلي الموآخي للحالة الفكرية للقصيدة بحيث يُغرق المتلقي في حالة جمالية مميزة.
فرغم تعدد المضامين الفكرية لقصائد الشاعر، إلا أنك تجد نفسك غارقاً في نهر شعري واحد تتغير مياهه في كل قصيدة لكن النهر يبقى كما هو ..، فعندما تنتهي من قراءة القصيدة الأخيرة في المجموعة تجد في نفسك حاجة ملحة للعودة لقراءة القصيدة الأولى فيها كي تكتشف القصيدة و الشاعر من جديد... فكل قصيدة تعطيك مفاتيح أكثر لكشف قصائد الشاعر و هكذا تتراكم المعرفة الشعرية لديك فتزداد حنيناً لكشف ما لم تكتشفه عند قراءة النص لأول مرة.. مفاتيح القصيدة عند الشاعر متعانقة و متلاحقة كمتوالية قصائدية ... فقراءة الشعر تحتاج إلى ثقافة كما هي كتابته.
تنبيه3:
(الشعر كلّ ما هو جميل، كل ما لا يُستطاع شرحه، و ليس بحاجة إلى شرح)
الشاعر الإسباني خوان رامون خمينيث
غاية3:
«أنا الحريص على صدقي فوا أسفيأن يُفهمَ العكسّ في شعري و ألحانيأحيا على قيم بالحبّ تمنحنيوعياً أعيش به يسمو بأركاني»
سمير سنكري
إشارات جمالية
(1)
تعرف القصيدة كيف تأخذ الشاعر من قيلولته الفكرية إلى البكاء دموعاً من أنغام و مشاعر الاستيقاظ، و تعرف كيف ترسم بمفرداته اللهفانة وجعها بضعاً من عرقٍ يمشي نهراً من دماء الشاعر و ورود روحه المعبأة في سلال من ضجر .. كي تفتح نوافذ من هواء الإبداع في قلاع قلقه و كآبته لتأخذه إلى غابات الكلمات المشرقة بالاخضرار فيلهو في بهو حقيقته المتعلقة بصباحات تخرج من كفيه إلى صفاء البوح المسافر غيوماً من الوحي العبقري إلى حالات من الأناقة الفكرية
(2)
سمير سنكري .. شاعر تروي القصيدة أوجاعه و تحكي المفردات صباحات بنفسجة قلبه التي تعطر اللحظات باللهفة و المتعة الناضجة على موقد الوعي ..
شاعر تنهزم أمام حروفه أناقة الليلك و بكاء الحمام على وليفه الذي أنزلته رصاصة من علياء الحياة إلى الموت ...
سمير ... شاعر لا يكتب إلا برؤاه و فكره ... وفي لقصائده الوفية للإنسان الجميل الساكن فيه
(3)
كي تقرأ قصيدة سمير سنكري عليك أن تعرفه .. فهو من الشعراء الذين يتماهون في قصائدهم ، و قصائدهم تتماهى فيهم ...
(4)
للقصيدة عند سمير سنكري .. طعم خاص و مذاق رؤيوي يلتهب في حلقك كالنعناع ليعطيك أجنحة من توتر و قلق تأخذك إلى ينابيع من نور المعرفة و الفكر لتشرب كأساً معتقة بروحه و صافية كماء العين التي تشرب من شروش اللحظة الشاعرية التي اصطفاها من حميميته ليأخذها إلى قشعريرة الولادة الأولى لزيتونة الحياة.
تنبه4:
(ليس الشاعر بأكثر من زنبقة في جمجمة)
جبران
غاية4:
صريحٌ في التصرف، ذاك يعنيبأني واضح، فالصدق يُجديسأبقى ما بقيت على وضوحبوجهٍ واحدٍ رغم التحدي
سمير سنكري
آخر الإشارات
لم أرغب بتقديم دراسة نقدية لهذه المجموعة التي أقدم لها ... بل حاولت أن أشير لبعض مفاتيح القصيدة عند الشاعر سمير كحالة شعرية متميزة ذات آفاق فكرية مفتوحة للتطور الإبداعي العاكس لحالة من العشق الصوفي للوقوف في محاريب القصيدة و الشعر .. و هذا العشق هو أحد أهم مكونات الكتابة الإبداعية ..
و هذه المفاتيح – كما أراها – قد تساعد المتلقي حين رؤيته لقلعة المجموعة من فتح أبوابها المفتوحة أصلاً للدخول إلى عالمها الشعري الفسيح ...
هي مجموعة قصائد ترتكب الفعل الشعري الجمالي بأناقة الربيع المحمل بغيوم الشفافية التائقة لحرية اللفظ و المعنى في تكوين المشهد الإبداعي .. فتتجلى شاعرية من مطر يهطل على القلب لتخضر أعشاب الرؤية فيه فيتعانق القلب و العقل في فضاءات الروح راقصين على إيقاع القصيدة الفكرية الرؤيوية التي تعرف ذاتها كي تدرك ذوات الآخرين .. فتبدو مشبعة بالهم الإنساني حتى في أقصى لحظات ذاتيتها و هنا الإبداع الجميل.