الأحد ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم الهادي عرجون

البطل المحوري و رمزية الأرض في رواية «الأرض النائمة»

من الجميل أن تخرج و أنت الشاعر من حصار الكلمات إلى فسيح الرواية فحين بدأت قراءة رواية"الأرض النائمة"الصادرة سنة 2017 عن دار الثقافية للنشر بالمنستير في 134 صفحة لسهام بن رحمة التي عرفتها شاعرة قبل أن أكتشف أنها روائية، وضعت نصب عيني أفكار مسبقة لمحتوى الرواية بأحداثها و شخصياتها و هل يمكن لشاعر أن يجد نفسه في فسحة أرحب من الشعر لإيصال ما يرمي إليه من أفكار و لكن العنوان جعلني بين متناقضات عدة، و كذلك المدخل الذي بدا لي شعريا و أناأتصفح دفتي الكتاب"الأصوات في ليل البلدة الطويل خيول دائبة، تتقدم بحوافر الخيال المتعب نحو منافذ ذاكرتها المشرعة على الاستسلام، تستفزها حركة المصابيح الخافتة في البيوت"(ص9).

"الأرض النائمة"هذا العنوان الذي ورد في آخر الروايةو التماهي بين الأرض النائمة كرمز"و تعلقت قلوبنا المؤرقة بما يشبه أرضنا النائمة..."(ص129) و بين قلب الهاشمي الذي يشبهه بالأرض النائمة"أنا النائمالذي جعل قلبه على مثل مشفر الأسد...قلبي الذي ظل أرضا نائمة على كنوزها، كاد ينفجر كالبركان بمجرد توهم نار قريبة ستدفئ مساربه الباردة..."

(ص129).لينفجر بركان الأرض (البئر) بعد أن انفجر بركان الهاشمي و لكن هذه المرة على أرض نائمة على كنوز من الذهب الأسود"يبدو أن أرض البئر كانت نائمة على كنوز من الذهب الأسود..."(ص135).

كما يمكن القول أن الكاتبة كانت في روايتها على الأغلب كلاسيكية إن صح التعبير في رصدها للواقع الاجتماعي المعيش، و تناول قضاياه. حيث اختارت الكاتبة نمط الكتابة الكلاسيكية و هذا ليس عجزا أو تقليدا بقدر ما هو نمط لتجسيد الواقع دون مساحيق أو تضمينات فهي تفضح الواقع و تعري المجتمع و تفتح نصها لنقد الواقع. يقول لافنتين:"إنك إذا اخترت طريقا آخر غير طريق القدماء فسوف تضل"فباعتماد الكتابة الكلاسيكية للرواية أو التقليدية لا يتم إلا بدراسة مؤلفات القدماء، لأنهم كانوا أقرب إلى الطبيعة خاصة و أن منجزاتهم و مؤلفاتهم التي أنجزوها قدرت أن تصمد أمام المتغيرات السياسية و الاجتماعية و الأخلاقية و الفنية لأنها تحتوي بالأساس على الكوني و الإنساني في كتابتهم.

فبتقليد القدماء على رأي لافونتين تستطيع الإستمرار بالحياة في الأجيال القادمة فبالعقل الذي يبعدنا عن المبالغة في التعبير عن آلامنا و أفراحنا و به نميز بين الحقيقي و المزيف و النسبي و المطلق و كذلك الخاص و العام الذي يعتمد في أحكامه على ما هو شامل و بسيط في الطبيعة الإنسانية فبرزت"الأرض النائمة"رمزا للحديث عن التهميش و البحث عن الانتماء و نقد لواقع الحياة و المجتمع.

و لكن مع كل هذا جعلت من أسلوب السرد التقليدي مطية حيث اختارت سرد الأحداث من صفحتها الأولى لتستمر في تسلسل يتناول السرد بالترتيب الكلاسيكي لتنتهي ألأحداث في الصفحة الأخيرة، مع العلم أن السرد الحديث قد تجاوز هذا الأسلوب الذي يصفه البعض بالأسلوب الرتيب.

شخصية البطل:

يمكن القول في البداية أن تصميمشخصيّة"الهاشمي"المحورية في رواية"الأرض النائمة"لا يمكن أن يكون قد أتى بعفوية الكاتبة بل جاء بعد خضوع هذه الشخصية لجملة من الشروط منها أن هذه الشخصية مستوحاة من عمق واقع الريف التونسي فيشكلهاومضمونها و أفكارها وحتىتطلعاتها، يجد نفسه في صراع نفسي إما أن يتحدى المفاهيم و العادات والتقاليد و الأخلاق أو أن يبقي على وقاره و يحفظ شيبته بأن يسلك طريق النجاة و مع هذا نجد القدر يتدخل من أجله و ينقذه في النهاية"هكذا يفر الناس في معظم خطوبهم حتى إلى تحليل الحكمة الإلهية لدرء الشك و ليهونوا على أنفسهم جهلا سليطا ثم يسلموا بالواقع تسليما آمنا لا تشوبه الرغبة في التغيير..."(ص123).

الروائية سهام بن رحمة تفتح للقارئ نافذة يرى من خلالها جانبا من حياته وحياة الآخرين، كما تدفعه إلى التأمل والتعاطف مع شخصيات الرواية و بالمكان، وفي بعض الأحيان إضاءة جانب معتم من عالمه (الوطن) وبالتالي الكشف عما كان خافيا عليه في منظومة الحياة والمجتمع. (قيمةالإنتماء للوطن، التهميش...)

كما يرمز بطل الرواية الشيخ (الهاشمي) الذي يعتبره سكان القرية كما عبرت عن ذلك الكاتبة"هو الشيخ الهاشمي سلطانهم و معلمهم و إمامهم و كل السلط كانوا قد أودعوها إياها عن طواعية و طيب خاطر"(ص13). و هو شخصية تحاول العيش بقناعاتها الداخلية مدفوعة بمصداقية مشاعرها الداخلية تجاه سكان القرية، و لكنه في النهاية يختار التضحية بكل ما لديه و بقناعاته من أجل تلبيته لنداء الحب الذي خذله في النهاية و الذي كان من أجله أن يخرق القوانين و النواميس و العادات و التقاليد من أجل هذا الحب الزائف.

شخصية الشيخ"الهاشمي"تذكرني بشخصية (سي السيد) أو السيد أحمد عبدالجواد التي برزت في ثلاثية (بين القصرين - قصر الشوق – السكرية) للروائي المصري نجيب محفوظ (1911 2006)، التي جسد فيها الشخصية الإيجابية من الظاهر تبعا لرؤية المجتمع و السلبية من الداخل. إلى جانب تعامله مع المحيط بوجهين متناقضين فمع العالم الخارجي تجده مرحاً وبشوشا وفي عالم أسرته متجهماً ومكفهر الوجه، أما الشيخ الهاشمي فقد كان أمام الناس يتعامل بوقاره و سلطانه"شغل الشيخ كل المناصب لإدارة المنطقة، سلطة دينية و مالية و فكرية...يسلم له الجميع زمام كل الأمور راضين قانعين،... فلا أحد يرضى بأن تكون كلمته فوق كلمة الشيخ، و كأن ذلك نوعا من الشرك..."(ص40)، و أمام"حسن"تراه يذوب شهوة و حبا"حدثني عن الحب يا مولاي...قالت حسن و هي تقرب أنفاسها من وجهه، و ترمي بيديها بين يديه الدافئتين. و قال: كيف وجدت راحتي؟دافئتين كعش هاني...هذا هو الحب...عش هانئ و مريح لقلبين مغرمين...معلق بين الأرض و السماء على جذع القدر..."(ص108)، لدرجة أنه قرر الهرب معها و ترك القرية و ما فيها، و على الرغم من بعض الإختلاف في الشخصيتين إلا أنها يشيران إلى الوقار و الاقتداء و قوة الشخصية.

فشخصية الشيخ الهاشمي شخصية تعيش في ثورة عذابات ملك قلبه و جعلت عقله في حيرة لم تنته إلا باكتشاف أمر حسن"دعني أبكي أنا أيضا يا ولدي...لقد كدت أسقط منذ قليل في واد سحيق...لولا رحمة ربك بعباده الضعفاء..."(ص120).

الهاشمي الذي لا يحب الليل حتى أنه غير اسم الخادمة"ليلى"باسم"صبح":"لم يعجب الشيخ اسم"ليلى"، فكان يصر على مناداتها بـ"صبح"و يقول مازحا أنه يكره الليل، و يتفاءل بالصبح..."(ص39) مع ذلك قرر الهروب بالليل و لكنه في النهاية انتظر الصبح ليعود"أيها الليل... أنا العاشق فيك و ليس لك...لك لذة الصمت و صوت الذاكرة المفتوحة على شبق الأهواء،... و ما زلت أراني مسجونا في ثوبك الطويل، أطل من كم صغير على قامة لا أرى نهايتها، فأعترف لك بالعظمة...و لكن الصبح أحلى..."(ص41).

الشيخ الحكيم:

و لا يختلف القارئ في تحديد رمزية الشيخ الهاشمي الذي بدا على طول فواصل الرواية رجلا حكيما يتحدث في مشاكل الدين و السياسة و كل ما يهم الناسبأسلوب بليغ ينم عن حكمة و شخصية تجيد أسلوب الخطاب في مختلف المواضيع التي تطرع عليه حيث يجيب عن سؤال حول العقل و العاطفة بقوله"العقل و العاطفة رئتا فكر البشر، متى ما نفخت من هواك و ميولاتك ينساب في كيلهما إن عكرا أو صافيا. هذا الفصل بينهما ليس بترا ساذجا للحقيقة"(ص20). أما عن البر فيقول:"اسمعوا يا أبنائي و إخواني، إن الصبر حيلة من لا حيلة له، وما حيلة الرامي إذا انقطع الوتر..."(ص21).

و في موضع آخر يتحدث عن الثورة فتتجلى الحكمة و اختياره للكلمات مما يجعل القارئ أمام موضع شك أمام هذا الواقع و الذي نلمس من كلامه الكثير من النقد و عدم الرضى كأنه يقرأ مستقبلا مجهولا عن الثورة"إن الثورة من واقعها، لكن لا واقع لنا نشرب منه أمرنا، بل نحن من الذين سيحلو لهم أن يقفوا في رأس الطابور المنتظر لأي شيء غريب لا علاقة له بهذا الواقع..."(ص23).

ليصف بعدها الفتنة بكونها نائمة تنتظر من يوقظها:"الفتنة نائمة، سنوقظها هذه المرة لنعمل صالحا ينقذنا مما نحتن فيه، إن القوم يبيعون أنفسهم مقابل المصلح، و المصلحة تستدعي أن نستدرجهم..."(ص23). و لكن هذه الفتنة لا للتشتيت بقدر ما هي لصالح المجموعة (القرية) حتى يوقنوا أن لديهم مصلحة هامة في هذه الأرض المهملة.

كما تتجلى الحكمة أيضا في عدة مواضع أهمها عندما يتحدث عن الحكم حيث يقول:"فكل من يجلس على كرسي الحكم و لا يعرف أنه إنما يجلس على حزمة من اللهب فهو أحمق لا يعرف أنه إنما يجب أن يحوم حول هذا الكرسي قياما و قعودا، و على جنبيه و ظهره، و أن يزحف تحته و يتمرغ بين قوائمه دون الإطمئنا إلى ملمسه المخمل، لأنه بهذه الرؤية الفاسدة لا يستجق ما يجلس عليه و يكفي أن يتمدد على أريكة بيته..."(ص30).

رمزية الأرض:

و كان لابد من وجود رابط رمزي يطرح أسلوب الكاتبة ويميزه ليقترن بالفكرة ويخضع لمجمل الانفعالات الوجدانية و يعبر عن الذات و عن الهوية و البيئة التي تميز المنجز الفني التي يمكن اعتبارها بمثابة لغة تعبر عن الواقع المعيش فاختارت الأرض كرمزية تعبر من خلالها الكاتبة عن ذاتها، و بالتالي نتجاوز الفعهم المباشر و السطحي الذي يعني المكان و ما حواه ليتحول إلى رمز تعبيري المقصود منه الكيان و الإنسان و الوجود بالإضافة إلى الهوية و التراث و البيئة و الأفعال اليومية المعيشية ليتداخل الذاتي بالجماعي ليعبر في ذات الوقت عن الوطن.
فالأرض لا تأخذ رمزية الوطن و سيرة العلاقة مع ترابه و رقته الجغرافية فحسب، بل هي في المقام الأول تقدم صورة الفرد في المجتمع و بالتالي تعكس جانبا مهما و كبيرا من شخصيته كما يمكن اعتبارها انعكاس لهوية الانسان التي تتجلى في مختلف الفنون الإنسانية عموما. فالرواية تعري الواقع بكل ما فيه من متناقضات تعالج قضايا الانتماءو التهميش"شبح المعاناة تجذر في المنطقة الصغيرة المحرومة، فانعكس بؤسها على الأهالي و نال ما نال بلدتهم من الإهمال و التهميش كأنهم لا ينتمون إلى كوكب الأرض، و لم تصل إليهم"حضارة"التجمعات السكانية الأخرى على غرار القرى المجاورة. و تعري الإنسان أمام الواقع لتسقط الأقنعة"أولئك الذين لا يجدون شيئا يستحق العيش من أجله يخترعون دائما ما يستحق الموت في سبيله، هذا هو ما يجب أن يكون حقا..."(ص20).

وحتى لو انحسرت صور الأرض في واقعها تبقى أيضا ميزة إبداعية يطوف حولها مختلف الفنون، و تبقى خصوصية الأرض تميز المبدع و تعبر عن ذاته و هويته التي تعبر عن هوية المجموعة التي ينتمي إليها، فالأرض رمز و كيان و هوية. يقول محمود درويش في قصيدته"الأرض"و قد اخترت هذا المقطع:"في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرضُ أسرارها الدموية. في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات. وقفن على باب مدرسة ابتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ. افتتحن نشيد التراب"

و في الختام يمكن القول أن الرواية اقتربت من الواقع و ابتعدت عن نزوات الخيال فبرز الحقيقي الجميل و الطبيعي الممتع فيها و هو ما جعلها رواية كلاسيكية مستوفية الشروط لإهتمامها بداخل الإنسان و الملامح المشتركة التي يلتقي فيها البشر باجتماع طرفي الانساني و الأخلاقي في رواية"الأرض النائمة"التي عالجت جملة من الأحوال الإنسانية كالحُبّ والبغض والهوى والغيرة والعقل والواجب والعاطفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى