الأضراس
دوّخني الصائغ بعرض طرق بنعومة بابَ قلبي، وغادرت دكّانه مُقلّباً عباراته التي شتلها في أذني (أنت مخيَّر في العمل معي...بلا شك كان من ضمنهم موتى يمتلكون أسناناً مُذهبة؟). ولمّا أحسَّ الصائغ بعدم قدرتي على الرد وشيكاً، أمهلني فرصة إلى يوم آخر.رحت عائداً إلى منزلي وأنا أحسبُ عدد الفكوك التي ألقمتها أحجاراً، في طقوس نمارسها نحن الدفَّانون، مشدوهاً برغبة خالطها القلق. لكنني في اليوم التالي، وبعد ليلة اتخمها التفكير، ذهبت إلى محل الصائغ معلناً رضاي بالعمل معه.وبعد الاتفاق، جلسنا نتحاور بشأن الأجر ووقت أول مهمة سأقوم بها، فلم أتردد حين فاجأته هامساً "الليلة".
ليل المقابر في قريتنا لا يشبهه ليل، بالرغم من أن الليل واحد في كل أرجاء القرية،غير أنه هناك أكثر عتمة،وأوقع في النفس."القبور قبوري"هكذا ألقمت فم خوفي بحجر الغلظة، وتناسيت رغبة إلغاء العملية،تحت نقر شاكوش العوز. تقدَّمت بحزم صوب قبر مالك مزرعة الماشية، الرجل الثري ذي الأسنان المذهبة والكرش المنسدل. تذكرت يومها كم تعبنا أنا ومن جلبوه في دفنه، حتى أن فكّه كان صعب الفتح متصلباً، لحظة وضع الحجر في جوفه ساعة كاملة وأنا أحفر على نور فانوس خفيض ،تمالكت فيها أعصابي ،وألقيت عندها مرساة فكري. بان لي في تلك اللحظة جسدٌ أخذت منه الضآلة مأخذها.أمطت اللثام عن الوجه الذي كان عصياً على التمييز.فتحت فمه بيسر، ثم خلعت ما أريد خلعه من أضراس مُذهبة،ثم دفنت الجثة من جديد لأعود إلى منزلي مبتهجاً.
(مذهل...!!)هتف الصائغ بعد أن رأى الأضراس اللامعة .وراح يعد المال الكافي لمكافأتي على صنعي.أخذت المال وهرعت إلى ما كنت أحلم به في أيام عوزي وفاقتي. أأكل واشرب وأضاجع بثمن الأضراس. بالرغم من ذلك الإحساس الفائح بالغثيان..وبعد أيام قلائل، داهمني العوز مرة أخرى. وثبت على باب الصائغ الذي لم يفعل شيئاً، سوى أنه أشار بيده إلى كرسي أجلسني عليه،وصار يتساءل عن مشروع جديد لنبش قبر آخر. لم يستغرق الأمر طويلاً، أنهيت كلامي معه في تلك الساعة ،وتوجهت تدفعني الرغبةُ صوب غرفتي، لأتناول عشاءً دسماً، يكفي لسد احتياج عضلات ساعديَّ في مهمة النبش الآتية. كان الشخص التالي سيدة كبيرة في منزلتها عند أهل القرية. فهي زوجة شيخ القرية. مازلت أتذكر يوم دفنها كيف أقفلت الحشود باب المقبرة، وكيف أن النساء تجمهرن باكيات، والرجال احتشدوا معزين شيخ القرية. مع أن شيخ القرية الذي لحق بها بعد أشهر قليلة، لم يأت إلى جنازته ربع العدد السالف. لم يطل الأمر على ساعديْن تعودا الحفر، ولم يفاجئني مشهد الجثة المكمَّمة والملفوفة كمومياء .كشفت اللثام عن وجهها،أخرجت حجري الذي كان مغروساً في فكها،ومن ثم اقتلعت حصتي (ثلاثة أضراس مُذهبة). ثم أرجعت كلَّ شيء إلى مكانه، كأن شيئاً لم يكن.هرعت باكراً إلى الصائغ لكي أستلم حصتي. وكما هو متفق عليه، عدَّ الصائغ المبلغ، وضرب بخفة على كتفي مهنئاً: (خذ وقتك ...تمتَّع).
الصباحات في قريتي نسخة مكررة مع تلال من القبور الصامتة.مرت أيام لم أر فيها جثة واحدة.سبب بقائي مرهون بموت نفس وهذا ما جعلني أملُّ من أيامي المستنسخة .غير أن فكرة تركي لعملي (الدفن) باتت تزعجني،ماذا أعمل حين اترك هذه المهنة، وبعد أن صار لها طعم آخر لم أتذوقه من قبل..من بعيد لاحت جنازة يحملها نفر قليل، فتهللت أساريري،وأزاح منظر التابوت العتمة عن قلبي.حين طرح النفر التابوت على الأرض، بدأت استعرض هوايتي التي حفظتها عن ظهر قلب،في ترديد العبارات،والترحمات،وأشياء أخرى جعلتني أبدوا كناسك،والواقفون مندهشون من تلك الجمل الرنانة الفخمة المليئة بالروحانية والسكينة الغريبة."رجل أم امرأة ؟" سألتهم بنبرة تصنّعتُ فيها الوقار،فرد عليَّ أقربهم وقد انفجر باكياً:(رجل...كان رجلاً كبيراً لعن الله من قتله)."فليرحمه الله" تمتمتُ ثم باشرت بدفنه ،وفي جيبي حجري الذي ألقم به زبائني .ومنذ أن باشرت مع الصائغ في اتفاقنا، بدأت أدقِّق النظر في الفكوك،كي لا يفوتني ضرس مُذهّب.في تلك اللحظة تفجر بركان ذهولي، حين رأيت فكَّ الميت مليئاً بالأضراس المُذهبة. وحين عدت إلى منزلي عقدت العزم على اللحاق بالجثة ليلاً،وأعود غانماً بأضراسها إلى الصائغ.
مرت حزمة أيام عشت فيهن أجواءً من الرغد والتلذذ بأثمان الأضراس السالفة. حتى أُحضرت جنازة امرأة عجوز، كان زوجها موظفاً حكومياً كبيراً،ثم ظلت وحيدة حتى أتى جمع غفير بها إليَّ ميتة.
"وجدناها رحمها الله مذبوحة في بيتها " قذفت هذه الجملة التي أطلقها احدهم كعيار ناري القشعريرة في بدني.ثم دبَّ الارتباك في تفاصيلي حتى كدت لا أقوى على الدفن.وخصوصاً بعد أن لاحظت عدد الأضراس المذهبة في فكها!.بعد انتهائي من دفنها وتوديع المشيعين . جلست أفكر طويلاً في هذه الصُدف الغريبة!. لكنني بعثرت دخان ذهولي بزفير حزمي وعدم اكتراثي. حتى تطورت الحوادث في القرية من ساعتها.حين أُشيع عن سفاح يقتل في القرية ،والغريب في الأمر انه يقتل ولا يسرق شيئاً من قتيله .والشيء الغريب الآخر الذي لم ينتبه له أحد غيري ،أن جميع القتلى يملكون أضراساً مُذهبة!.صبرت هذه المرة وفي حوزتي أضراس المرأة المذبوحة، ولم أغادر منزلي،حتى دفعتني الرغبة في العودة بهن للصائغ،متناسياً تلك الحوادث ورائي.
خرجت مخفياً أضراس المرأة العجوز في جيبي، صوب دكّان الصائغ، وأنا أحلم لحظتئذ بالمال الذي سأكسبه اليوم ،وأين سأصرفه؟.سوف أقضي الليلة منتشياً بما كسبته .فنبش القبور بحثاً عن جثث ثمينة، تراءى لي أفضل بعشرة أضعاف من دفنها.لكنني حين وصلت إلى دكّان الصائغ، رأيته من بعيد وهو يوشوش في أذن رجل غريب يرتدي ثوباً أسود،وعلى خده الأيمن نزلت ندبة طويلة، كأنها ضربة سكين ملتئمة.كان وجهه وهيئته يخيفان أي شخص يراهما..انتظرت طويلاً خارج الدكّان أراقبهما بحذر، حتى وقف الاثنان، وقد تهيأ الرجل المخيف للمغادرة.ضرب الصائغ على كتفه بخفّة.ثم دلفتُ إلى محل الصياغة، وقد كان دخولي مع خروج ضيف الصائغ، الذي لمحته بطرف عيني يعدُّ مبلغاً من المال، ثم دسَّه في جيبه..رأيت في عينيه أحساساً بالنشوة،ذلك الإحساس الذي يداهمني كلما خرجت من دكّان الصائغ!.