الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكراتها قطعة ادبية نادرة
بقلم سهى بشارة

الاسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة تروي مذكراتها - الحلقة الاولى

تمهيد

لم أكن لأتخيل ما حييت مكاناً أصغر من ذلك الذي كنت فيه.

وإذ وجدتني ثانية أمام الزنزانة رقم 7، طال بي الزمن حتى استوعبتُ أنني عشتُ حقاً هنا، بين هذه الجدران الضيقة للغاية. وأنني أمضيتُ في هذا المعتقل عشرة أعوام من حياتي، ثلث أيامي، وثلث ليالي.

ها أنني أعودُ اليوم الى معتقل الخيام، في جنوب لبنان، وسط خضم الجموع الغفيرة التي تحث الخطى إليه. وها أن المعتقل الذي طالما أرهب الناس، بات اليوم محجة لهم. وكان قبل اليوم، وإبان سنوات الاحتلال الإسرائيلي السوداء، أشد الرموز إيلاماً للوطنيين. فرأيت جمهرة الزوار وهي تروح وتجيء في قاعات التعذيب والاستجواب داخل السجون المقززة، حيث مر الكثير الكثير من الرجال والنساء، رأيت هذه الجمهرة تنظر ولا تصدق أبصارها، وتروح تخمن، في ما ترى، العذابات التي كيلت لكل سجين وسجينة فيه.

كان التاريخ قد توالت أيامه، قبيل أسبوع من هذا الحدث، على نحو مفاجئ. ففي الثاني والعشرين من أيار / مايو من العام 2000، سرّع الإسرائيليون انسحابهم من المنطقة التي كانوا يحتلونها منذ العام 1978، في جنوب لبنان، رغماً عنهم. لما أدركت الميليشيات اللبنانية، المرتزقة لدى إسرائيل إنه لم يعد لها أي حظ في البقاء، وأنها صارت في حكم المتروكة لمصيرها، في أجل قريب، أخذ أفرادها يسلمون أنفسهم الى حزب الله، الذي بات بدوره، رأس الحربة لمقاومة هذا الاحتلال. وحيال هذا الأمر، حين وجدت الفرق الإسرائيلية أن الدرع التي طالما كانت تحميها من المقاومين انهارت، أدركت أن لحظة الانسحاب حانت، قبل أن تتحمل تبعات بقائها في لبنان وخروجها منه بأثمان باهظة.

ولم تنقض ثمان وأربعون ساعة، حتى وجدت الإسرائيليين يسارعون الى إخلاء مواقعهم، بعد أن يدمروا دُشمهم، وينكفئون الى داخل فلسطين المحتلة، من دون خسائر.

وفيما كانوا يعودون القهقرى، رأى الإسرائيليون رجلاً قدم لتوه، ليعاين الكارثة التي حلت بأتباعه، وكان الرجل المذكور عائداً من إقامة طويلة له في فرنسا، حيث رتب لعائلته العيش الدائم، بعد يقينه من عجزه عن عرقلة الانهيار الذي بات محتوماً.

أنطوان لحد، قائد الجنود اللبنانيين الملتحقين بإسرائيل، قائد الجيش الميت هذا، جيش لبنان الجنوبي، رأيته، في هذه الأثناء، يرغي ويزبد "للخيانة" التي طعنه بها حماته القدامى، ولتركهم المئات عرضة للإهانة والاعتقال في أرض مكشوفة، وكانوا طالما قاتلوا لصالح بلد ليس بلدهم، وضحوا في الغالب بأرواحهم في سبيله.

وشاءت الأقدار أن يرتبط مصيري بمصير ذلك الرجل، لاثنتي عشرة سنة خلتْ.

لما كنت طالبة شيوعية، ومتحدرة من عائلة مسيحية أرثوذكسية إلا أنها لبنانية بالصميم، ألفيتُني منخرطة في الحرب، منذ مراهقتي المبكرة، ضد كل ما يجسد هذا الوجود الغريب في أرضي، ودفعت من حريتي ثمناً لخوضي هذه الحرب، إذ أودعت في الزنزانة بلا محاكمة، ومن دون أن يتسنى لي معرفة سنوات العقوبة المفروضة علي.

عشر سنوات سُلخت من حياتي

ومنذ أن تحررت، لم يكن ليغيب من خاطري، ولو يوماً واحداً، ما عشته في معتقل الخيام، وما كانت لتمحى من مخيلتي صُور الذين كانوا لا يزالون يعانون القهر والعذاب فيه.

وما فتئت ذكريات الأيام التي قضيتها في معتقل الخيام تعاودني، وتأخذني أحياناً على غفلة مني. ذات صباح، وأنا مقيمة في باريس، مكان إقامتي المؤقتة، تلقيت رزمة مرسلة الى عنواني من لبنان. حللتُ الرزمة فوجدت في داخلها ما يشبه المخدة. فسارعت الى إخراجها من علبتها ووضعتها على مكتبي.
ورحت أنظر اليها دون أن تراودني أدنى فكرة عما يمكن أن تكون. إنها مجرد هدية. وطال بي الزمن وأنا أحاول إدراك سر تلك الهدية، حتى التمع في ذهني بارق ففهمت. حللت حبكة المخدة، فوجدت في داخلها قصاصات من الورق كتب عليها جميعاً بخطٍ عرفت صاحبه للتو.

كان ذلك الخط خطي. ابتلت عيناي بالدموع، وجعلت أرتب هذه الكنوز فوق سريري، وسرعان ما مضت بي اللقيا الى هنالك، فخالطت نفسي روائح الخيام، وأنوارها وضوضاءها، على السواء.

وتبين لي ، فيما بعد، أن إحدى المحررات حديثاً من معتقل الخيام، شاءت أن تحمل في طوايا ثوبها هذا الجزء الصغير من ذاتي الذي كان لا يزال سجيناً هنالك، عنيت قصائدي التي نظمتها في المعتقل خلسة، ولم يكن بوسعي حملها، حين انفتحت لي بوابات المعتقل، على نحو مباغت.

ولولاها لكان قد قدر لذاكرتي أن تظل أسيرة في المعتقل.
وما كلمات هذا الكتاب إلا استكمالاً لها، اليوم.

دير ميماس

عود لي الى دير ميماس

دير ميماس هي قريتي في جنوب لبنان، قرية وادعة، لا أبسط مع بيوتها المئة، ذات الأسطح المتربة، والقائمة على سفح جبل، وفيها ثلاث كنائس، وتحيط بها أشجار الزيتون من كل ناحية. أما منزل عائلتنا فيقوم على طرف القرية قليلاً، وعلى مطلٍ منها، غير أنه كان يكفي لأحد منا أن يهبط المنحدر حتى يجد نفسه، وبطرفة عين، في ظلال الأجراس. وكان جدي، لأبي، "حنا"، عمّره، مكعباً من الإسمنت والحجارة الشقراء، وقد نفذت منها أبواب ونوافذ، مزدرعاً وسط خضرة الجنائن، تحيط بها أشجار الرمان. وكانت شجرة تين عملاقة تنبت قرب المنزل، مانحة إيانا ثمارها على مدار السنة. وكان المنزل مؤلفاً من ثلاث غرف وشرفة واحدة. وكان لأبناء جدي الخمسة، ومنهم والدي، أن يكبروا بين جدرانها هذه، غير بعيد عن منزل آخر أليف لنا، هو منزل عائلة أمي.

ها هنا أمضيت كل العطل الصيفية، زمن طفولتي وفتوّتي.

لعبت، ركضت مع أترابي وأبناء عمومتي في الأزقة، وأعنت أمي في أعمال الحقل. وسبحتُ في النهر، الى أسف الوادي. تسلقت قمة الجبل لأرى جيداً، وعلى ذروة الجبل المقابل، قلعة الشقيف التي أحكم الصليبيون بناءها على الطريق المؤدي الى القدس، والتي كانت لا تزال في عهدة الجيش اللبناني.

وهكذا، تسنى لي أن أعرف بلدة الخيام، خلال إحدى نزهاتي الكثيرة، وهي الواقعة على بعد كيلومترات عديدة من بلدتنا. كان يقوم في البلدة معسكر، مثله مثل أي معسكر آخر، وكان بمثابة حامية قديمة من إرث الاستعمار الفرنسي، وثكنة منشأة على تلة مشرفة، وسط شجر الصنوبر، وتمد سلطانها على النواحي. وكان خراج بلدة الخيام الأوسع امتداداً لقرى الجوار، حيث تترامى أرجاؤها إلا أنها تلبث تحت إشراف المعسكر ونظره. ولا أزال أذكر هؤلاء الجنود الشبان الذين كانوا يقومون بحراسته، حين تبادلنا وإياهم بعض الكلمات. ولم يكن ثمة ظرف معين يحكم تلك الصدفة، في حينه. وما كنت لأتخيل الصورة التي سوف يؤول إليها ذلك الحصن المسور بعد مضي خمسة عشر عاماً على الصدفة المذكورة .

نعم، على هذا النحو انقضت صيفيات طفولتي، في دير ميماس، الى أن حدث الاجتياح الإسرائيلي.

قريتنا مسيحية، وعائلتنا من الطائفة الأرثوذكسية، واسم عائلتنا العربي، ينبئ بالبشارة التي أعلنها الملاك لمريم العذراء. وقد اتفق أهلونا على أن تعنى العمة "أدلاهيت" بتربيتنا المسيحية. وكادت هذه العمة، لكثرة تقواها أن تدخل سلك الرهبنة. ولئن انصرفت آخر الأمر، الى التعليم، فإنها قد ظلت تلك "الراهبة التقية" في نظر العائلة كلها. وبغض النظر عن كوني غير ممارسة لطقوس الديانة، وجدت أنها كانت خير مثال وصورة عن الدين، هنية، ومسالمة، ومنفتحة الروح. وكلما حان موعد ذهابنا الى الكنيسة يوم الأحد، همت الأخت "أدلاهيت" لتمضي بنا الى كنيسة الكاثوليك، ما دامت رعيتهم في جوارنا. بيد أني، في أيام فتوتي هذه، كنت أنظر الىالدين على أنه الأعياد الدينية، ليس إلا.

ففي الخامس عشر من أيلول / سبتمبر، من كل سنة، كان الناس في قريتي، يحتفلون بعيد مار "ماما"، شفيع قريتنا، وكان ناسكاً متعبداً لله. ما كنا لنفوّت هذا العيد، أياً كانت اهتماماتنا. ففي ذلك اليوم، تجد كل أبناء القرية، ممن كانوا في بيروت للعمل أو الدراسة، قد عادوا إليها، علىوجه السرعة. وكان آل "بشارة"، شأن العائلات الأخرى في القرية، أُثِرَ عنهم حبهم للسمر والتسلية. حتى إذا حل الليل، رأيتنا منصرفين الى الطعام، والرقص، وإرسال الأنغام، وسط الحوش داخل دير أنشئ على ذلك الإسم، "دير ماما"، والذي بدا رغم انعزاله عن القرية قليلاً، غارقاً وسط غابات الزيتون الدهرية. ولا تلبث فرحة العيد أن تعم الحاضرين. في حين ترى الرجال يشربون العرق حتى يجانبوا التعقل أحياناً، ولا تعف النساء عن دموع العذراء. وإذا انقضى الليل، على هذا المنوال وأقبل الصباح، هُيئت النفوس للاحتفال بالطقوس الملائمة وللزياح. والحال أن الديانة والاحتفالات غالباً ما كانت تسير جنبا الى جنب، متآخية ولا سيما في الأعراس. وقد يحدث أن تتواصل الاحتفالات لسبعة أيام بلياليها، ويشارك فيها أبناء القرية جميعهم، لمناسبة زواج، كما جرى لزواج قريبيّ ميشال وكاترين. وقد عُد ذلك حدثاً فائق العادة!

وكان ذلك العرس، في العام 1976. ففي طوايا الذاكرة الجماعية، كان ينبغي للاحتفال، أي احتفال، أن ينال من التعظيم ما يناله العرس القروي الطنان، ما دام الإثنان ينتميان الى العصر الذهبي ذاته الذي حطمته الحرب، بعد أن باعدت بين الناس وبددتهم في جهات الوطن ومخابئه ومنافيه.

وكان جدي يجسد، وحده، هذا العالم التقليدي، وقد ذهب صيته، في دير ميماس لأمد بعيد – فصُور للناس، عن حق، رجلاً عادلاً وشديد القسوة في آن، حتى الفظاظة. ذات يوم، وبينما كان عمي "نايف" يمازحني بأن أجلسني، أنا إبنة الأربعة أعوام، على طاولة المطبخ، وأخذ يدعوني الى الرقص ويجعلني أتمزز قليلاً من العرق من كأسه، وكنت أحب العرق، رغم كونه مشروب الكبار ممنوعاً على الأطفال، إذ دخل جدي على حين غرة، مفاجئاً عمي وممازحته، فما كان منه إلا أن وجه له ضربة موجعة، وهشّم قدح العرق أرضاً، ولم يزل حتى صفعني، بدوري. وظل في نفسي خوفٌ منه، على الدوام، ولم أكن استثناءً في العائلة. ذلك أن جدي نشأ على هذا النحو، متجرئاً على ضرب من يشاء من أبنائه، سواء أكانوا فتياناً أو فتيات. وما كانت كنائنه بمنأى، على الدوام، من إحدى لطماته العنيفة. ولما كان فلاحاً، في أغلب سنوات عمره، ورث في أيام شيخوخته مهنة رآها على قرد طباعه: ناطور الكروم منعاً من السرقة. ولم يجرؤ أحد من القرية على الشك بتيقظه الدائم وسهره على ما ائتمن عليه.

وإذ كان قد ولد في أوائل القرن العشرين، أدرك جدي عصر الانتداب الفرنسي على لبنان، وما بين الحربين العالميتين. وظل يحتفظ، في أغوار صندوقه حيث وثائقه، بشهادة ولاء عزيزة للسلطات المحتلة إبان خدمته العسكرية. وبقدر ما كانت جدتي، سليمة، تبدي امتعاضاً وتذمراً من هذا الحزب أو ذاك، لفرط ما كانت السياسة آخذة بلبها، بقدر ذلك رأيت جدي واقفاً على الحياد. وكأنما بغير مبالاة من السياسة. مع ذلك، نشأت بين الجدين منازعات. وكانت هذه الأخيرة تحملها على الاختلاف الحاد. ففي الماضي البعيد، كان "حنا" يبدي تقديراً بالغاً للنائب، أحمد بك الأسعد، وهو كبير إقطاعيي الجنوب، وكان عرضة للسخرية من زوجته سليمة التي كانت لا تزال تذكر ذلك الجواب المتعجرف الذي أجاب به النائب الشهيرر المذكور معترضاً به على مطلب الفلاحين بضرورة افتتاح مدرسة في القرية، وهم مقبلون على انتخابه "إن ابني كامل، يدرس، وهذا يكفينا".

ومرت السنوات الطويلة، وظلت جدتي تؤدي لنا هذا المشهد، بنبرة الاستنكار نفسها، لأمد بعيد.

لم تطل إقامة والدي في بيت أبيه، فترك القرية الى المدينة. وحين أجول في دير ميماس وأُسأل عمن أكون، وابنة أي "بشارة" أكون، أرد بأني ابنة "فواز"، فلا أجد في قسمات السائل ما ينم عن معرفته صاحب الاسم. ونادراً ما زار أقاربه، على عكس والدتي "نجاة"، التي ظلت على صلات وثيقة بأقاربها وبأصدقائها. صلات كانت تجهد في تمتينها كلما تسنى لها ذلك، أيام العطل. إنما يجدر بنا القول إنه أتيح لها التردد الى القرية أكثر مما تسنى لوالدي، بكثير، ذلك أنه كان مضطراً للبقاء في بيروت لأجل العمل، كلما هممنا، أنا وأخواتي وأختي الأكبر مني سناً، بمغادرة المدينة الى القرية.

ولعل هذه الانطلاقات التي كنا نيمم بها شطر دير ميماس، كانت لنا بمثابة رحلات طويلة، حتى ولو كان ذلك في بلد صغير كلبنان، حيث المسافات بين المدينة والقرية لا تتعدى، إلا في النادر، الخمسين أو السبعين كيلومتراً.

ولما كنا لا نملك سيارة، بالطبع، كنا نجول وفي أيدينا حقائبنا، تقلنا السرفيسات التي كانت تجوب البلاد، الى مقصدنا. وكانت لنا رحلاتنا هذه، صيفاً شتاءً، وفي الميلاد كما في عيد الفصح، مثابة أوذيسة عظيمة التشويق. وكان يلزمنا ثلاث ساعات أحياناً لنبلغ قريتنا، مع ما تقتضيه الطريق من محطات إلزامية نقف عندها، ومن دروب كثيرة التعرج، كلما بلغنا نتوءات شديدة الانحدار في أعالي الجبال. ففي صيدا، كنا نستوقف السرفيس لنشتري الحلوى، وفي النبطية، وقفة ثانية لشراء اللحم، ونكون قد حملنا معنا الخبز من بيروت، وكان خبزاً "عصرياً"، إذا صح التعبير، وكنت أستلذه أضعاف ما يستلذ أهلي الرغيف الذي كان يخبز لدى جدي، هذه المعجنات أو "الطلامي" الضخمة التي تشوى على الصاج الذي أوقدت ناره بزبل البقر الجاف.

إلا أننا، والحق يقال، لم نكن نعود الى بيروت، من دير ميماس، فارغي الأيدي، ولا سيما في نهاية فصل الصيف. ففي أيام الصيف الطويلة، كنا نزرع، وفي أواخرها تحصد الأيدي ما زرعت من خضرة وفواكه على أنواعها، مما كانت زراعته شائعة، وكان استهلاكه محلياً. ولم يكن أي بيت في القرية مهما صغر، معدوماً من قطعة أرض مستغلة للزراعة. والأرض معطاء، وكل نبتٍ يلقى منها قبولاً وحياة: الذرة، والبندورة، والباذنجان، والكوسى، والبصل، والصعتر. بيد أن صيت دير ميماس الزراعي جار على جودة زيتونها.

الى اللقاء في الحلقة القادمة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى