شعرية الماء ووشوشة الريح
من خلال المجموعة الشعرية (شفاه الريح) نموذجا للشاعرة أسماء الشرقي
تطل علينا بثوب مجموعتها الشعرية (شفاه الريح) التي يغلب على غلافها الاعتدال والصفاء بتناغمها مع لوحة فنية تعكس مظاهر الحرية والانعتاق والتحرر حين تفتح بريشتها وترسم بقلمها أفقا جديدا نحو الخيال، بألوان مختلفة تعبر عن لون الروح و هالة من الكآبة والانعزال ومشاعر الحزن على الرغم من تصدير كتابها بالقول:" بمنتهى الفرح نعيش كذبة الحزن"(ص5)، قبل أن نغوص في المحتوى وكوامن المجموعة الشعرية الصادرة عن دار فواصل للنشر والتوزيع بيروت لبنان، ضمت بين جوانحها 43 قصيدة أضفت عليها شاعرتنا أنفاسها وأعطتها من عبق روحها ونبضها لتخرج لنا نصوصا تزدحم فيها المشاعر بالإيقاع والوجع بالألم، لتنحت على شفاه الريح أصوات الغياب وتشهد خصومة الماء مع الماء وخصومة الماء مع الريح حين تعطي مفاتيح القراءة التي لا غنى عنها من أجل الدخول إلى عالمها الشعري للقارئ وهو يحاول تتبع نبض شعرها وأنغام كلماتها، ويعري أسلوبها ويكشف أدواتها الشعرية وأسلوبها في التعامل مع النص.
فالمتفق عليه هو أن القراءة الأولى لأي أثر إبداعي يتطلب بدوره قراءة ثانية أكثر إمعانا في النص والبحث في كوامن أي أدب كان شعريا أم نثريا يفتح بصيرتنا على مجموعة من الأفكار والصور نعيشها ونتعايش معها بفكرنا وشعورنا نلاحقها ونغوص في كوامن غموضها وسلسبيل ألفاظها لنعيد رسمها أو قراءة خبايا رموزها.
فنحن عندما نتصفح المجموعة الشعرية "شفاه الريح" تنكشف لدينا بنية المجموعة الشعرية من خلال نسقية الماء المتسم بالحركة والتواصل حين يأسرنا الماء لفظا وروحا وسلسبيلا في جريان الألفاظ باعتماد على رمزية الماء بمعناها الواسع والضيق، أي باعتبارها طريقة في الأداء الأدبي، تعتمد على الإيحاء بالأفكار والمشاعر وإثارتها، بدلا من تقريرها أو تسميتها أو وصفها، حيث نلاحظ تكرار لفظة الماء 22 مرة في كامل المجموعة دون اعتبار الكلمات الدالة على الماء كما أن تكرار الشاعرة لثيمة (الماء) بجميع مرادفاتها ومعانيها، في المجموعة لم يكن أمرا عاديا، وليس باعتبار الماء مكونا طبيعيا فقط، ولكنه دلالي رمزي يحوي كذلك معاني عميقة يستدعيها الموضوع وحالة الشاعرة.
حيث أن الماء لا يناسبه أن يحط من قدره أو ينقص من قيمته، فهو متحرر أصيل، لم يكن يستسيغ أن يحد من حريته، فتكون الشاعرة بذلك قد دافعت عن شعرها وكلماتها التواقة للتحرر.
"هو التاريخ المعمد بماء الخيانات
يرتب أنفاس حروف النداء
لنتعرى، نتناثر في...أحجية مرصعة بشهقات تائهة
هو المد يتهجى الأسماء...
يعتنق هدب النار المورف في الانعتاق..."(ص9)
فالماء له دلالاته عبر التاريخ، في الأديان فكرا وطقسا كما له رمزيته ودلالته وأهميته في التراث الشعري العربي، حيث اعتبر الماء العنصر الأهم في الكون وأصل الخلق، بما ان الماء يمثل معنى الحاجة والحزن والخوف من المجهول حيث يحضر الماء بدلالاته المتعددة في شعرها باعتباره مادة أساسية في الحياة، وفي التأمل الشعري والبوح الفني.
"الماء هودج الذاكرة
فاتحة الرؤيا
وامتداد السر في النوى
النوى فيك...طعم شهد
تسابيح غيمة
تدور على أنغام الشتاء"(ص93).
حين تجمع الماء في شعرها الذي يحوم حولها يبللها يغسل حزنها ويطفئ نار وحشتها وتنير دربها، صيرورة الماء، ومجاز الماء، الذي أذاب مسافات الشمس وغطى ظلام الليل وانساب في أعماقها كجدول يمنح الحياة.
"هي:
الماء هو الماء
أصل الشيء جوهره
هو:
اسقني شربة ماء
ودعك من الهراء"(ص119).
فبلغتها الراقية التي تشكل فيها معاني المعاني داخلها. لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة نسيج تلك النصوص ودلالتها، من خلال بناء اللغة والخيال وانفتاحها على مكوناتها الكتابية والفكرية والجمالية وما تحمله من رؤيا جديدة تكشف عن الغامض والمجهول حين تعتمد على حالات الوعي المباشر تارة، وغير المباشر تارة أخرى.
فقد تطرقت إلى ثيمة الماء، وقيمته المادية والمعنوية في حياة الإنسان، مبتعدة عن النظرة السطحية التي تنطلق من الحقيقة المادية للماء إلى الحقيقته المعنوية المجسدة في إيحائية ضمنية تجعل من الماء مادة لها من الأهمية بمكان في تحقيق الرغبة في البوح والإبداع والتعبير عن المشاعر والآلام.
فرمزية الماء كما أشار إلى ذلك الأستاذ عزيز العرباوي في كتابه (رمزية الماء في التراث الشعري) والذي قدم فيه دراسة سيميائية عن رمزية الماء في الشعر العربي والتي تم نشرها ضمن إصدارات مجلة "الرافد"، حيث بين فيها أهمية الماء ورمزيته ودلالاته المتعددة في التراث الشعري العربي منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، ويؤكد في الدراسة أن الماء في الشعر العربي قد شكل العديد من الدلالات المختلفة والرموز المتعددة من خلال تجلياته الفضائية والمادية والثقافية ومن خلال القناعات الفكرية عند كل شاعر على حده.
فالشاعرة تبدأ بالماء وتعود إليه مع كثافة توظيفه، التي جاءت في سلاسة شعره وانسيابية جعلت نصوصها تسيل رقراقة بعمقها المائي الذي صور حالتها الشعورية في توظيف الماء عن طريق استحداث صور شعرية، حاولت من خلالها ابراز المعنى العميق والموغل في الرمزية والإيحائية للماء.
لتنعطف بنا إلى ثيمة (الريح) مفردة أخرى أكثر صفاء ونقاء وسلاسة لها دلالات العذاب، والدمار، والخراب، والعقم، والجدب، وأحياناً الرحمة والخير، حيث تكررت هذه الفظة حوالي 12 مرة مع استعمال الألفاظ ذات الصلة بالريح، التي تُعدّ من أبرز عناصر الطبيعية التي وجد فيها الشعراء قيمة جمالية وطاقة دلالية للتعبير عن رؤيتهم الحديثة والتي وجدناها تتجاوز معناها المعجمي المألوف لتحمل دلالات جديدة وفقاً للسياق الشعري، أبرزها دلالة التغيير الناتجة من حركة الريح وتقلّبها.
"هم الحضور دون عزاء
وهم الغياب في لوح القيامة
تزهر أسماؤهم على شفاه الريح
تتآكل ملامحهم عند الهبوب الأول للفجيعة"(ص19)
في حين جاءت ثيمة (الرياح) مرة واحدة في صورة مغايرة.
"التاريخ لا يكفي لنفهم أسرار الرياح المقبلة...
نحتاج الانتظار في ثنايا الأمنيات
نحتاج نواقيس قارئة الفنجان
يشق صداها رغوة الغيب المرتقب
لنغني في المنافي"(ص61)
لتتلاحم هذه الرموز وتمتزج بموضوعها الشعري وتتداخل وتتلاحم معه حتى تصير هي ومرموزاتها وجهان لشيء واحدٍ، تنتفي عنها الدلالة العلمية والإشارة اللغوية، ولا يبقى فيها إلا تلك البنية العضوية المتنامية والمتلاحمة آنيا بالمتن الشعري، والتي لا يمكن للمتلقي فهم هذه الرموز إذا تخطاها، لأنها الحاملة لفكرة النص الشعري المتجسدة والمحسوسة.
وهذا التكرار مرده جملة الحالات الوجودية التي تكابدها الشاعرة من وجع وقلق وحزن وألم. للهروب من الواقع، حيث نجد استغلالا جديدا ومتميزا للتكرار اللفظي وهو ما اضطلع بإبراز الجانب الحسي في النص، وهذه الانفعالية المعتمدة بتقنية التكرار (تكرار الكلمات) أدت دورها الوظيفي في تنامي الإيقاع داخل النص الشعري.
وبما أن التكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة والذي جاء في سياق شعوري حزين، وهو رغم تنوعه لم يأت عشوائيا كما قلنا ولكنه جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتركيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث خاصة مع أنسنه لفظ (الريح).
"هتاف الريح الحامل لعواء الثكلى"(ص18)، تزهر أسماؤهم على شفاه الريح"(ص19)، ولا صدق الزمان أنه غريب في ضحكة الريح"(ص40)،"على جبين الريح أقصى على الجبهة"(ص84) ...
كما خصصت الشاعرة قصيدتين متكاملتين للريح تحت عنوان (شفاه الريح) و(أراجيح الريح)، يكمن خيطها الناظم في تتبع حركات الريح ودورها في حركة النص ككائن انساني يتقن الكلام، وهو ما يدخل في إطار أنسنه الطبيعة، بإضفاء صفات الانسان، سواء كان محسوسا ملموسا وهو ما يشير إلى عقلنة الآخر المغاير للإنسان، حيث تظهر هذه الأنسنة في عديد المواضع الشعرية، كما في قوله:" شفاه الريح"(ص18)، "دموع الضوء"(90)، "الناي المهادن"(ص86)، "ضفائر القمح" (ص69).
ولكن هنا لنتوقف عند لفظ الريح في التفسير الديني، لماذا لفظ الريح وليس الرياح إذا نظرنا للمنظور القرآني الذي يشير أن لفظ الرياح يدل على موضع الرحمة في القرآن، والرياح يأتي منها الفوائد الكثيرة، مثل إصلاح الهواء، وإثارة السحاب، ونزول المطر، أما لفظ الريح فيدل على معنى العذاب والهلاك، حسب المفسرين. فالشعر يحملنا على بساط الريح مع صيرورة الماء وانسيابه بلغة تصور ما لا قدرة لنا على تصويره ومن حدث يفجر سؤال المعرفة الذي هو نقيض السكينة والرضا فما أشبه الشعر بالماء عندما تداعبه الريح ليبعث الحياة.
إذ بدا حضور (الريح) و(الماء) مرهونا بحضور (الموج)، موج ضاحك(ص23)، فتنة الموج(ص35)، موجة سهوي(ص38)، أجنحة الموج(ص49)، عتاد الموج(ص97)، رفوف الموج(ص99)، حكايا الموج (102)، يلاعبها الموج(ص109).
كما حاولت الشاعرة أسماء الشرقي من خلاله ابراز المعنى العميق والموغل في الرمزية والإيحائية للماء والريح على حد السواء، لتنعطف بنا مع هذا إلى معجم الحزن.
"وبرغم الصمت أبقى
لحن طيف في متاهات العيون
أرسم الوقت على قيد غيابي
في مساحات الزمان
وبحزن يشبه الأوجاع في جرح الوطن
أقتفي فجرا شفيفا
وبدفء مثل آهاتي دفين
ينتمي كلي إلى بعض الخطايا"(ص15).
وهذا الحزن ولد لدى شاعرتنا غربة تحاول الخروج منها فهي كالريح تترنح عنوة في مخيلة الوقت تصارع ذاتها وانفعالاتها وهذا ما يعكس ألوان الحزن والشجن المصاحب لإيقاع النص والذي جعلها غريبة عن جسدها، وعلى الرغم من شعورها بالقلق فهي تصطدم بالغياب فلا أمل للرجوع ولكنها تحاول الخروج من مساحات الزمان ومن غيمة الصمت والماضي المحزن ومع هذا فهي تبحث عن الدفء الذي يقتل الخوف ويقتفي أثر الخطايا التي تنتمي منها إليها.
وهذا يؤكد فرضية الدراسة حول قصدية الماء والريح في قصائد أسماء شرقي إذ نجد إن مصير هذه العلاقة بدا سائرا نحو القلق والحزن المغموس بالفرح الطفولي لأنه مقترن بحضور الطفولة فالماء هنا هو تلك القبسات التي تتكون في ذاكرة الإنسان الطفولية حيث نلاحظ أن ثيمة (الذكرى) حيث تكررت هذه اللفظة في المجموعة الشعرية بمختلف اشتقاقاتها اللفظية 17 مرة تكررت في المجمل لتخرج في شكل صور تذكارية سواء كانت تلك الذكريات من ذاكرة أو ذاكرة الانسان وحافظته ومخزونه المعرفي التي تمتلكها الشاعرة، مع العلم أن الإنسان لا يمكن مهما كان أن يعيش بدون تلك الذاكرة التي تحدد واقع الانسان وحياته المستقبلية عمليا واجتماعيا وإبداعيا.
وفي الختام يمكن القول إن نص أسماء الشرقي كشف عن روح شاعرة أبحرت بنا نحو عوالم داعبتها الريح بنسماتها ورشت عليها برذاذ من زلال الشعر وماء الكلمات، وصبغت لونها الشعري بألوان من الأحزان والأشجان وهو ما يعكس الحالة النفسية للشاعرة أثناء كتابة نصوصها والتي جمعت فيها من مدام شعرها ومن نبيذ كلماتها عسلا شعريا طيبا سائغا للقارئين.