الباعث الحثيث على رفض التوريث
ربما يستشف البعض من هذا العنوان أن المقال سيكون سياسيا ولكنه مقال اجتماعي بالدرجة الأولى، فالتوريث داء أصاب مجتمعنا ربما منذ قيام الجمهورية، وارتبط بكينونة الشعب وحرصه على الأفضل لأبنائه، وهو مما جُبِلَ عليه الإنسان، فهناك التوريث المالي والعلمي والثقافي والاجتماعي والديني، وربما يكون النوع الوحيد المقبول في نفس كل شخص هو التوريث المالي وهو الذي شرعة الله سبحانه وتعالى وسن له أصولا يقوم عليها، أما ما عداه فقد سنه الإنسان لنفسه كما ذكرت حرصا على أن ينال أبناءه ما ناله من الخير.
إننا نرى التوريث أمام أعيننا يوميا ولا ننكره أو ربما ننكره على غيرنا ولكن عندما يتعلق الأمر بنا فإننا نجد أنفسنا منساقين وراءه بدعاوى عاطفية بحته، فنرى الأستاذ الجامعي يحاول أن يجعل ابنه أستاذا جامعيا والطبيب يحاول أن يصبح ابنه طبيبا والصيدلي كذلك والقاضي وغيرهم كل يحاول أن يورث ابنه مهنته وموقعه الإجتماعي متغافل عن أحقية ابنه وكفاءته في هذه المهنة أو أحقيته بهذا الوضع، فتختل معايير الاختيار وتصبح المصائر في أيدي من لا يقدرها أو يعبأ بها، وهذا الأمر موجود حتى في الأنظمة لا الأفراد، فتجد أولوية التوظيف لأبناء العاملين، فلا نجد غرابة في أن يحاول الوزير أن يجعل ابنه وزيرا والرئيس أن يجعل ابنه رئيسا فهو أولى في نظره بهذه النعمة والسلطة والمكانة الإجتماعية، وحتى أولائك الذين يرفضون التوريث السياسي قولا وربما فعلا، سيجدون في دواخلهم مُبَرِّراً لهذا التوريث إذ أنهم في قرارة أنفسهم يقبلونه لأنفسهم وأولادهم فيكون الحرج إن هم رفضوه لغيرهم، ويكون قبوله مُبَرَّراً عندهم.
فإذا كان التوريث مما تأصل في ذاتنا ومجتمعنا فإن رفضه الفجائي –كما هو حالنا الآن- غير ذي معنى، فالشارع مهيء لهذا التوريث فهو مُوَّرِثٌ أصلا، ولو أن هذا الأمر غريب عليه مستهجن لوجدنا النظام في مواجهة حقيقية مع شعبه، كما هو الحال لو تعرض أحد لثابت من ثوابت الدين أو المجتمع، لقد أصبحنا أُسَراءَ أخطائنا وطمعنا ورغبتنا في الاستحواذ وإعطائنا الحق لغير أهله بدوافع مزعومة من المحبة والعاطفة، فأصبح صوتنا مكتوما وإن أَسمَعَ فإنما يًسمِعُ آذاننا وحسب، ولا يمكن أن يصل إلى أبعد من هذا حتى نطهِّرَ أنفسنا من هذا الداء ونرفضه في أنفسنا وأهلنا وأقربائنا ومجتمعاتنا وألا نختزله في هذه الصورة التي وإن رآها البعض كبيرة نظرا لحجم المكانة إلا أنها لا تتعدى كونها صورة من صور هذا الداء الذي استشرى فينا، وكذا كل داء أصبناه وأصابنا منه فإنه لا يرفع حتى نرتفع عنه.