الأحد ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم رشا السرميطي

إليك (عمري) صديقي

رسالة أدبية

إليك (عمري) صديقي..

من قيظ اليوم وزمهرير الأمس في كينونة جمعنا بها القدر صديقين..

أبدأ رسالتي بالسّلام والاطمئنان على من وهبني رباطة الجأش، والبال مشغول على حال غيّبه الضلال، وأزمة أصابت خطة مواقيتنا، أين أنت؟ أين الذي كان يصغي متأملا لا متذمرا، ويفهم اللسان عند عقدته قبل الكلام، بلغة من صلاة تراتيلها الوجوم ونفحات من الجنّة بت اليوم أفتقدها، أخالف محاذير فُرضت علي فقبلتها بالأمس، وأسأل حاضري عن أعين لا تكتب ولا تقرأ: أين أنت؟ يقتلني إطراقك فتكلّم! قل لي عن غدنا.. إيّاك والذّبول من سنوات الوجع والانتظار.. مالي سواك أقبّله عند الخوف فيحتضن جسدي بين غيمتين حملتا حبة قلبي الذهبي بعيدا عن بطش الحصادين يوم عصيْت أمر السنابل، ارجع إلي لتغدو الأيام حقولا خضراء، ارجع إلي.. فمازلت على وعدي أنتظر.

أقف اليوم على درجة السلَّم الرّابعة والثلاثين من عمري، تناءيت قليلاً عن الميلاد بسنوات، والقمة مازالت مدى شاسع الإرادة، والهمة بنيان شاهق العمل، آوي إلى محطات النّجاح وأقفز عن الخيبة كلما ضعفت النّفس وصارت آمارة باليأس عن المراد، أضرم اصطباري لأطهو زاد حبّ يبلغني دربا استوى حيث أريد، والعمر قارب على النّضوج، أُكمله بشاشة واكتفاء، تنهش الوردة ما أصاب النّفس من غم وهم فلايبقى سوى رحيق المزاولة.

طموحي؛ متعبة بك لكنَّني بالقراءة سأقاوم! وأهزم فخاخ اللحظة، أقوى على الأسلاك الشائكة حول مفاتيح الفلاح، لأمتلك المجهول، لن تغدو المرأة التي تسكن جسدي عادية من لحم ودم! ولن أكون الخارقة، لكن سوف أحافظ على بشريّتي، وإن هاجرت عالمنا الحقيقي، وسكنت مدن الورق لن أساوم على مهابة حلمي: ريشة تطير حيث الفضاء الذي لا يعترف بالحدود، شمعة تضيء لتنير دربها لا تخضع لقوانين الذوبان فلا تشيخ من البؤس والهوان، أمنية سأبقى أكتبها: غدا تفوز الغزالة، ذاك اسمي ولكل من اسمه حظوة..

أيّها الماضي وعدتك لن أنساك، وكيف تبرأ شجرة من جذورها البيضاء، أم تتخلّى غياهب السّماء عن نجومها؟ أيهجر السَّمك ماءه الفرات، أم تفارق النحلة زهرة منحتها الرّحيق لأجل شهد فيه شفاء الآخر، تلك الأيام التي رسمت ملامح اليوم، ما بين وطن وغربة، وقيد وحرية، وتيه في الحياة، والتجارب العاتية التي رسخت سفينة الروح بمرساة العقل والصبر وسط بحر الأمنيات، أعترف؛ أحبُّ الماضي كثيرا بكل ما فيه من شوك وشوق وانكسارات، أهوى منه المعرفة بتجربة تقضم الشك وتمنح اللسان يقينا وعلما، ويعجبني من الماضي سمة الرّحيل، عندما أنهض، وأنفض عن روحي زغب الأمس فلا يدوم فرح ولاترح، لأنّ كل ما عمّر مدننا الماضية من التفاصيل والأشخاص يذهب ونسائم الوداع متشاركا رحلة غفلتنا فلا يبقى لنا سوى الذكريات، وحفنة من خلوة تلوذ بها النّفس إذا ما التاعت بسوط الحنين، وهوت أصداء الداخل منا منكسرة لعمق جوارير أقفلناها بقسوة النسيان، يملؤها الشغف لطعن ذاك الخوف الذي سُقينا منه السكوت والحرمان، إن الماضي لملم أجزاء الذات عندي، بل كوّن منظومة الشعور لدي، ورتب رفوف الفكر لأضحك وأنا أكتب الآن رسالة عنه، حبرها الشكر والامتنان فلولا الماضي ما كنت أنا..

أيا حاضري كن وفيًّا وانتظر تلك الياسمينة على غصن سلا دارنا هناك، وقل للتاريخ كبرت الحكاية، واشتد عود البدايات في القدس، لكنني سأرجع يومًا لتلك المدينة، وأتبيّن سور منزلنا هناك، أتفقد ما زرعناه وتخلى عنه والدي فرحل مبكّرا، أبدأ بأشجار الليمون والبرتقال أتحسس سيقانها الغليظة، وأهمس لها عن عطر الزَّهر حول نافورة الماء على شرفتنا التي جفت حجارتها وتشققت من طول بعدي وهجري للمكان، أتابع نحو شجرة الأسكدنية فتعتب علي ثمارها إذ تركتها قوتا للعصافير التي لطالما طربت على تغريداتها صبحا ومساء، لسوف أخبر شجرة اللوز خلف البيت أنّني ما بدلت محبتي لها وكل صورة ألتقطها في غير نابلس كانت تحمل نبوءة عن طفولتي حينما ركضت أطارد الفراشات هنا وهناك، لله درك أيا وقتا هرب مسرعا، كم من العمر مضى؟ كبرت شجرة السرو وامتدت لتبلغ سطح مسكننا، تفرعت أغصان التوت لتظل نافذة غرفتي بالكامل، وكأنّ الورق يتآمر على النور ليطمس الحق أيضًا، فيتحدى الضوء عتمة حاضرنا ليأتي بالبشرى متسللا بين أغصان شجيرة "المجنونة" البيضاء التي لطالما رأيتها وطنا يلمّ شمل العصافير والفراشات، ما تبدلت أشجار الزيتون خلف مقطننا ولا فرقنا الحصار، لقد كبُرت وأضنتني لعنة الميلاد وبطاقة شخصية حكم علي امتلاكها لاتخذ الصّفة –بلا هويّة– بحكم قوانين دولية أكبر من غادة أكونها، لكنّ هويتي ليست لونية! بطاقتي إن كانت خضراء، زرقاء، أم أرجوانية، أنا الكنعانيّة التي أقيم اليوم بالقدس حيث يدفن الإنسان حيّا..

غدي؛ القلق الملح بين فكرتين: أكون أو لا أكون. فمازلت -عاشقة الورد- لكن نقّار الخشب الليلي شق ظهري، وسقت الغيمة قلبي، حتى نبت على ظهري جناحان، فما إن طلع النَّهار صرت فراشة مثقلة بهويّتي وهوايتي. سأظل في الدمع زيتا وأوقد من الحزن قناديل الحب للعاشقين حتّى يفيض الكون بالحدائق، أنشد للقادم فرحا وأملا طالما وهبني الله الحياة، بأصابعي الشرسة أرسم ما سرقوه من أمنيات الصّغار والكبار، أنقشها على السّاحل بالأصداف فيخذل الرّمل سراب العرافة، ويلقى الشاطئ ذاك الرُّبان وتلك السفينة محطمة الشراع، لقد بقيت درجتان من سلم انتصاري لأبلغ درجة الدكتوراه وأخدم وطني، لأقود كتيبة الجند من طلبة العلم والمعرفة والاكتشاف، لن أكون تقليدية هكذا وعدت الله، بروح زوبعة سأغدو عاصفة تنفض الفساد عن ذاك القطاع من مجتمعنا، وأكشف الستار لكل مغشي عليه من الحالمين، أن كن أنت وكفى! حينها سيفهم الخريف سرّ اغتراب الورقة الجافة ورحيلها بألوان دافئة، ويحيط العابرون بشيفرة الأخضر من أوراقنا.

سيكون الغد جميلا.. هكذا عاهدني الله. ويبقى لسان القلب يرددُّها: سألوني من أكون؟ والحرف حجر في عين الصَّمت ورصاصة بقلب الوقت، بل عطر بلا زهر وأرض، لست سوى إنسانة للهزيمة الإنسانية لن أنتمي، بالقلم والحب نصنع المعجزات، وأبقى رغم كل ما جرى مؤمنة بسعادتي مهما اختلط الحابل بالنابل وذل عزيز وعز ذليل في بلادي، صبورة وأعشق الماء إن كان دمعة، سقاية، نهرا، بحرا، حبا، أم شتاء..

يضحك عمري، فأشاركه الفرح ثمّ نبكي معًا فظاظة زماننا.

3/ حزيران/ عام التحليق 2017م

قدمت لمسابقة كتابة الرسائل/ ندوة اليوم السابع المقدسيّة

رسالة أدبية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى