إمـرأةٌ ورَجل
كانت نسرين قد بلغت عامها العشرين عندما تقدم أبو ظافر بطلب يدها من أبيها لابنه ظافر، أبو ظافر شخصية معروفة في المدينة ويشغل منصبا كبيرا في إحدى الهيئات العسكرية وصداقته متينة جدا مع أبي نسرين الذي هو أيضا يشغل منصبا كبيرا في إحدى الوزارات.
اضطربت نسرين لهذا الأمر، أولا، لأنها لا تفكر في الزواج حاليا، ثانيا، لا تذكر أنها أحبت اللعب مع ظافر مذ كانا صغيرين ولم تستلطفه حين كانا في نفس المدرسة التي يرتادها فقط أبناء كبار القوم، ثالثا، جابر! نعم جابر... هذا سبب مقنع يجعلها أن ترفض تماما فكرة الزواج.
كان جابر بمثابة الروح لنسرين، القلب الدافيء، العقلية المنفتحة القابلة لكل شيء، الاثارة الجنسية والحرية...كان بالنسبة لها كل ما تحلم به خارج أسوار الفيلا الكبيرة التي تسكنها وتسكن معها كل الممنوعات واللاآت وأشباح القصص، منها الخرافية ومنها المملة التي يرويها والدها في كل مناسبة دون تردد حتى صارت تأتيها في كوابيسها الليلية... لقد كانت العلاقة مع جابر طورا من الحرية المسروقة وشيئا من شرعية مقنَّعة لعلاقة خاصة جدا فيها تمارس الفرح وفيها تكون كل ذاتها. لقد كانت علاقتهما شرعية أمام الأهل بحجة أنه يتعلم معها في دورة للتصوير الفوتوغرافي وكان يساعدها في تصوير أماكن في الطبيعة ويرافقها الى كل مكان كونه شاب يستطيع حمايتها، حسب رأي والدها الذي اطمئن من الشاب وتعرف على عائلته الثرية وبارك العلاقة بينهما التي تقوم على أساس الزمالة والصداقة. الا أن علاقتهما تطورت خلال سنتين الى إدمان لكليهما، وصارت الصداقة ارتباط نفسي وروحي وتطوَّرت إلى رغبة وشهوة جامحة وصارت القبل تحتل جلَّ مساحة الحديث بينهما في الممرات الجانبية لأحد المكاتب الحكومية الكبيرة أو في الكلية، حيث العتمة تملأ الزوايا الخضراء أو على المقعد الخشبي القديم الذي اكتشفاه في الغابة خلال تجوالهما بحثا عن مناظر طبيعية للتصوير، وهناك كانت المرة الأولى التي يلامس بها جابر نهديها ويقبلهما... صار لقاؤهما يوميا وصار له لون المغامرة... فالأهل يعلمون بصداقتهما وزمالتهما ولكن لا يعرفون عن اللقاء اليومي الذي يحترق داخل السرير الصغير الذي يضمهما في أحد الفنادق الصغيرة المترامية ما وراء المدينة... لقد كانا يكملان بعضيهما في الهذيان، في الأفكار الجديدة، في الشتم على المجتمع وعلى كل من فيه وما فيه من عقد ونفاق، ويتحدثان عن التصوير وما تراه وما لا تراه عين الكاميرا ولا يعرف الناس عنه شيئا... يتحدثان عن كل شيء، عدا عن العلاقة التي بينهما إذ بدت أنها بديهية كجزء عادي جدا في حياتهما السرية وجزء غير عادي بتاتا في لقائهما...غير أنهما كانا متفقين على حبهما لبعضيهما إلى درجة الجنون وكان شعورهما بأنهما كتوأم في رحم هذه الدنيا الصاخبة ولا يمكن فصلهما... اشتد هذا الشعور بعدما صارت علاقتهما الجنسية تأخذ أشكالا جديدة في الممارسة واكتشفا أنهما يتماثلان في رغبتهما وفي الوضعيات التي يحبونها...مع كل هذا الانسجام كان اتفاق آخر بينهما تحدثا عنه مرة واحدة ولم يكررا الأمر الا وهوموضوع الزواج فاتفقا أن العلاقة بينهما هي علاقة مفتوحة ليس بها أي التزام وكانا سعيدين بكليهما دون ارتباط رسمي أو إجتماعي!...
لذلك عندما سمع جابر صوت نسرين الخائف عبر الهاتف، في ذلك النهار الذي تكلم أبو ظافر مع والدها في أمر زواج ولديهما، أتى مسرعا مضطربا وعلت وجهه ملامح الخوف الممتزج بشكل غير ناجح مع ابتسامة ليلاقي فيها وجه أمها وأسئلتها الكثيرة عن سبب خروجهما فتذرّع باحدى الوظائف التصويرية التي يجب اتمامها... وانطلقا في سيارته الصغيرة وكان معهما أشباح الصمت القسري التي تحوم بين جبلين بركانيين يتأهبان للانفجار...
وصلا مقهى "ليتل روما" الساكن بين الأشجار القليلة عند مشارف المدينة الشرقية، ذلك المقهى اعتادا دائما شرب القهوة فيه بعد الكلية أو بعد لقاء سري مسروق من أجندة النهارات الرتيبة... كان هذا المقهى يعني لهما العصب الموصل ما بين حياتهما الخاصة وبين حياتهما المقَنَّعة... بين الذات والأنا مع كل التناقضات التي مابينهما. لأول مرة جلست الى جانبه وليس قبالته وضع يده فوق كتفها وضاع وجهها في شعرها وحاول أن يجترَّ الحديث، أي حديث ليخفف عنها. أما هي فلأول مرة تسيل دموعها بين يديه... ثم قالت له بأنها لا تستطيع الزواج فهي غير مستعدة لذلك لكن والدها سوف يصر على ذلك لأن أبا ظافر صديقه العزيز مذ كانا سويًّا في الجيش ولا يرى أفضل من ابنه لها... ووالدها ما زال يعيش داخل بزته العسكرية التي توجه كل تصرفاته، قالت هذا وبكت وأكملت بأنها تريد أن تبقى حرة، ولا ترى أن عريسها "التحفة" هذا سوف يوفر لها هذه الحياة حسبما تراها أو يراه جابر مع كل الانطلاق والشبق والجنون... بكى جابر عندما وضعت نسرين وجهها في صدره وضم شعرها الأسود في يديه وقال لها بأن لا تقلق وسيجدان حلا دون شك... وأخذ يدها وقبلها... وخرجا إلى السوق الذي تفوح منه رائحة العطور ورائحة التوابل التي تضفي على المكان خصوصية غامضة، محاولا أن ينسيها همها، وراحا يلتقطان الصور في كل زاوية لكليهما حتى وصلا البيت القديم المهجور في آخر السوق وكانت السلطات قد بدأت بترميمه إلا أن العمل توقف بسبب اختفاء أحد العمال هناك فاستحدث الناس أسطورة ذلك الكوخ المسكون بالأشباح التي تبتلع الأنسان... دخلا ذلك الكوخ ولم تكن المرة الأولى التي يدخلانه ولكن كانت المرة الأولى التي يصوّران داخله فالتقطا لبعضيهما الصور وضحكا ورقصا وخلعا ملابسهما الثقيلة ثم تعانقا...
خرجا فرحين من كوخ الأسطورة المقيمة في أذهان الناس وقد انتشيا بشيء خاص من لقائهما كما وكأنهما إكتشفا المرأة التي فيهما والرجل الذي فيهما من جديد... ومشيا في شوارع المدينة المزينة بأقنعة مزركشة معلَّقة أمام المارة والناس أجمعين...
عاد جابر إلى منزله ودخل غرفته وارتمى فوق سريره البارد لينام مع الأحلام والدموع، أما نسرين فلم تعد!... أيقظه هاتف والدتها تسأل عنها ولماذا تأخرت. فقال لها جابر بأنه، بعدما صوَّرا في السوق، قد أوصلها إلى حانوت الحقائب القريب من بيتهم وذهب.
قفز جابر من نومه وهرع الى محل الحقائب ووجد هناك أهل نسرين ونفر من الشرطة، خاف كثيرا واضطرب حين تقدم منه أحد رجال الشرطة وسأله عن نسرين وعن آخر مرة تحدث معها...
تجمهر الناس وبدأوا في البحث عن صبية في العشرين طوال النهار وتلته كل النهارات أما في الأمسيات كانوا يبحثون عن كل القصص المثيرة حول اختفاء الصبية وبعدها يشربون ويقهقهون ويمارسون الجنس وينامون ويفيقون في الصباح مع أساطير جديدة للنهار... فمنهم من قال أنها اختطفت ومنهم من قال أنها دخلت كوخ الأسطورة وابتلعتها الأشباح ومنهم من قال أنها هربت مع شاب آخر كانت تحبه لأن والدها أراد تزويجها رغما عنها... منهم من تعاطف معها ومن تعاطف مع والديها ومنهم من أراد أن تنتهي القصة... ومرَّت الشهور ولم يجد أحد أي أثر لها وشارف البحث عن الانتهاء غير أن القصة الغامضة لاختفاء نسرين لم تنته، لذلك قررت الشرطة تعميم خبر اختطافها والخروج الى ما بعد حدود الدولة.
غير أن جابر راح يبحث عنها في كل مكان كانا فيه معا... ذهب الى الفندق الصغير حيث ما زال عطرها يسبح في جوانب جدران غرفتهما...ذهب الى المقهى وجلس ساعات يراقب الساعات وزبد القهوة التائه في الفنجان... ذهب الى كوخ الأسطورة والى السوق والى المقعد الخشبي القديم في الغابة الذي حمل جسديهما هناك حيث تعرفا لأول مرة على لهيب قبلهما واكتشفا ملامح أعضائهما التناسلية... اعتكف في بيته يطبع الصور الكثيرة لآخر مغامرة كانت لهما في السوق وفي الكوخ...ولم يصدق أن كل هذا قد اختطف...حاول أن يقنع نفسه أن نسرين لم تعد معه وأن كل الأحلام التي احتفلا بها بقيت مجرد صور لذكرى في مدينة تتزين شوارعها بالأقنعة المزركشة، لكنه ما زال يعيش اللحظات معها... ما زال يعيش حالة من إنكار مزمن!
كان وقع اختفاء نسرين قاسيا جدا على أهلها وعلى جابر... فقرر الابتعاد عن كل هذا الوجع وعن أهلها وعن أهل عريسها الذين أعربوا عن أسفهم وسرعان ما وجدوا عروسا أخرى لابنهم... قرر أن يبتعد عن الصور والمقعد الخشبي القديم وعن طقوس الاستحضار التي صار يمارسها مثل العادة السرية ليعيش عطرها وقُبلها وجسدها وعينيها وأحلامها...لم يعد يجد أي شيء من نفسه التائهة ولم يدرك من قبل كم أن أحلامهما الخاصة، كانت هي الزاد الذي يجعله الاستمرار والعيش في هذه المدينة بكل أقنعتها ومتاهاتها الوهمية، وبأنه ما كان ليجد أي شيء جميل يصوره لو لم تكن معه... قرر أن يترك وجعها الذي زرعته في صدره عندما أراد والدها تزويجها، قرر أن يبتعد عن كلماتها وعن كل الزوايا التي اختبأ فيها حزنها وأنينها... قرر أن يخرج من متاهة تحدها مدينته من كل الجهات ويحدها كل الناس المتربصين للخطوة القادمة التي سيقدم عليها من وراء ستار نوافذهم البيضاء التي تتدلى منها أشرطة ملونة يعلقونها إحتفالا بأحد الطقوس...
حمل حقيبته الصغيرة وسافر إلى باريس ليذوب هناك في الأضواء وفي الشبق المتدلي من قوارير الزهور عند حفاف المقاهي الرصيفية المتراصَّة هناك لتستقبل أحلام جابر وهمومه ووجعه وحسرته علها تحمل شيئا من حكايته الموجعة. بينما كان هناك يحاول محاورة الحرية التي يمنحها المكان ويرتشف قهوته الصباحية في أحد المقاهي، تقدمت من طاولته صبية جذابة وحيته بالعربية وقالت: هناك شخص يود أن يكلمك... لكن يريد أن تتعهد أولا بعدم النهوض وعدم الحديث وعدم الاستغراب وعدم التعليق!!! نظر اليها جابر بدهشة حزينة وقال: ماذا أتى بك الى هنا؟ من أنت؟ وماذا تريدين مني؟ صمتت الفتاة وقالت: لقد رأتك صديقتك تدخل المقهى وشعرت باحساس غريب، الا أنها لا تستطيع أن تترك المكان دون الحديث معك؟ فقال لها: من تلك؟ لي صديقة واحدة واختفت بعيدا من هنا، وارتشف قهوته السوداء بمرارة ظاهرة على وجهه، تبسمت الفتاة وقالت: انها هي... التي اختفت... تريد الحديث معك... انتفض من مكانه ربما بسبب المفاجئة أو ربما ليقوم بأي فعل يشعره بكينونته وبأنه لا يهذي وصرخ في وجهها: من أنت؟ ماذا تريدين؟ فأجابت بهدوء يجب أن تتعهد بأن تبقى جالسا وأن لا تلفت الأنظار وأن لا تغضب من كل ما ترى وأن لا تبكي، قل إنني أتعهد وستأتي اليك.
صمتَ وصمت وصمت... ونظر بحزن مشرَّد في عينيها وكأنه يوافق كالغريق الذي يتعلق بقشة، فلم يعد يثق بماضيه ولا بحاضره... فأشارت بيدها وخرجت من جانب الشجرة القريبة من المقهى صبية جميلة جدا، إمرأة اشتاق جابر لرؤياها... لقد كانت نسرين، أتت باتجاهه وصلت إلى الفتاة التي أرسلتها وطبعت قبلة حميمية حارة فوق شفتيها وقالت لها وكأنها تشكرها، أحبك... أحبك جدا.
بقي جابر مع صمته، وقفت نسرين أمامه كآلهة إغريقية بكل عنفوانها، بكل جبروتها وبكل جمالها وبدت كأنها إحدى لوحات اللوفر الأسطورية... زرعت عينيها في كل ملامحه تستحضر الماضي والحاضر في تقاسيمه الشبقة والمشردة... وقف بذهول وضمها إلى صدره بقوة الفرح الذي اعتراه ووضع يديه على وجهها ومرَّر أنامله فوق شفتيها... ثم جلسا...
عاد جابر إلى صمته البركاني ليصغي إلى نسرين، بكل حواسه، في سيناريو جديد للقصة... منذ البداية.