ساعة رملية وثلاث أمنيات
أحاول في قراءتي لهذا الكتاب «ساعة رملية وثلاث أمنيات» للكاتبة عناق مواسي، أن لا أكون عُرضة للقولبات والمعايير التي ترسم حدود تفكيري وتحصر قلمي في دوائرَ تبدأ من نقطة وتنتهي في أخرى، كما أفعل في كل قراءة لنصٍّ جديد، حيث أحاول أن أكون شموليا في الطرح وفي التحليل. لذلك لا أرغب في وضع هذا الكتاب في تصنيف الأدب النَّسوي أو الشبابي أو غير ذلك إنما أعطيه الحق الكامل في التمرد والانطلاق والاندفاع كما هو يرغب وكما كاتبته ترغب من خلال كلماتها. اليوم نحن لسنا بحاجة إلى تصنيفات أو تعريفات إنما بحاجة إلى قراءة عميقة دون الانحياز إلى حدود قالب معين والتيه في مداراته. لذلك التصنيف الأدق هو أدب جيد أم أدب غير جيد والأدب الجيد هو ذلك الجميل الذي يشدّك، ويجعل من تجربة الكاتب منبرا أيضا لأحاسيسك بشكل جذاب وراقٍ، لكني أيضا أوافق الناقد الأديب عطا الله جبر بأن التخصّص في الكتابة من ناحية تحديد النوع الأدبي للكتاب يضفي بعدًا أعمق وأقوى.
لافتٌ للانتباه جمال هذا الكتاب من حيث التصميم والأناقة، المبنى، واختيار النصوص وترتيبها وعنونتها فكما نعرف أن للعنونة دراسات عدَّة حول دلالاتها المتنوعة، وأرى شخصيا أن عنونة النص هو عمل إبداعي منفصل عن النص وفي ذات الوقت متصل فيه من خلال علاقة سريَّة يختارها الكاتب من بطن عالمه الخاص جدًا ليشكل الواجهة التي يريد الكاتب أن يظهرها، وهنا تُظهر الكاتبة عمقًا ونضوجًا في اختيار العنوان الخارج من عمق تجربة خاصة، مثل: تحت قوقعة الحلزون/ السبب بديعة/ بدايات الليلك/ شتاء 2010/ زمارين والليلك/ وغيرها.
هو كتاب أول، باكورة أعمال عناق مواسي بكل ما تحمل الكلمة من معنى/ فيه التجربة وفيه المغامرة فيه الجرأة وفيه "المطبّات" إذا صحّ القول وفيه الخطأ، فيه التردد وفيه المحاولة، فيه العمق وفيه السطحية في بعض النصوص، فيه الانغماس الكامل بعالم القلم والكلمة بشكل أناني مطلق وفيه بعض التفسيرات التي أتت "معطوفة" غالبا لتبيّن للقارئ المعنى مما أضعف بعض الصور، هذا الكتاب هو التجربة الأولى بكل ما فيها من إثارة وشغف وشوق وخوف واندفاع واكتشاف. لا أرى في هذا الكتاب دعوة الكاتبة إلى الزمن والساعة الرملية إنما أرى النصوص التي مرَّت بمراحلَ زمنيةٍ والتي تعكس مرحلة زمنية مختلفة عن الأخرى، مراحل تتفاوت من ناحية القدرة والاستعمالات اللغوية والجمالية في النصّ وكأنه سيرة ذاتية لقلم الكاتبة في مراحل نموه المختلفة في طفولته ومراهقته وثم نضجه وهذا يبرز في التفاوت الموجود بين نصوص"اختصار إيقاعات الصبر" وبين نصوص "بدايات الليلك". وفي قراءة تلك النصوص، "بدايات الليلك"، نتمتع بلوحات متكاملة مثيرة جذابة لها مساحة أدبية ووقع فني عميق وراقٍ ويبرز فيه مهارة الكاتبة في النص واستعمال أساليب سردية وأوصافٍ شعرية بشكل ناجح ومثير. هو أقوى وأجمل من "اختصار إيقاعات الصبر" الذي يقع في بداية الكتاب وكأنه مرحلة البداية أو الطفولة ومشارف المراهقة التي انعكست في نصوص نثرية وشعرية تتخبط بين الصور وتقيّد الكاتبة ببعض الحدود التي يأبى قلمها أن يكون داخلها لنراها تنطلق لتتنفس الصعداء بقدرة جميلة وثقة أكبر واستعمالات أقوى في نصوصها القصصيَّة.
نرى في بعض الأوصاف محاولات بدائية ونرى بعضها ما زال غير ناضج ولكن تداهمنا بعض الصور الأخرى التي تبشر بكاتبة تستطيع توظيف الكلمة بشكل جذاب وتستطيع أن تقول ما لديها بعمق ثقافي شمولي شامل ناعمٍ وشرسٍ في آن واحد لكاتبة حساسة مرهفة تثق بقلمها وبقدرتها، فنجد مواطن ضعفٍ في النصوص الأولى، بالذات، لتليها مواطنُ قوةٍ لتعكس صورة كاتبة لها تجربة بالكتابة واللغة والتاريخ والعلوم والثقافة بشكل عام، فحضور التاريخ ودروس التاريخ بارزٌ مثلا: تلميح للنكبة، تذكر أيضا، نيرون حرق روما، هولاكو أغرق الفرات بالحبر، نابليون رمى قبعته عند أسوار عكا، ومعلم التاريخ الأستاذ رؤوف، المعالم الأثرية التي سحقها المغول وغيرها...
نجد الجموحَ والإحجام/ نجد الثورة والانحسار والانكسار، نجد صورا شعرية جميلة، مثل: "جسمها لوزٌ وسنديان شعرها ليلٌ يتَّكئ على خصلات تتراقص فوق كتفين عاليين خدّاها نبيذٌ من الخجل"، صفحة 76 "كما تدحرج المساء من السماء"، صفحة 77 "حقي أن اعرف لماذا لا أثمر / تنفس الفجر صبيحة الأحد"، استعمال لافت في "كيف الأساطير تنتهي؟" صفحة 171 بالنسبة لي لماذا لم تكتب كيف تنتهي الأساطير؟ في ذات القصة، صفحة 172 "للريح ترك ظهره" وليس ترك ظهره للريح، صفحة 173 "على مسطح الكرامة المسلوبة في زمن الحدود المغيبة تبدأ الأساطير!" هل هذا تحايل آخر على القواعد أم هو حسّ شعري أم أهداف التأكيد والتشديد لعبت دورًا، في ذات النص صفحة 173، حسب رأيي، تلخص عناق مواسي بنص جذاب إيديولوجية وعقيدة امرأة وحضور امرأة لتنهيه في نص إضافي في ذات السياق صفحة 175.
مضمون الكتاب يدور حول هو وهي/ هذا كتاب عنه وعنها/ كتاب له ولها/ ينسجم في لقاء حتمي ويومي مع الذات ومع الآخر في واجهات البيئة والمجتمع الذي نعيشه، هو حوار بينه وبينها وبينها وبينها. حضورٌ مكثّف لها وله، حضور مكثف للجسد والمرأة وسلطة المرأة وضعفها ومواجهة الرجل والمجتمع بكل ما فيه من قوانينَ مكتوبةٍ وغير مكتوبة. كأنما يتجسد المجتمع بالرجل ويتآمر مع الرجل عندما تؤكد الأم/ الجدة في بعض النصوص "ظلّ الرجل وهيمنته"، كما ورد تلميح جميلٍ صفحة 92: "الالتزام الجسدي لأجندة الانفعال والدهشة" صفحة 103 " هذه فرصة أن أرسم الحدود على خارطة الروح وأحدد المناطق التي يجب أن تكون تحت الحكم العسكري وإلا بقيت هذه الأرض تحت هيمنة الجسد الأقوى" وغيرها الكثير من المواقف التي يخال للقارئ بأن هذا الكتاب هو حوار دائم بين العلاقة بين الرجل والمرأة ومكانة المرأة بشكل خاص في عالم رجولي!
في بعض نصوص الكتاب تحاور الكاتبة التقاليد مثل النَّص "السبب بديعة" وتحاور البديهيات الاجتماعية وتبرز نقمة على التربية والمجتمع والكبت العاطفي المعنوي والإحباط الفردي والإنساني لمجرد الالتزام بقوانين الزواج بنمط معين وحسب ترتيب معين بين الأخوات من الأكبر إلى الأصغر. "كما لم تكن امرأة" صفحة 181 نصٌ ثائر/ متهكم/ قوي/ وصفة للنساء للتمرد ووصفة في ذات الوقت للنساء لممارسة كل أنوثتهن، وصفةٌ للشفاء من الإحباط والانحطاط ووصفة للتمكين الشخصي والذاتي من خلال رفع مكانتها وفي آن واحد الانسجام مع عالم الرجل. هناك "تقزيم" لمكانة الرجل ولكن بهدف التهكم على المرأة القوية التي تختبئ وراء هشاشتها وأيضا التهكُّم على الرجل القوي ولكن الهشّ الذي يختبئ وراء جبروته. أما في صفحة 133 كما نرى في "طقوس السعادة" – نص جميل للغاية، لغة مكثفة، تلميحات، تورية، "سيركازم"، عرض واقع مشوه/ تهكم على مجتمع وعلى واقع لتصل في "طقوس السعادة" حتى "الانكسار" كجزء من هذه الطقوس في صفحة 138 وكم هذا فعلا يعكس واقعنا.
هذا الكتاب هو صوتٌ لِهِيَ، هي كيف ترى العالم، العالم بعيونها، تطالب بمساحة وتفرض حضورها وتحدد اختياراتها رغم كل حدود المجتمع/ تقوم إلى حالةٍ تفرض فيها واقعًا جديدًا للمرأة وذلك بأن تختار ويكون لها حق القرار. "وتنتهي القارورة ولا ينتهي الرمل!" وأعجبني أكثر من هذه الجملة، جملة النهاية في الكتاب، والتي تبشر بميلاد آخر لإبداع جديد: "تنتهي القارورة ولا ينتهي العطر!".