تشــرين في أكتـــوبر!
كم هو ضاجٌّ أكتوبر! ما زال يتخبط بين القيظ وبين المطر، ملامحه غير واضحة، أكتوبر الوجع؟! تشرين العطر؟! أكتوبر الشتات في دوائر الاستفهام؟! تشرين المطر؟! أين سنضع أكتوبر في سجل أيامنا؟ يداهمني أكتوبر "بتشرينيته" وتكتظ فيه الدعوات المستلقية في مساحة بريدي الالكتروني، تستحوذ الغبطة على جسدي... تبدّل حزنَ أكتوبر بفَرح العمل المكثف، لكن أشعر بالزّحام في هذا "السباق" الثقافي... وأضطر مجددا أن أقوم بتصنيف هذه الدعوات لأستقر على برنامج واحد أو على برنامجين بالأكثر، لأشارك بهما وأنا مقتنع بأن قراري كان الأفضل من بين تلك "التشكيلة"، إلى جانب المشاركة القسرية بانفلات الشارع، الممتزج بالغضب المبرَّر في أكتوبر، وأحيانا غير المبرَّر الذي يلازم كل الأشهر والفصول دون هوادة أو رقيب.
قررتُ أن اخترق زحام العروض المتنوعة لأتبع رغبتي، هذه المرة، في أكتوبر ببرنامج يليق به ويليق بحالتي التي ترغب في الانسجام مع عملٍ راقٍ ليرفعني من اكتظاظ التيه والرؤى الضيقة، ليرفعني إلى عمل يرقى بالإنسان والإبداع ويحملني إلى حالة ميتافيزيقية جديدة... كم هو جميل ذلك الإحساس عندما تكون لك مساحة خاصة للاختيار، بالذات وأن خياراتنا في أكتوبر وأيلول وأيار، وكما يبدو خياراتنا ما بعد وما قبل، تبدأ وتنتهي في ذات النقطة... التي هي، أيضا، قد تكون وهميَّة.
من هنا حَملَني جسدي نحوَ ساحةِ العَين وتحديدًا باحةِ كنيسة البشارةِ قربَ عين العذراء في الناصرة التي اكتظت بالناس والهَرج، حتى خِلتُ إنني بزَمكانٍ آخر ليس في هذه الديار. قررت المشاركةَ في عرض "أحد عشر وترا"... لأجلس في عتمة الضوء هناك! وأشهد على حدث متميّز. تبِعتُ النغمَ دون الاكتراث للمحيط الزائف ووصلت إلى هناك لأجد الساحةَ الداخلية قد اكتظت في الوجوه العطشى ولم يعد إلا بعض المقاعد، التي حالفنا الحظ في احتلالها، أنا وعائلتي، والاستيطان بها دون حراك أو زحزحة... حتى انتهاء العرض، حتى انتهاء التكوين... وربما كل "الأسفار"!
بدأ العرض... حين أعلنت دنيا مخلوف، بصوت صافٍ فارضِ الحضور، حالةَ السكونِ فورَ قراءةِ مقطوعةٍ لأدونيس ولوسام جبران فيها يحاوران الصمت، وكأنها تدعو الجمهورَ إلى البدء بطقوس الصلاة في أحد المعابد المقدسة... وَرُحت في الأثير المشحون بوجع أكتوبر على أمل الخروج من "سِفر" العبودية الخانقة إلى ممارسة أخرى لحالتنا، للتشديد على جبروتنا وصمودنا من خلال النهوض بعمل فني ثقافي يصرخ ويفرض حضورنا بشكل مغاير، وبشكل مثير، قوي الوَقعِ والاحترام.
امتزَجَت دَندَنة العودِ مع الكَمان تحت أصابع وسام جبران مع "أوتار الليزر" تحت أصابع الايطالي بييترو بيرريللي ليَخرج صدى عميقا لنهارٍ جديد في ساحةٍ عتيقة، لحنا شعبيا من الرافدَين ولحنا "حداثيا" ولحنا مركّبا، ليمتزج مع صوتِ المريمات اللاتي أتين في المساء ليملأن الجرارَ ماءً، من نفس المكان، وجلسن يصغين إلى لحنٍ لطالما اشتقن إليه... جلسن بصمتٍ ينتظرنَ البشارة!
رائعٌ... حين تندفع الأوتار وتتراكض تحت أنامل الفنان جبران في حلمٍ، لتحلِّق وتصل إلى أوتارِ "الليزر" التي زرعها الفنان بيرريلي... هذا التناقض الذي يعايش الانسجام ما بين الأمس والحداثة، بين الهذيان والواقع لأرى النغمَ يتراقصُ وأثير الليل في السماء! ويشاكسُ طَبلة الأذن...ويهبط في إيقاعٍ دائري ويحتفل في عيوننا بمهرجان مثيرٍ في حاضرة الشتاتِ والوطن، حيث وُلدَت الحكاية في هذا الليل الغريب من تشرين.
حين خرَجنا من دائرةِ الضوء والصوت وعند انتهاء تلك الساعة من "الانخطاف" بين إبداعين جَسَّدا حديثَ اليومِ لليومِ وحديثَ الليلِ والغيمِ للأرضِ، خَرَجنا إلى الساحة الكبيرة المليئة بالمقاهي، فقالت لي صديقة: هل نحن في مدينتي؟ ... ما هذا الكم من البشر؟ ... كم هو جميل أن تعيشَ هذه الحاضرة ويمتلئ أثيرها بمهرجان الإنسان... قبل كل شيء!
في تلك الليلة لم نجد مكانا لنا في أحد المطاعم ولا المقاهي المترامية حول الساحة... والسؤال الوحيد الذي كان بطل المواجهة وهو الذي حسم الأمر، هل قمتَ بحجزٍ مسبق سيدي؟! وكم أسعدني ذلك... أن تكون الساحة في تلك الحالة جراءَ ذاك الزّخم الثقافيّ، لكن ذلك زاد من إصراري حتى وجدتُ لنا طاولة في احد المطاعم، لأمارس التراخي في ليلة ثَمِلة من أثير الموسيقى والأرض، بعد رذاذٍ من مطرٍ يلطِّف وَجهَ العتمةِ.
حين التقيت جبران وبيرريلي في اليوم التالي، في نفس المكان الذي كان قد غادر الازدحامَ ليعود لسكونِ الليل في أروقةِ الصمت... كان مهمًّا بالنسبة لي أن أفهمَ ما وراء الكواليس، وحين حصلتُ على تفسيرٍ حول انسجام اللحن مع الليزر، شعرت بفخرٍ وفرحٍ حين اعتراني إحساسُ التجرّدِ من كلِّ الروابط الأرضية، ولاستقر في دائرة الإبداع من أجل الإبداع والإنسان... ولأرتفع من متاهات الدَّجل الثقافي المهيمن على شرائحَ عديدةٍ تَدَّعي الثقافةَ ولا تمارسُ غيرَ نرجسيَّة واقعٍ من هراء وتدّعي الفن وتكذب على الفن وتحتقر الفن. تشعرُ بالفخر حين ترتقي بالإنتاج وحين تتميز بظاهرة فنية فريدة وعرضٍ راقٍ يحملنا إلى علاقة منشودة بين لحن الطبيعة... ومساحة الصمت التي تتناهى بين رقص الأوتار فنبحر فيها ونصل إلى كل معالم الخلق والكون...
بعدَ رحيل الوردِ والألوان والأصوات حين عادت الساحةُ إلى بيتها وعادت المقاهي إلى عاداتها تحت الأضواء الصفراء، جلستُ هناك لأستحضرَ اللحنَ وروحَ المكان... فرأيت المريمات ينتظرن البشارة... هناك في أكتوبر عند مشارفٍ "تشرينية" رطبة!
شكرا وسام، شكرا بييترو على هذه الرحلة في تشرين حيث منحتُما سلاما لأكتوبر ولنفوسنا المضطربَة، وفكرًا ميتافيزيقيا يحمل رؤى ترقى بالزمكان... لتزاول البقاء بين أكتوبر وتشرين في آن واحد!