إمارة الشعر العربي ومحمود درويش
كل الإمارات استمرت في عالمنا العربي، وزادت أعدادها، وترسخت مفاهيمها، حتى أن الإمارة الواحده انقسمت كالخلايا الى أُمَيْرات، وكل أٌمَيْرةٍ على رأسها أُمَيْريتبع لأمير، وأصبحت جزءاً من ثقافتنا، إلا امارة واحدة، هي إمارة الشعر.
فمنذ أن مات الشاعر الكبير أحمد شوقي رحمه الله، اندثرت إمارة الشعر من الوجود، نتيجة التشرذم العربي، وانقسام الإمارة العربية الإسلامية الكبرى الى عدة إمارات، وجمهوريات، وسلطنات، ومنذ تلك اللحظة عُرِف ما يسمى الآن بمرض السرطان، الذي بدأ رحلته في هذا العالم بجسم الأمة العربية، وأصبح لكل إمارةٍ سرطانية أميراً لشعرائها، وعمد العرب الى تعديل دستور إمارة الشعر العربي، وابتدعوا شعراً جديداً يتلاءم مع الواقع الجديد، ويعطي كل إمارة حق الاستقلال بشعرها، واختراع شعرٍ جديد خاصٍ بها، يتكلم بلهجتها كلاماً لا يُفهم في باقي الإمارات، وظهرت موجة الشعر العامي. ونالت الإمارات العربية الجديدة استقلالها من ربق الشعر العربي الفصيح . فخرج علينا أشباه الشعراء، والدخلاء على حومة الشعر العربي الأصيل واستبيح الشعر العربي تماماً كما استبيحت الأرض العربية.
يحق لنا أن نتساءل، لماذا توقف العمل بقانون تلك الإمارة دون غيرها من الإمارات؟ فالجواب على هذا السؤال ربما يكون ويكمن في نظام توارث الحكم في تلك الإمارة، والذي يعتمد على الكفاءة والإبداع في اختيار الأمير، والذي بدوره يسبب حرجاً لإمارات السلطة، ويخالف نظامها القائم ، فلو كان المبدع يلد أو يخلف مبدعاً بالقطع، لاستمر العمل بهذه الإمارة، وأصبح ابن الشاعر أو أخوه يرثه بعد مماته، وبالتالي ستصبح متوافقةً مع الثقافة العربية المعاصرة، وتنسجم مع أبجديات الواقع المر، وسوف يُجَدد لولاة العهد فيها من أبناء الشعراء أو اخوانهم ان لم يكن لهم أبناء. كما وأن نظام امارة الشعر يخالف كذلك عُرْفَ جامعة الدول العربية، الذي حصر الأمانة لقبيلة عربية واحدة، هذا مع احترامنا الشديد لكل أمناء الجامعة من عبدالرحمن عزام الى عمرو موسى، ولا نشك ابداً في كفاءتهم وعروبتهم واخلاصهم، مع تسليمنا بالحدود الضيقة التي عملوا ضمنها، ولكننا نعترض على عرف جارٍ في إطار عربي جامع يفترض فيه أن يكون قدوة لمجموعات العمل العربي المشترك التي تسعى إلى الارتقاء بهذه الأمة، وتخليصها من القبلية التي تستشري كالعفن في جسدها، ولم يكن الاعتراض على الأشخاص أبداً.
ففي كل عصر من عصور الأدب العربي، وعلى افتراضٍ منا بتطبيق مبدأ الإمارة على تلك العصور ابتداءً من العصر الجاهلي، فقد كان امرؤ القيس يستحق بجدارةٍ أن يكون أميراً للشعراء في ذلك العصر، فقد كان قدوة في طرح الأفكار والمواضيع، وكان مثالاً يحتذي به الشعراء في عصره، فهو أول من بكى على الأطلال، ووصف أطلال الحبيبة وصفاً يوحي اليك عند قراءة شعره هذه الأيام بانك أنت بنفسك تقف عليها وتراها في عهدها الغابر وكأنها في مرمى البصر أمام ناظريك في عهدنا المعاصر. ووصف الصحراء العربية في جزيرة العرب بفصولها وتقلباتها الجوية، ومن عاش في الجزيرة العربية وعاصر صيفها وشتاءها يحسب أن الشاعر ما زال يعيش بين كثبانها ورمالها وشتائها الصاخب، وصيفها الحار، وكيف ان تقلبات الفصول الأربعة على مدار السنة تحدث وتتقلب على مدار اليوم الواحد، بالرغم من انتشار وسائل التكييف إلا أن المناخ بقي على حاله، بل تلوث بمخرجات الحضارة الجديدة تماماً كما تلوثت الأشعار المعاصرة بمخرجات العولمة التي تجنح بالحياة الى عالم الماديات على حساب الروحانيات. وقد أبدع في وصف مغامراته العاطفية والغرامية وهي كثيرة جداً. فعندما يصف يوم "دارة جُلْجُل" فإنه يضعك في المشاهد وكأنك تعيش أحداث فيلمٍ سينمائي بالصوت والصورة. وتحسب أنه ما كان يتحدث إلا شعراً. وقد أبدع في وصف الناقة والبعير، والفرس والحصان، وكان أبلغ من وصف الليل، وتقرأ في شعره أدبيات وأخلاق الناس في عصره. فتكلم عن الخيانة الزوجية بكل وضوح، وبدون حرج أو خوف أو وجل، ووصف مغامراته مع المتزوجات، والحوامل والمرضعات، وأوغل في الوصف (إلى حد التطرف بمفهومنا الآن) أمام حبيبته، لكي يثير فيها الغيرة عليه، وهذا يعطينا دلالة واضحة على امتهان المرأة قبل الاسلام، والاستخفاف بها وتصويرها على أنها جسد بدون روح، ومعاملتها كأداة لاشباع الرغبات، وكسلعة مادية بلا قيمة معنوية، تنسجم مع إنسانيتها.
وتميز في العصر الأموي الشاعر(جرير)، وأغدق شعرا ً، وكان بمنزلة الأمير للشعراء في عصره ونقل الينا على رأس كوكبة من شعراء امارته الحياة الجديدة بعد ظهور الاسلام، مع تشبث الناس بموروث العصبية القبلية، كما واختفت من أشعارهم الاباحية في الحب والغزل والغرام، وارتفع شان المرأة، وقال جرير أحسن الأبيات الشعرية في الفخر والمدح والغزل المتعفف وفي الهجاء، كما أنه أنشد أرفع قصيدة رثاء في زوجته. مما يدل على أثر الاسلام وفضله في تحرير المرأة، واستعادة كرامتها، والاطاحة بالمفاهيم الجاهلية التي كانت تحط من قيمتها في المجتمع. وقد قال فيه خصومه بأنه كان يغرف الشعر من بحر.
ثم جاء المتنبي في العصر العباسي، ليخلف جرير عن جدارةٍ واستحقاق، بعد أن الت الخلافة للعباسيين بعد الأمويين. ونقل الينا مع كوكبة الشعراء في عصره أخبار وثقافة وحضارة الدولة العباسية، الى أن جاءت الدولة العثمانية التي أهدت لنا في أواخر عهدها وبقايا دويلاتها الأمير الأول والأخير لإمارة الشعر العربي (أحمد شوقي). وقد كان الشعراء بمثابة وزراء الإعلام والثقافة، والصحفيين والمؤرخين للأمة.
أما في عصرنا الراهن، فقلما تجد شاعراً عربياً يتكلم بلغة العرب وهمومهم جميعاً، كما وأنه اصبح من الصعوبة بمكان أن تجد اميراً مستحقاً للشعر العربي الذي ينقل أخبار الأمة العربية وآلامها وآمالها وقضاياها، بعد أن استحوذت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بنفاقها على دور الشعراء، والذي يتدفق بالمشاعر الإنسانية النبيلة، وليس بالضرورة كل الشعراء، حيث لم يبرأوا جميعهم من النفاق للحكام.
ومن خرج وتمرد على دساتير الإمارات الشعرية الجديدة في عصرنا هذا، واستطاع النفاذ من شرنقة الإنعزالية، وانطلق الى آفاق العروبة الرحبة وخاطب جماهير الأمة من المحيط الى الخليج، ويستحق بجدارة أن يكون أميراً لشعراء العرب في هذا الزمن الذي عز فيه الرجال، والعباقرة، وافتقد الى القمم. وبدون تعصب، واحقاقاً للحق والعدل، وفي زمنٍ عز فيه كلاهما، فإن الشاعر الكبير محمود درويش، يستحق الإمارة بامتياز وأن يكون أميراً لشعراء هذا العصر المبدعين، فقد حلق في الأجواء العربية من أقصاها الى أقصاها، واجتذب الملايين من القراء والمستمعين العرب، ودخل الى قلوب الجماهير العربية، من مغربها الى مشرقها، ومن شامها الى مصرها، ومن خليجها الى مغربها العربي. أذكر أنه قبل عدة أشهر، زار دولة البحرين لإلقاء أمسية شعرية، فقد أخبرني صديق سعودي، بأن الجسر الذي يربط بين السعودية والبحرين قد اكتظ في ذلك اليوم، وعلى غير العادة بالمسافرين من السعودية الى البحرين وذلك خصيصاً لحضور أُمسيته الشعرية. وقد نقلت إحدى الصحف السعودية هذا الخبر وأكدت ما قاله هذا الصديق. ولأنه صاحب قضية فقد عبر عن سواد الشعوب العربية، والتي تعاني من الغربة في أوطانها، ومن الكبت والاضطهاد السلطوي، فالشعوب العربية في مجملها واقعة تحت الظلم، حالها كحال الشعب الفلسطيني الذي يعاني من ظلم الغريب العدو والقريب الأخ، وباقي الشعوب العربية تعاني من ظلم الأقارب، لذلك كان أدبه معبراً عن هموم الأمة جمعاء بصدق تعبيره عن قضية شعبه ووطنه.
فقد جسد القضية العربية المركزية، التي أثرت على التاريخ العربي الحديث برمته. ونقلها الى كل بيت عربي، وحمل وطنه معه أينما ذهب، والتزم بالخط العربي الأصيل، وبالمعاني الراقية، والأحاسيس الصادقة، واستقبل استقبال الأبطال اينما حل في أرجاء هذا الوطن الكبير، كما وأنه انطلق الى الآفاق الرحبة في هذا العالم، فأصبح شخصية أدبية عالمية، وشهد له ألدُ الأعداء لهذه الأمة، وأدخلوا نتاجه الأدبي الى مناهجهم، وحسدنا شارون على أشعاره وعبقريته الشعرية. ونتمنى أن يحصل على أرفع جائزة عالمية في الأدب، والتي يستحقها لولا ما يثار من حولنا من مؤامرات. فقد أعاد أمجاد إمارة الشعر العربي بمفهومها الأصيل وشموليتها لأهل الضاد، وتحليقها في الأجواء العالمية الأرحب،وبذلك يستحق أن ينادى به أميراً لشعراء هذا العصر على قاعدة الكفاءة والإبداع. كتب الله له طول العمر، وأسبغ عليه الصحة والعافية.